"لا يمكن أن يحدث هنا". كان هذا عنوان الرواية السياسية شبه الساخرة التي صدرت عام 1935 للكاتب الأمريكي سنكلير لويس. في ذلك الوقت، وبينما كانت الفاشية صاعدة في أوروبا، اختار لويس لروايته بطلاً أسماه برزليوس (أو باز) ويندريب ليكون سيناتوراً أمريكياً شعبوياً. أطلق "باز" في خطابه الانتخابي وعوداً بإجراء إصلاحات اقتصادية واجتماعية جذرية وشجّع على العودة إلى الوطنية والقيم التقليدية، ليفوز على فرانكلين روزفلت في السباق لرئاسة أمريكا ثم يفرض حكماً شمولياً "على طريقة أدولف هتلر”، حسب الرواية.
"يمكن لكل هذا أن يحدث هنا". قد يصلح هذا العنوان لتوصيف المرحلة التي دخلتها أمريكا، ومعها العالم، مع استلام دونالد ترامب مهامه كرئيس للولايات المتحدة في 20 يناير العام الماضي، في وقت استعاد البعض الشبه بينه وبين "باز ويندريب". وصل ترامب إلى البيت الأبيض تحت شعار عام عريض (طبعاً عدا عن جعل أمريكا عظيمة مجدداً) وهو أن سياسة سلفه باراك أوباما الخارجيّة لا تعدو كونها فشلاً ذريعاً.
ثمة من قال إن ترامب يدرك ماذا يفعل وهو يدير العالم كما أدار كرجل أعمال بارع مصالحه، ومن قال في المقابل إن الرئيس يفتقر لأبسط الإلمام بالسياسة والاستراتيجيات الدولية وهو غير مدرك لما يسببه من إرباك في النظام العالمي بينما يمنعه تعنّته من إدراك ذلك أو توظيف من يساعده على الإدراك.
النقاش حول شخصية ترامب لم يتوقف منذ صعود نجمه، ولكن ما بدأ يشغل المحللين مؤخراً، لا سيّما بعد لقائه المثير للجدل بنظيره فلاديمير بوتين في قمة هلسنكي، هو مصير النظام العالمي.
هل يقوم ترامب بتدمير هذا النظام، الذي قام بعد الحرب العالمية الثانية، بقواعده ومؤسساته وتوازناته؟ هل يسعى لتشكيل نظام عالمي جديد مع العدو/ الصديق بوتين؟ وهل تبعات الإخلال بالنظام القائم أو حتى تدميره سلبية فحسب أم يمكن أن يكون لها جانب إيجابي؟ هنا جولة على أبرز ما أثاره النقاش حول هذه المسألة.
المسّ بـ"المقدسات" و"خسارة أمريكا"
اتسّم مسار ترامب الخارجي بعد فوزه بالفوضوية، أقله بالشكل، لكن من يتابع التطورات الأخيرة يرصد منهجيّة دقيقة ساعية لتدمير هيكلية النظام العالمي الحرّ. وسط هذا كان قادة "العالم الحرّ" ينعون سقوط النظام الذي أسهم في تعزيز السلام والاستقرار.
في هذا السياق، صوّب المحللون سهامهم على تنصّل الرئيس من الاتفاق النووي مع إيران ثم لقائه برئيس كوريا الشمالية، وبعدها على تنصّله من بيان مجموعة الـ7 وشنّ حرب تجارية شرسة ضد الحلفاء بموازاة توجيه انتقادات حادة للأمم المتحدة ثم لحلف الناتو (الذي للمناسبة كان أكثر ما أثار المخاوف وفق التحليلات) والاتحاد الأوروبي. وانتقد هؤلاء تساهل ترامب الشديد مع بوتين في قمة هلسنكي وصولاً إلى إعلانه الاستعداد للقاء الرئيس الإيراني حسن روحاني "من دون شروط"... كان هؤلاء ينعون "المقدسات"، التي أرساها أسلافه على امتداد سبعة عقود، وهم يرونها تتلاشى إلى غير رجعة.
ثم انتقلت التحليلات إلى تقييم ردّ فعل الحلفاء الذين يسعون للتأقلم مع المتغيّرات. هؤلاء بدأوا يبحثون عن استراتيجيّة جديدة بعيداً عن الارتباط بالولايات المتحدة التي لم يعد من السهل استشراف مواقفها المستقبليّة. كيف يصيغون تعاوناً دولياً جديداً من دون الولايات المتحدة التي أسهمت بشكل أساسي في بناء العالم الحر وتعزيزه، والتي لا يبدو أنها ستعود إلى ما كانت عليه حتى لو تغيّرت هوية الرئيس المقبل؟ كان هذا السؤال.
اتسّم مسار ترامب الخارجي بعد فوزه بالفوضوية، أقله بالشكل، لكن من يتابع التطورات الأخيرة يرصد منهجيّة دقيقة ساعية لتدمير هيكلية النظام العالمي الحرّ. وسط هذا كان قادة "العالم الحرّ" ينعون سقوط النظام الذي "أسهم في تعزيز السلام والاستقرار" على مدى سبع عقود
على عكس من نعى النظام العالمي الحرّ، أتى من يقول إن الندب على سقوطه سابق لأوانه، وآخرون رأوا أن ثمة ما هو إيجابي في الإهانات الدولية التي تتوالى الواحدة تلو أخرى على الولايات المتحدة
خرجت "دير شبيغل" الألمانية بخبر عن انتهاء المستشارة أنجيلا ميركل من صياغة استراتيجية لتشكيل "تحالف دولي جديد متعدد الأقطاب لدعم القواعد والهياكل القائمة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتي يرفضها ترامب".
تحدث آخرون، كالباحث باتريك ستيوارت في "فورين بوليسي"، عن الاتحاد الأوروبي الذي قاوم حتى الآن طلبات الانضمام الصينية للدخول في تحالف تجاري كامل ضد الولايات المتحدة، ليقول إن "هذا الاحتمال أصبح أكثر احتمالاً... ليكون مثل هذا التحالف بمثابة تقليد شاحب لصفقات التجارة رفيعة المستوى التي تم الاتفاق عليها واتبعتها إدارة أوباما في مفاوضات الشراكة عبر المحيط الهادي وشراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي".
ومثله كتب مارتن جاي متوجهاً لـ"الرجل الذي لا يتقن سوى لغة التنمّر، وهو يتنمّر الآن على الحلفاء الأوروبيين بين تحميلهم مسؤولية المهاجرين ثم المسؤولية الاقتصادية…"، وقال "الآن يبدو أن الصين ستعلّم هذا الرجل درساً في الاقتصاد العالمي، سيستفيد منه الأوروبيون بدورهم".
من جهته، ركّز آدم أنتوس - في مقال مطوّل في "نيويوركر" - على نظام ترامب العالمي الجديد، مستعرضاً كيف ترك - بمساعدة إسرائيل ودول الخليج - خيبات سنوات أوباما خلفه، فقدّم للإسرائيليين ما يحتاجونه بعدما تضررت علاقتهم بواشنطن في عهد سلفه، وصبّ جهوده لمواجهة إيران.
وكان الباحث كوري شايك حذّر، في مقال له في "نيويورك تايمز"، من أن هجوم ترامب على العالم الليبرالي لا يتعلّق بالثمن الذي ستدفعه أمريكا فحسب، بل هو يدمر الصداقات والاحترام الذي يربط الأخيرة بحلفائها. وإن نجح في مسعاه، وفق شايك، سيُنظر لأمريكا - لا بل ربما تصبح - كروسيا والصين، ولن يكون للأعداء والأصدقاء أي دافع لدعم أمريكا في جهودها، وذلك لأنها قلّلت من شأن المؤسسات والقواعد العالمية، وتعاطت مع مُخرجات النظام التي تضمن مصالحها كما وأنها تحصيل حاصل.
"تدمير النظام العالمي ليس بهذه البساطة"
على عكس من نعى النظام العالمي الحرّ، أتى من يقول إن الندب على سقوطه سابق لأوانه، لأن رئيس الولايات المتحدة لا يتصرف من دون تقييد من قبل الكونغرس أو حتى من إدارته الخاصة.
صحيح أن لترامب "أداء ديكتاتوري"، لكنه يحكم بلداً ما زال فيه مؤسسات وإعلام حر وقضاء فاعل ومجتمع مدني ناشط… هكذا رأى الباحث في معهد "بروكنغز" جيمس كيرشيك قبل أن يشير إلى أن مسؤولية ترامب في سعيه (مع جماعته في الإدارة الأمريكيّة) لخلخلة النظام العالمي، تقابلها مبالغة من الإعلام في تصوير الرئيس بمظهر "الخائن". صحيح أن هناك تنازلات حصلت في قمة هلسنكي، لكنها ليست بالخطيرة، يقول كيرشيك مستذكراً العقوبات على الشخصيات الروسية وكذلك الدبلوماسيين.
في معرض آخر، يقول كيرشيك إن هناك مفاهيم خاطئة شائعة عن الرؤساء الأمريكيين، وليس ترامب وحده، وهو أن بإمكانه تغيير العالم لمجرّد تواجده على الساحة الدولية بهذا الشكل. يشير هنا إلى مقال أحد المسؤولين في عهد أوباما وهو يقول إن ترامب وبتهديده لمستقبل الناتو فهو يهدّد أمريكا نفسها، ليعلّق بأن النظام العالمي الليبرالي، الذي كتب عنه روبرت كاغان في "واشنطن بوست" قبل أيام باعتباره يتطلب "مساراً ثابتاً ومن قبل الولايات المتحدة قبل كل شيء"، ليس ثابتاً بذاته.
هكذا، على قول كيرشيك، لا يمكن ببساطة تدمير هذا النظام بأهواء فرد واحد، حتى لو كان رئيس الولايات المتحدة. النظام العالمي الليبرالي "لزج"، إذ يحتوي على عناصر أساسية (العلاقات العسكرية، القيم السياسية والثقافية المشتركة والعلاقات الاقتصادية الضخمة ) تدوم أطول من أي وقت يستغرقه أي رئيس في المنصب. يعترف الكاتب أنه من الممكن بالتأكيد أن يستطيع ترامب الإخلال بهذه العناصر، إلا أنه يصرّ على أن من السابق لأوانه في هذه المرحلة أن نؤكد بشكل قاطع ذلك.
"أكثر من خرافة"
غراهام آليسون ذهب أبعد من ذلك، في مقال حديث نشرته مجلة "فورين آفيرز"، تحت عنوان "أسطورة العالم الليبرالي"، منتقداً أولئك الذين يشيعون أن النظام العالمي ما بعد الحرب العالمية الثانية أسهم في تعزيز الاستقرار العالمي فيعترضون على مساعي ترامب لتقويضه.
يقول آليسون إن ما أسهم في إرساء "السلام الطويل" في العالم ليس النظام الليبرالي بل التنافس من أجل الهيمنة العالمية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ثم توازن القوى بين هذين العملاقين النوويين وصولاً إلى الهيمنة الأمريكية في العقود الأخيرة، هذا ما حال دون حرب عالمية أخرى. بالنسبة إلى آليسون، قد يكون تجاهل ترامب للقيم الليبرالية مثيراً للقلق، ولكن بدلاً من أن يحلم بعصر من الهيمنة الليبرالية لا مثيل لها، ينبغي على إدارته أن تركز على إعادة بناء ديمقراطية قوية في الداخل.
في مقال آخر في المجلة نفسها، ردّت الباحثتان ريبيكا هيسلر وميرا هوبر على آليسون، معتبرتين أن النظام العالمي الحر "أكثر من أسطورة".
من جهة، رأت الباحثتان أن من ينتقد النظام العالمي على حق، في الشق المتعلق بلفت الانتباه إلى هذا المفهوم الذي غالباً ما تتم الإشادة به ولكن نادراً ما يتم التدقيق في معناه الفعلي. تذكر الباحثتان أن النظام نشأ ما بعد الحرب العالمية الثانية وتطور تدريجياً على مدار القرن العشرين. بدأ كمشروع غربي كبير مصمم لإعادة تأهيل بلدان ما بعد الحرب، ثم ازدهر خلال الحرب الباردة. بعدها انتشر في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية في أعقاب تصفية الاستعمار ومرحلة الركود الاقتصادي في السبعينيات، ولم يتعولم إلا مع زوال "منافسيه" (الاتحاد السوفييتي) في التسعينيات.
من جهة أخرى، ترى هيسلر وهوبر أن ثمة ما هو إيجابي في الإهانات الدولية التي تتوالى الواحدة تلو أخرى، حيث ستجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة أن تقوم بعملية حساب استراتيجية، لم يسبق لها القيام بها منذ السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. ضمن هذه الحسابات، سيثبت النظام العالمي الليبرالي القديم أنه قديم ولا يمكن الدفاع عنه بشكله الحالي، من دون أن يعني ذلك التخلي عنه تماماً.
ما تراه الباحثتان مهماً في هذه المرحلة هو القيام بعملية تجديد تجعل النظام العالمي أقل مأسسة، ليتمكن من تحقيق الأهداف الفعلية له بعيداً عن نوستالجيا النظام الليبرالي، وبموازاة ذلك تعمل واشنطن على استعادة مكانتها الدولية من خلال تقييم المخاطر والإيجابيات الجدية في الداخل والخارج، ثم تتبنى ضمن هذا النظام المؤسسات الدولية التي تساعدها على تحقيق استراتيجيتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...