حين شدّ آركي وكيم روزفلت الرحال نحو الشرق الأوسط عام 1947، كانت سوريا وجهتهما الأساسيّة. ظاهرياً، أراد الاثنان زيارة القلاع الصليبيّة التي تملأ البلاد، لكن الهدف من وجودهما هناك كان أكثر استراتيجية. في ذلك العام، بدت سوريا بالنسبة للولايات المتحدة بالأهمية نفسها التي شكلتها للصليبيين قبل ثمانية قرون.
ومن دمشق، بدأت قصة تدخل الأمريكيين الطويلة في الشرق الأوسط، ويبدو أنها ستنتهي هناك كذلك. فكرة البداية والنهاية حضرت في كتاب الباحث الأمريكي جيمس بار المنشور حديثاً بعنوان "لوردات الصحراء"، ويوثق فيه مفاصل 25 عاماً من الصراع الذي دار بين الولايات المتحدة وبريطانيا للسيطرة على الشرق الأوسط.
يأتي الكتاب في وقت تعيد فيه الولايات المتحدة حساباتها في سوريا، ويتحدث ترامب عن "قرار سريع" بشأن القوات الأمريكية "التي باتت قريبة جداً من إنهاء عملها في سوريا". وكلام ترامب ليس حديثاً فهو، ومنذ مدة، يصرّح بقرب انسحاب الأمريكيين من البلاد "بعدما أنهوا وجود داعش فيها". في مقابل من ينظر للانسحاب باعتباره فشلاً لسياسة واشنطن "التي يُرثى لها"، على حساب الحضور التوسّع الذي رأى بار في كتابه أنه "قد بدأ للتوّ".
وفي هذه المرحلة المفصليّة، يقدّم كتاب بار، الذي نشرت مجلة "فورين بوليسي" مقتطفاً موسعاً منه يخص سوريا (ثمة فصول أخرى في الكتاب تتعلّق بمصر يفيد كذلك الاطلاع عليها)، إضاءة مفيدة على تلك الحقبة التي شغل فيها النفط خصوصاً مكانة مهمة في الصراع، والأهم أنه يشير إلى ديناميكيات الدور الأمريكي في المنطقة وتحديداً في سوريا منذ الأربعينات.
في التالي، بعض ما جاء في كتاب بار عن تلك المرحلة وصولاً إلى اليوم.
رحلة آركي وكيم إلى دمشق
في 18 سبتمبر 1947، تأسست وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية. بعد ذلك بقليل، توجه اثنان من ضباطها وهما آركي وكيم روزفلت، وهما أولاد عمومة ومن أحفاد الرئيس ثيودور روزفلت، من بيروت نحو سوريا للقاء زميل لهما. كان آركي (29 عاماً) قد عاد مؤخراً من طهران - حيث كان ملحقاً عسكرياً - ليستلم مكتب "السي آي إيه" في بيروت، وكيم (31 عاماً) الذي كان يعمل في مكتب الخدمات الإستراتيجية خلال الحرب يتظاهر بأنه صحافي في مجلة "هاربرز". الزميل الذي كان ينتظرهما في سوريا سيتحول لاحقاً إلى أحد أشهر ضباط الاستخبارات الأمريكيين وهو مايلز كوبلاند.
لم تستهدف الرحلة إلى سوريا زيارة القلاع الصليبيّة كما ذُكر، بل البحث عن "المواهب"، وبشكل أساسي إيجاد السوريين المتنفذين الذين كان قد استفادوا من التعليم الأمريكي ولديهم الاستعداد للتعاون معهم في مهمة استراتيجية كبرى.
كان موقع سوريا، أكثر من مواردها، ما جذب الصليبيين في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، فسوريا كانت تقع على الطريق بين أوروبا والقدس. والحال نفسه مع الأمريكيين الثلاثة الذين اهتموا بسوريا لوقوعها على طريق النفط المفترض أن يضخ كميات كبيرة بين السعودية وأوروبا عبر ساحل البحر المتوسط. ومن أجل تحقيق مرادهم، لم يقوموا بتخريب مخططات البريطانيين فحسب، بل تدخلوا في الشؤون المحلية للمنطقة.
التهديد البريطاني
قبل عقد من وصول آل روزفلت إلى سوريا لم تكن فكرة تحوّلها إلى ساحة صراع بين الولايات المتحدة وبريطانيا واردة. سابقاً، كان الفرنسيون هناك بينما اقتصر الوجود الأمريكي على الأنشطة التبشيرية. ولكن اكتشاف شركة "آرامكو" للنفط عام 1938 في السعودية غيّر المعادلة.
على الرغم من أن الإنتاج كان مقيدا في البداية بسبب الحرب، لكن في عام 1944 توصل الجيولوجي البارز إفيريت لي ديغوليي إلى نتيجة مذهلة، حيث أعلن أن ما يصل إلى 100 مليار برميل من النفط يقبعون تحت صحراء المملكة العربية السعودية.
كان لهذا الاكتشاف تداعيات عميقة بالنسبة للأمريكيين، لأن علاقات "أرامكو" مع الملك السعودي عبد العزيز بن سعود، الذي منحها الامتياز في المقام الأول، كانت سيئة إلى حد ما. كانت الحرب قد قطعت "أرامكو" عن سوقها في الشرق الأقصى بالدرجة الأولى في حين أن نقص الصلب قيّد خططها للتوسع. وكانت النتيجة أن الملك، الذي كان يعتمد على زيادة دخل النفط، كان بحاجة إلى الموارد المالية فألمح بشكل دوري إلى أنه قد يسحب الامتياز من "أرامكو" ويقدمه للبريطانيين.
من دمشق، بدأت قصة تدخل الأمريكيين الطويلة في الشرق الأوسط ويبدو أنها ستنتهي هناك كذلك... بحسب كتاب الباحث الأمريكي جيمس بار الذي يوثق لمفاصل 25 عاماً من الصراع بين الولايات المتحدة وبريطانيا للسيطرة على الشرق الأوسط
بعد ثلاثة محاولات فاشلة لإطلاق انقلابات مضادة، اعترف الدبلوماسي الأمريكي البارز في دمشق أنه لم يعد هناك ما يمكن أن تفعله بلاده للحدّ من انجراف سوريا إلى المدار السوفياتي...
في محاولة لإصلاح العلاقة مع بن سعود، اقترحت الحكومة الأمريكية تمكين "أرامكو" من المنافسة في السوق الأوروبية العطشى وتوسيع نفوذها في الأردن وسوريا ولبنان -التي حصلت على استقلالها بعد نهاية الحرب مباشرة، من هنا كانت فكرة بناء خط أنابيب من حقول النفط السعودية إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط.
"تابلاين"... خط التصادم الأمريكي - البريطاني
على الرغم من أن "تابلاين"، كما يُعرف خط الأنابيب، سيتم تمويله في النهاية من "أرامكو" نفسها، إلا أن المشروع بدا جذاباً من الناحية الاستراتيجية لواشنطن: جعل النفط السعودي أرخص من النفط الأمريكي في أوروبا سيضمن إنعاش السعوديين للأخيرة بعد الحرب، بينما تحافظ الولايات المتحدة على مخزونها المحلي من النفط في حالة نشوب حرب أخرى. علاوة على ذلك، فإن هذه التجارة ستجني أرباحاً لـ"أرامكو" ولأصحابها- ومن الاثنين يمكن لأمريكا أن تجني ضرائب.
في خلاصة الأمر، كان خط الأنابيب فرصة أمريكا لتعويض بعض المليارات التي كانت على وشك إنفاقها من خلال خطة مارشال، التي كشف عنها وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جورج مارشال في جامعة هارفارد في يونيو 1947.
كان عائق "تابلاين" الوحيد هو وضعه الولايات المتحدة في موقع صدام مع البريطانيين، بسبب منافسة "أرامكو" لشركة النفط العراقية التي تسيطر عليها بريطانيا، والتي ضخت النفط العراقي من كركوك إلى حيفا، وما يخلفه ذلك من تهديد بمدّ السعودية تأثيرها في المنطقة التي لطالما اعتبرها العراقيون وحلفاؤهم البريطانيون فناءهم الخلفي.
بعد أسبوع من حديث مارشال في جامعة هارفارد، توجه ملك الأردن إلى بغداد وتحدث عن إعادة توحيد سوريا في الاتحاد مع العراق، وهنا ظهر دور كيم روزفلت. في الوقت الذي امتنع البريطانيون عن التعليق سلباً أو إيجاباً على اقتراح الملك الأردني، تقرّب روزفلت من كبير مستشاري الملك الأردني البريطاني أليك كيركبرايد بصفته صحافياً لـ"هاربرز".
تمكن روزفلت من الحصول على معلومات مهمة من الجانب الأردني حول بريطانيا، وعرف أن الأخيرة تفكر بدعم اقتراح الملك عبد الله، وبجعله ملكاً للاتحاد العربي. كان من الواضح أن أمراً مماثلاً سيثير غضب العراقيين، فمرّر الأمريكيون الخبر إلى الاستخبارات العراقية. وبينما كان روزفلت يتجول مع رفاقه في سوريا، خرجت الحكومة العراقية لتدين علانية خطة عبد الله وتدمرها بشكل فعال.
العائق السوري وحلّ حسني الزعيم
هنأ الضباط الأمريكيون أنفسهم على الإنجاز، لكن ثمة عائقاً سورياً كان لا يزال ماثلاً. في حين أن الرئيس السوري شكري القوتلي أعطى موافقة حكومته على "تابلاين" إلا أن الاتفاق كان لا يزال بحاجة إلى تصديق برلماني، لكن الجهود التي بذلتها "أرامكو" ووكالة الاستخبارات المركزية لدعم المرشحين "الودودين" لانتخابات صيف عام 1947 في سوريا لم تحلّ المسألة.
في 29 نوفمبر 1947، وبعدما صوتت حكومة الولايات المتحدة لصالح تقسيم فلسطين وردود الفعل التي أحدثتها في أنحاء العالم العربي، وضع القوتلي مسألة التصديق على "تايبلاين" في الدرج إلى أجل غير مسمى.
تغيّر الأمر في نهاية عام 1948، حين أكد أحد زملاء كوبلاند في دمشق - وهو ستيفن مايد - أنه وجد الرجل الذي يمكنه إنهاء الجمود. حسني الزعيم كان عقيداً طموحاً في الجيش السوري، ومع استلامه السلطة في 30 مارس 1949، أعلن أنه سيصادق على "تابلاين" بمرسوم بعد أيام فقط.
مع إزالة هذه العقبة الأخيرة، تم الانتهاء من خط الأنابيب في سبتمبر 1950 وبدأ ضخ النفط بعد ثلاثة أشهر.
[caption id="attachment_163678" align="alignnone" width="700"] حسني الزعيم[/caption]مع ذلك، لم تدم منافع أمريكا من الخط سوى لمدة قصيرة، ففي عام 1954، أُطيح بحليف أمريكا الرئيس أديب الشيشكلي وانجرفت البلاد صوب اليسار، بمساعدة موسكو التي قدمت السلاح مقابل القمح والقطن السوري، فضلاً عن القروض الميسرة.
بعد ثلاثة محاولات فاشلة لإطلاق انقلابات مضادة... اعترف الدبلوماسي الأمريكي البارز في دمشق أنه لم يعد هناك ما يمكن أن تفعله بلاده للحدّ من انجراف سوريا إلى المدار السوفياتي.
نهاية حقبة وبداية أخرى
لم تتغيّر كثيراً الحقائق الجيوسياسية التي جعلت سوريا ساحة صراع في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي. لا تزال البلاد على الممر الطبيعي بين الخليج وأوروبا، وما أدى إلى زعزعة استقرارها سابقاً سيزعزه لاحقاً عام 2009 حين رفض الرئيس السوري بشار الأسد، لصالح إيران، اقتراحاً قطرياً لتوجيه خط أنابيب الغاز عبر الأراضي السورية.
أما الأسباب التي جعلت الولايات المتحدة مستعدة للتدخل مباشرة في سوريا هي نفسها التي تحفز الروس اليوم. هدف الرئيس فلاديمير بوتين العظيم هو عكس اتجاه نفوذ بلاده من خلال التحكم في تدفق الطاقة في جميع الاتجاهات من روسيا والشرق الأوسط ومنطقة بحر قزوين، كما سيؤدي التحكم في الممر السوري إلى تحسين فرصه في القدرة على احتكار العرض الأوروبي في المستقبل.
لقد انتهت حقبة أمريكا في الشرق الأوسط لتبدأ الحقبة الروسية للتو. وعلى الرغم من أن الحلقة التي تحدث عنها بار في كتابه تمثل بداية تدخل الولايات المتحدة في الشرق الأوسط إلا أنه رأى أن صانعي السياسة في الولايات المتحدة يتناسوها اليوم. "من الواضح أن سوريا لها أهمية جيوسياسية بالنسبة لبعض الدول، لكن الولايات المتحدة لن تكون فاعلة بينهم"، والكلام لبار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون