وقّع الرؤساء الثلاثة في تونس على دستور البلاد الجديد، بعد أن توافقت مختلف الأطراف السياسية عليه. بذلك، قطعت تونس شوطًا آخر في مسار التأسيس لجمهورية ثانية يحلم بها التونسيون. بينما اتجهت معظم القراءات إلى تحليل وتفصيل النظام السياسي الذي نص عليه الدستور، والخوض في أكثر المسائل إثارة للجدل، مثل "تحجير التكفير" و"حماية المقدسات"، بات من الضروري تقديم قراءة لأهم المبادئ التي وردت فيه، ومدى قدرتها على ضمان الانتقال إلى الديمقراطية.
مدنية الدولة في مبادئ فوق دستورية
تضمّن الدستور الجديد تفريقاً بين فصوله باعتماد مبادئ فوق دستورية. والمبادئ فوق الدستورية هي أحكام قانونية غير قابلة للتغيير أو الحذف مهما طال الدستور من تعديلات. بالتمعن في الفصول التي صارت محكومة بهذا المبدأ، نلاحظ أنها في طليعة الدستور، وتتعلق بتعريف الدولة التونسية "دولة حرة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها"، والتأكيد على مدنيتها "تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة وإرادة الشعب، وعلوية القانون". بعد الجدل الطويل الذي ميّز المراحل الأولى من صياغة الدستور حول الشريعة واعتمادها مصدراً من مصادر التشريع، جاء الفصلان الأولان من الدستور الجديد ليقطعا بشكل كامل مع إمكانية الخلط بين الدين والدولة، أو التشكيك في مدنيتها. هذان الفصلان يضمنان عدم التراجع عن خيار المدنية مستقبلاً لأنهما محكومان بمبدأ يمنع تغييرهما بأي شكل من الأشكال.
عدالة اجتماعية وتمييز إيجابي بين الجهات
أكد الدستور الجديد، في أكثر من موقع، على أن تضمن الدولة "العدالة الاجتماعية، والتنمية المستدامة، والتوازن بين الجهات"، وفي ذلك وعي بأهم الأسباب التي أدت إلى اندلاع الثورة التونسية في ديسمبر 2010، وخاصة ضعف مؤشرات التنمية في المناطق الداخلية، وتفشي الفقر والبطالة فيها. كما تبنى الدستور مبدأ "التمييز الإيجابي" بين المناطق، وفي ذلك تأكيد واضح على أن تسعى مخططات التنمية القادمة إلى إصلاح الفوارق الواضحة بين الجهات لتحقيق عدالة اجتماعية أشمل. وفي بعض فصوله الأخرى، ركز الدستور على ضرورة "دعم اللامركزية واعتمادها بكامل التراب الوطني" مع ضرورة ترشيد استغلال الثروات الطبيعية، وفي ذلك تأكيد على منح السلطات الجهوية والمحلية هامشاً من سلطة اتخاذ القرار. ولأن أغلب ثروات البلاد من الموارد الطبيعية موجودة في مناطق لا زالت تعاني التهميش، فإن التأكيد على مبدأ اللامركزية ربما يساهم في تسريع نموها.
تفصيل في الحريات العامة والأساسية
تميّز الباب الثاني من الدستور الجديد، باب الحقوق والحريات، بالإسهاب في تعديد الحريات العامة والخاصة التي يجب أن تكون مكفولة لجميع التونسيين، منها حرية المعتقد والضمير والرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر، وتكوين الأحزاب والنقابات والجمعيات، والحق في الاجتماع والتظاهر، والنفاذ إلى المعلومة... كما نصّ الدستور على التزام الدولة "بحماية الحقوق المكتسبة للمرأة" وضمان "تكافؤ الفرص" بينها وبين الرجل، و"إرساء مبدأ التناصف في المجالس المنتخبة"، وهي خطوة أخرى هامة نحو تكريس المساواة التامة بين الجنسين. وفي خضم الجدل الحاصل في تونس منذ وصول الإسلاميين إلى السلطة، حول إمكانية التراجع عن مكاسب المرأة التونسية، يُعتبر إقرار مبدأ التناصف تأكيداً قوياً من السلطة التشريعية على ضرورة تكريس حقوق المرأة بما يتيح لها مساحة أكبر من مسؤولية القرار في جميع المناصب الوطنية، وفي ذلك أيضاً استمرار وتكريس لتجربة تونسية رائدة تعود بدايتها إلى دولة الاستقلال الوطني في أواخر خمسينات القرن الماضي.
مراقبة دستورية القوانين وتكريس استقلالية القضاء
أنشأ الدستور الجديد محكمة دستورية "تختص دون سواها بمراقبة دستورية مشاريع القوانين" لضمان تطابق النصوص الجنائية وغيرها من النصوص القانونية مع المبادئ العامة للدستور، وأكد بشكل واضح على أن "القضاء سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل، وعلوية الدستور، وسيادة القانون"، وأن "القاضي مستقل لا سلطان عليه في قضائه لغير القانون". يُعبر هذا الحرص المتكرر على عدم المساس بالمبادئ التي وضعها الدستور وعدم التدخل في عمل القضاء على وعي لدى السلطة التشريعية بضرورة تكريس مفهوم دولة القانون، والاستفادة من تجربة الماضي بمنع تدخل السلطة التنفيذية في شؤون القضاء وتطويع مبادئ الدستور لمصالح شخصية وحزبية ضيقة.
هيئات دستورية مستقلة
خُصص جزء هام من الدستور الجديد لإحداث خمس هيئات دستورية مستقلة، هي على التوالي هيئة الانتخابات، هيئة الاتصال السمعي البصري، هيئة حقوق الإنسان، هيئة التنمية المستدامة والأجيال القادمة، وهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد. تسعى جميع هذه الهيئات إلى تعزيز العمل المستقل في المجالات المذكورة، وتتمتع "بالشخصية القانونية والاستقلالية الإدارية والمالية"، وتتكون من أعضاء "مستقلين محايدين من ذوي الكفاءة والنزاهة". سوف تساعد هذه الهيئات في تنظيم العمل في بعض المجالات الحساسة، وخاصة الانتخابات والإعلام، بما يحول دون تدخل السلطة التنفيذية فيها، وبما يكرس مبادئ الشفافية والديمقراطية.
قد تتعدد قراءات وتحاليل الدستور التونسي الجديد، وقد يوجد اختلاف بينها في تثمين النقاط الإيجابية فيه، ولكن لن يختلف إثنان في أن كل الإيجابيات التي يمكن رصدها تبقى حبراً على ورق ما لم تقترن بقوانين جديدة تعكس المبادئ المضمنة في الدستور، وبسياسات ديمقراطية تكرس احترام حقوق الإنسان.
بالنظر إلى التجربة الدستورية في تونس، نلاحظ أن الدستور الجديد هو ثالث دستور في تاريخ البلاد، بعد دستور 1861 (أول تجربة دستورية في العالم العربي) ودستور 1959، وما جاء به من أحكام ريادية في مجال الأحوال الشخصية. هذا التعدد في النصوص الدستورية لم يق التونسيين شر الانقلاب على المبادئ السامية المضمنة فيها، ولم يمنع حكام البلاد من التعدي على القوانين. لذلك يعتبر إقرار الدستور الجديد مجرد خطوة في مسار طويل، يمرّ عبر ترجمتها إلى قوانين تفصيلية دقيقة وتحويلها إلى سياسات ديمقراطية ملموسة.
نشر على الموقع في تاريخ 28/01/2014
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين