لا تزال معظم دول الاتحاد الأوروبي تبحث، دون جدوى حتى الآن، عن مخرج لإنقاذ الاتفاق الذي وقعته الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا مع إيران حول برنامجها النووي، بعد أن قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب منه.
هناك شيء مؤكد في المحاولات الأوروبية لإنقاذ الاتفاق النووي مع طهران، وهو أنهم يريدون إنقاذ الصفقات التي وقعوها معها بمليارات الدولارات، والتي وفرت آلاف الوظائف في القارة العجوز.
في أعقاب توقيع الاتفاق مع طهران، ارتفع إجمالي الصادرات الأوروبية إلى إيران في عام 2017، إلى 12.9 مليار دولار.
وأبرمت شركة توتال "الفرنسية" مع إيران عقداً بقيمة خمسة مليارات دولار لمساعدتها في تطوير أكبر حقل غاز في العالم، وهو حقل جنوب بارس، كما فازت شركة "ساغا" النرويجية للطاقة بصفقة بثلاثة مليارات دولار لبناء محطات لتوليد طاقة شمسية.
ووقعت شركة إيرباص الفرنسية على صفقة لبيع 100 طائرة ركاب إلى شركة "إيران إير"، وأبرمت شركة التوربينات الأوروبية "إيه تي آر" عقد بيع 20 طائرة لإيران، كما وقعت شركة سيمنز الألمانية على عقود لتحديث شبكة السكك الحديدية الإيرانية.
وفازت شركة شركة "إف إس" الإيطالية بصفقة بقيمة 1.4 مليار دولار لبناء خط سكك حديدية فائق السرعة، وعقدت شركة رينو الفرنسية اتفاقاً لإنشاء مركز هندسي ومصنع إنتاج لتعزيز القدرة على إنتاج سيارات رينو في إيران.
كيف تنجح أوروبا في إنقاذ صفقاتها؟
في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، حاولت الحكومة الأمريكية إجبار الدول الأخرى على الامتثال لفرض عقوبات على كوبا من خلال معاقبة الشركات الأجنبية التي انتهكت العقوبات، لكن الاتحاد الأوروبي نجح في إصدار قانون يمنع الشركات من الامتثال للعقوبات، ما أرغم واشنطن في نهاية المطاف على التراجع، في مقابل تنازلات طفيفة قدمتها بروكسل. تتوقع صحيفة واشنطن بوست الأمريكية أن يسعى الاتحاد الأوروبي إلى مواجهة ترامب للحفاظ على مصالحه مع إيران، على غرار مع حدث خلال التسعينيات من القرن الماضي، وتضيف أنه بالفعل قام صانعو السياسة في بروكسل مؤخراً بإحياء قانون مواجهة العقوبات الأمريكية الذي صدر عام 1996. وتضيء الصحيفة على نقطة بارزة هي أن ترامب يعتمد على سياسة التخويف، لا سياسة الوسائل الدبلوماسية في الضغط على أوروبا في ما يتعلق بإيران، وهي سياسة تتناقض مع سياسات الحكومات الأمريكية السابقة. ويرى الباحث المتخصص في السياسة الإيرانية في الجمعية الألمانية للسياسة الخارجية، علي فتح الله نجاد، أنه يجب على الاتحاد الأوروبي أن يضغط في واشنطن حتى توافق على إتاحة قدر كاف من التجارة الأوروبية الإيرانية، وبذلك يمكن لأوروبا أن تضمن استمرار التزام طهران بالاتفاق النووي. ويضيف نجاد لرصيف22 أن الاتحاد الأوروبي، على الرغم من الإرادة السياسية التي عبّر عنها بشكل كبير لرسم مسار خاص به حول إيران، لا يستطيع تجاهل سياسة الولايات المتحدة لأسباب هامة، منها أن علاقاته الاقتصادية مع الولايات المتحدة أكثر أهمية من علاقاته مع إيران. ولكن وزير المالية الفرنسي برونو لومير قال إن البنوك الأوروبية لن تكون قادرة على حماية الشركات التي تستثمر في إيران من العقوبات الأمريكية، مضيفاً أن معظم الشركات الفرنسية سوف تلغي خططها للعمل في إيران. وأردف: "البنوك الأوروبية الكبرى لن تخاطر بالتعرض للعقوبات الأمريكية. أولويتنا هي بناء مؤسسات مالية أوروبية مستقلة وذات سيادة تكون قناة تمويل بين فرنسا وإيطاليا وألمانيا وأي بلدان أخرى على هذا الكوكب". واقترح البعض إنشاء بنك "إيراني ألماني خاص" من شأنه أن يبقي الاستثمارات متدفقة إلى إيران، مقابل التزام طهران بالاتفاق النووي. وترى الباحثة في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية لاورا فون دانيلز أن هذا البنك يجب أن تكون لديه خبرة في تمويل الشركات، كما يجب أن يكون مستقلاً عن القطاع المالي الأمريكي، وليس له أذرع استثمارية خاصة في أمريكا، مضيفة أن أحد المرشحين المحتملين سيكون Deutsche Bank المتعثر، والذي خفّض إلى حد كبير نشاطاته المصرفية الاستثمارية في الولايات المتحدة.يتوقع الروس أن انتهاء الاتفاق النووي مع إيران سيؤدي إلى تراجع عرض النفط العالمي ما يعني رفع أسعاره ومكاسب لموسكو... إلا أن السعودية قد ترفع إنتاجها لعدم حصول ذلك، ما يعني تكبدها خسائر في سبيل عدم إنقاذ الاتفاق
يشير كتاب روس إلى أن انهيار الاتفاق النووي سيكون مكسباً قوياً لروسيا، إذ ستنسحب الشركات الأوروبية من عقود الاستثمار في حقول الطاقة الإيرانية، ما يسمح للشركات الروسية بأن تحل مكانهاوتضيف الباحثة: "بالنسبة إلى دويتشه بنك، ستكون هذه فرصة للتوسع مرة أخرى في سوق كان قد أجبر على التخلي عنه بسبب العقوبات الأمريكية السابقة. إن وجود بنك إيراني ألماني يمكنه أن يحافظ على تدفق النفط والغاز من إيران في الوقت الذي تحاول فيه أوروبا تنويع وارداتها من الطاقة. هذه ميزة استراتيجية. سيتمكن الاتحاد الأوروبي من إبقاء النفط والغاز الإيرانيين خارج سيطرة روسيا أو الصين". ومن المقرر أن يزور الرئيس الإيراني حسن روحاني النمسا وسويسرا في يوليو، في أول زيارة رسمية يقوم بها لدولة في غرب أوروبا منذ نحو عامين ونصف. وأعلن المكتب الرئاسي النمساوي أن المحادثات ستدور حول "مساعي الاتحاد الأوروبي لدعم الحفاظ على الاتفاق النووي مع إيران"، علماً أن النمسا ستتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي اعتباراً من يوليو المقبل حتى نهاية العام الجاري.
دول الخليج... محاولات لقتل الاتفاق
لم تكن بعض دول الخليج، مثل السعودية والإمارات، راضية عن الاتفاق النووي الذي وقعته القوى الكبرى مع طهران، وسعت منذ البداية إلى عدم إبرامه. وبعد تولي ترامب مقاليد حكم الولايات المتحدة بدأت تضغط على البيت الأبيض من أجل إلغائه. يقول المحلل السياسي اللبناني علي مراد إن السعودية ومنذ انتخاب ترامب رئيساً كانت تضغط باتجاه تبني الإدارة الأمريكية والجمهوريين قرار الانسحاب من الاتفاق النووي، وهناك الكثير من جماعات الضغط الأمريكية التي وظفتها كل من الرياض وأبوظبي بشكل أساسي لتحقيق هذه الغاية. وأضاف لرصيف22 أن الاعلام السعودي والإماراتي ركز على توجيه الأنظار باتجاه "خطر الصواريخ الباليستية الإيرانية" على المدن الأوروبية، وذلك في إطار جهود مشتركة أمريكية-خليجية-إسرائيلية للصغط على الأوروبيين لدفعهم للمضي قدماً في تأييد الانسحاب من الاتفاق النووي ثم تأييد فرض عقوبات على إيران. ويضيف أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ضغط على الأوروبيين لتغيير موقفهم الرافض للانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي من خلال تقديم عروض استثمارية وعطاءات مغرية لكل من فرنسا وبريطانيا بشكل أساسي، وقد تجلى ذلك في جولته الأخيرة إلى كل من لندن ثم باريس. وأكد الباحث اللبناني أن الرياض تصطدم بالتصلب الألماني تحديداً في الموقف من الاتفاق النووي مع إيران، ولأن المانيا تقريباً تتزعم القرار الأوروبي بحكم قوة اقتصادها، رد ولي العهد السعودي على التصلب الألماني بإصدار قرار بحرمان الشركات الألمانية من عقود الاستثمار في السعودية، بينما منح عقوداً للفرنسيين والبريطانيين في قطاعات مختلفة، مثل القطاع السياحي لباريس وصفقات سلاح وعقود نفطية للندن. في سياق آخر، يرى فتح الله نجاد أن دول الاتحاد الأوروبي ،إذا حافظت على الاتفاق النووي، يمكن أن تكبح سلوك إيران الإقليمي، إذا سمحت واشنطن لبروكسل بفعل ذلك.خطة ترامب لإضعاف ميركل.. بولندا نموذجاً
تزايدت المخاوف في الأيام الماضية من عجز دول الاتحاد الأوروبي عن تبني موقف موحد حول الالتزام بالاتفاق النووي، وعدم الرضوخ للعقوبات الأمريكية، ولا سيما أن هناك محاولات من ترامب للتقرب من قادة دول أوروبا الشرقية وسط انتقادات حادة يوجهها باستمرار إلى المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل. ومن أبرز الدول التي قد لا تبني موقف ألمانيا وفرنسا وبريطانيا هي بولندا، إذ يخطط القادة البولنديون، الذين ينتمون إلى اليمين المتشدد، لدعم انسحاب الحكومة الأمريكية من الصفقة النووية الإيرانية داخل الاتحاد الأوروبي. في الأسبوع الماضي، حرّض ترامب الألمان ضد سياسية ميركل حول اللاجئين، زاعماً أن الشعب الألماني بدأ "ينقلب على قادته" بسبب الهجرة، ومضيفاً أن نسبة الجريمة في ألمانيا ارتفعت بنسبة 10% منذ استقبال اللاجئين. وأشارت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية إلى أن ميركل تعمل حالياً على خطة سرية لإنقاذ الاتفاق النووي مع طهران، مضيفة أن المستشارة الألمانية تخطط لإبقاء إيران مرتبطة بجمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك Swift System، ما يساعد على استمرار التعاملات مع إيران. إلا أن خطة ميركل قد تتأخر بسبب انقسام أعضاء حكومتها حول الهجرة غير الشرعية، وخلافها الحالي مع إيطاليا حول استقبال المهاجرين، ما يهدد بانهيار حكومتها، والذهاب إلى انتخابات مبكرة، وهو ما سيكون انتصاراً قوياً لترامب وصاعقة على إيران.روسيا... أكثر الرابحين
تحتل إيران المرتبة الثانية بعد روسيا في احتياطيات الغاز الطبيعي العالمية، وتمتلك رابع أكبر احتياطي من النفط عالمياً، بالإضافة إلى ثروات طبيعية ضخمة. يشير كتاب روس إلى أن انهيار الاتفاق النووي سيكون مكسباً قوياً لروسيا، إذ ستنسحب الشركات الأوروبية من عقود الاستثمار في حقول الطاقة الإيرانية، ما يسمح للشركات الروسية بأن تحل هي أو الشركات الصينية في موقعها. وتكشف مقالات بعض الكتاب الروس أن علاقة الروس الاستراتيجية في مجال الطاقة مع طهران تشكلت من خلال الحصول على أغلب الحصص في مشاريع حقول الغاز الطبيعي الإيرانية، مضيفة أن هناك تخطيطاً لإنشاء خطوط أنابيب من إيران إلى سوريا ومن ثم إلى أوروبا، وهذا الأمر محور تفكير روسيا. ستعيد وزارة الخزانة الأمريكية فرض العقوبات على صناعة الطاقة الإيرانية، بداية من السادس من أغسطس المقبل، كما سيعاد فرض العقوبات على استخدام الموانئ الإيرانية وعلى شركات الشحن التجاري وشراء البتروكيميائيات والمنتجات البترولية. ويتوقع الروس أن النفط الإيراني سيتعرض للتهميش، ما يؤدي إلى نقص في المعروض، يتسبب في رفع أسعار النفط بحلول نهاية عام 2018، ويشيرون إلى أن هذا السعر سيسمح لموسكو بالاستثمار في قطاع النفط في القطب الشمالي في منطقة بحر بارنتس، وهو القاعدة الأساسية الاقتصادية المستقبلية لروسيا. إلا أن السعودية قد تغازل دول الاتحاد الأوروبي برفع الإنتاج من أجل تعويض النقص في الأسواق للحفاظ على استقرار سعر النفط عالمياً، وهو ما سيكون ضربة قوية لروسيا، لا سيما أن تقاريراً كشفت أن إدارة ترامب طلبت من السعودية العمل على الحفاظ على أسعار النفط بعد إلغاء الاتفاق. فهل تتدخل الرياض التي تعاني من خسائر مالية كبيرة بسبب تراجع أسعار النفط في السنوات الماضية؟رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...