شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
مؤامرات السي آي إيه في العالم العربي بين الحقيقة والأوهام

مؤامرات السي آي إيه في العالم العربي بين الحقيقة والأوهام

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الثلاثاء 31 يوليو 201801:30 م

السي آي إيه هي الذراع التجسسي الخفي للولايات المتحدة. تتآمر لإسقاط أنظمة حكم، وتتعاون مع حكومات عربية وأجنبية لتعذيب مشتبه بهم، وتُسلح معارضين في سوريا للإطاحة بنظام الحكم، وتنشط في العراق وليبيا واليمن وغيرها، وتقوم بما هو غير معلن في العديد من دول العالم وخصوصاً منطقتنا العربية خدمة لمصالح أميركا. ولكن هل يفسر دور الوكالة الأميركية كل ما مر بعالمنا العربي من كوارث وأزمات؟ هل هي في الحقيقة محركة الأحداث والسبب الفعلي وراء التدهور الذي شهده ولا زال يشهده عالمنا العربي منذ تكوين الحكومات الوطنية في القرن العشرين؟ ربما تُوفر لنا قراءة الوثائق واستقراء التاريخ وأحداثه بشكل موضوعي دقيق صورة واقعية عن مدى تأثير السي آي إيه في تاريخنا الحديث.

تشير أوراق الوكالة التي رفعت عنها السرية إلى أن السي آي إيه خططت ونفذت عدة عمليات تآمرية خفية أو ما تسمى في أروقة المخابرات بالـ covert operations منذ الخمسينيات في العالم العربي. في تلك الفترة كانت الحرب الباردة وهاجس دخول الاتحاد السوفياتي إلى المنطقة العربية هو المحرك الأول لتلك العمليات. وتعد سوريا المجال الأبرز لأولى عمليات السي آي إيه التي جاءت بحسني الزعيم ثم أديب الشيشكلي إلى الحكم عام 1949. كان عداء الشيشكلي للشيوعية هو الميزة الأولى التي أهلته لتلقي الدعم الأمريكي. وبعد سقوط نظامه عام 1954 بقيت السي آي إيه تراقب عن كثب الوضع في سوريا والتقارب الحاصل آنذاك مع السوفييت. وفي عام 1956 تم وضع خطة للإطاحة بالحكومة اليسارية في سوريا عن طريق نشر الدعاية المضادة، وافتعال اشتباكات مسلحة على الحدود مع الأردن والعراق وإشعال تمرد يقوم به الأخوان المسلمون في دمشق تمهيداً لغزو عسكري أردني عراقي. أغدقت السي آي إيه الأموال على بعض الضباط السوريين ممن كانت تتوسم فيهم التعاون مع الولايات المتحدة للقيام بانقلاب، ولكن رجل الأمن القوي عبد الحميد السراج تمكن من كشف المؤامرة. وتم اعتقال روكي ستون مسؤول السي آي إيه وكانت اعترافاته فضيحة مدوية للولايات المتحدة ووكالة مخابراتها.

أما في العراق فقد تلقت السي آي إيه ضربة قوية بعد انقلاب 14 تموز 1958 الذي قاده عبد الكريم قاسم ضد النظام الملكي الموالي للغرب. فقد كشفت الوثائق التي وضع الضباط أيديهم عليها وجود تعاون وثيق بين الحكم الملكي والمخابرات الأمريكية، وفضحت أسماء بعض من كانوا يستلمون الأموال منها. واضطر أفراد محطة السي آي إيه في بغداد للفرار على وجه السرعة بعد اعتقال أحد عملائهم.

وفي السنوات التالية كانت معارضة قاسم لنفوذ عبد الناصر تجعله حاكماً مقبولاً في أعين الأمريكان إلى عام 1961. ولكن تقربه المتزايد من الاتحاد السوفيتي، واستفحال نفوذ الشيوعيين في الحكم، وتصديه لشركات النفط ومطالبته بضم الكويت جعلته هدفا من المطلوب التخلص منه. ولهذا دعمت السي آي إيه بالمال والتخطيط والدعاية انقلاب حزب البعث على عبد الكريم قاسم عام 1963. فقد أطلقت الوكالة محطة إذاعة مقرها الكويت لدعم الانقلاب على قاسم. وكانت هذه الإذاعة تزود الانقلابيين بأسماء وعناوين الشيوعيين المعروفين لمساعدة البعثيين على التخلص منهم. وبعد نجاح الانقلاب زودت الوكالة النظام البعثي الجديد بقوائم اغتيالات مفصلة كانت نقطة الانطلاق لعمليات تصفية وتعذيب بشعة اشترك فيها اللاجئ البعثي العائد من مصر آنذاك صدام حسين. وقد اعترف علي صالح السعدي أحد كبار القياديين البعثيين آنذاك بأن الحزب جاء إلى السلطة "بقطار السي آي إيه". كما وصف جيمس كريتشفيلد رئيس محطة السي آي إيه في الشرق الأوسط الانقلاب بالانتصار الكبير.

لم تكن السي آي إيه غائبة عن كثير من الأحداث في الشرق الأوسط مثل التآمر بالمال والتخطيط لإعادة الشاه وإسقاط مصدق، أو التورط في حرب اليمن لاستنزاف عبد الناصر وحماية المملكة العربية السعودية من تمدد التيار القومي وغيرها من بؤر التوترات في المنطقة. إن ترتيب انقلاب في بلد ما، أو التورط في حروب بالدعم العسكري والمالي، أو تدبير محاولات اغتيال لزعماء يشكلون خطراً على الولايات المتحدة، بل وحتى محاولة توجيه الرأي العام عن طريق شراء صحف وأقلام عربية معروفة يمكن وضعها جميعاً في خانة المؤامرة. ولكننا عندما نصل إلى أحداث كبرى في تاريخنا العربي المعاصر يصفها البعض بأنها مؤامرة قامت بها أجهزة الاستخبارات الغربية مثل نكسة 1967 وغزو الكويت 1990 فإن هذا الطرح يستلزم التدقيق لا في الحقائق فحسب ولكن أيضاً في تعريف المؤامرة ومفهومها.

يتمحور الطرح العربي في نسبة تلك الحوادث لخانة المؤامرات الغربية على نقطة "التشجيع والاستدراج" التي قامت به الولايات المتحدة لدفع كل من جمال عبد الناصر وصدام حسين لاتخاذ قرارات سببت الهزيمة للعالم العربي وصبت بالطبع في مصلحة إسرائيل.

يتناقل الإعلام العربي ما يسمى بعملية "الديك الرومي"، والتي جاء ذكرها في كتاب "الانفجار" لمحمد حسنين هيكل على أنها المؤامرة الأمريكية-الاسرائيلية للإطاحة بعبد الناصر واحتلال أراض عربية من الجولان إلى القدس والضفة وغزة وحتى سيناء.

هذا الاسم وتلك العملية لا نرى لها وجوداً يذكر في أدبيات ووثائق التاريخ السياسي الغربي. فما حدث في عام 1967 كان بالفعل نتيجة طبيعية لتراكم التوترات بين اسرائيل والعرب، واستمرار العمليات الفدائية من الجبهة السورية، ولكن القول إنه كان تآمراً مدروساً قامت به كل من اسرائيل والولايات المتحدة يحتاج إلى وقفة ودراسة للوثائق المتوفرة. ورغم أن سقوط عبد الناصر كان بالتأكيد حلماً أمريكياً اسرائيلياً بل وحلماً لبعض العرب أيضاً، إلا أن الوثائق لا تساند نظرية المؤامرة هنا.

تبين محاضر جلسات الحكومة الاسرائيلية إبان الأزمة وجود انقسام في الرأي بين رئيس الحكومة ليفي أشكول وقادة جيشه حول المدى الذي يجب أن تذهب إليه إسرائيل في الرد على غلق خليج العقبة. ففي جلسة 23 مايو، وبعد يوم من إغلاق عبد الناصر للمضائق، قررت الحكومة الاسرائيلية تأجيل البت في كيفية الرد وإعطاء الدبلوماسية مهلة يومين للعمل على إيجاد حل سياسي.

وفي جلسة 28 مايو كان هناك نقاش حاد في الحكومة الاسرائيلية حول ضرورة بدء الحرب فوراً. ولم تقرر الحكومة الاسرائيلية بشكل حاسم شن الحرب إلا بعد التصويت الذي حدث في جلسة الحكومة في 2 يونيو، وهو نفس اليوم الذي أبلغ فيه عبد الناصر قادته العسكريين بحتمية الحرب وبضرورة الاستعداد لتلقي ضربة إسرائيلية خلال أيام.

لقد كان للتقارير التي قدمتها السي آي إيه للرئيس جونسون حول القدرات العسكرية للعرب واسرائيل دور أساسي في رفضه مد جسر جوي بالأسلحة إلى إسرائيل، حيث أبلغهم أن تقديرات الوكالة تشير إلى أن بمقدورهم هزيمة العرب مجتمعين في غضون أسبوع واحد. كما أنه، وبسبب تورطه في فيتنام، آثر أن يطلق العنان لإسرائيل لترد على إغلاق مضائق تيران والذي جاء في أسوأ وقت ممكن للجانب العربي الذي لم يكن مستعداً لحرب شاملة مع إسرائيل.

وتشير شهادات من محللين سابقين عملوا في السي آي إيه أن الاسرائيليين كذبوا على الأمريكيين في محاولتهم لإظهار نية عبد الناصر في الهجوم على إسرائيل والتي ناقضت تقارير السي آي إيه المبنية على صور الأقمار الصناعية. وقد اتضح هذا التدليس الاسرائيلي على الأميركان في أوضح صورة في الهجوم الاسرائيلي المتعمد على سفينة التجسس الأمريكية ليبرتي. وهذا لا يرسم بأي شكل صورة شريكين في التآمر على شن حرب.

وفي الواقع فقد حذرت السي آي إيه عبد الناصر من الضربة الاسرائيلية بشكل غير مباشر وغير مقصود. يخبرنا جاك أوكونيل رئيس محطة السي آي إيه في عمان آنذاك في كتابه "مستشار الملك  King’s Council" أن معلومات دقيقة وصلت إلى السفارة الأميركية في عمان من الملحق العسكري الأميركي في تل أبيب في مساء 4 يونيو عن ضربة إسرائيلية جوية لمطارات مصر في صباح اليوم التالي. وقام أوكونيل بنفسه بإبلاغ المعلومة للملك الحسين لعلمه الشخصي ولحمايته من التورط في الحرب. لكن الملك الحسين، وبدون علم السي آي إيه، أرسل المعلومات إلى عبد الناصر فوراً ولكن عبد الناصر تجاهلها لأنه لم يصدق الملك الحسين كما أبلغه بعد الحرب. ويُلّخَص تعليق أوكونيل المرير على كارثة 1967 حقيقة الوضع العربي يومها، "خطأ عبد الناصر كان في أنه وثق في الاسرائيليين حين لم يكن من المفترض أن يثق بهم. ولم يثق في الملك الحسين حين كان من المفترض أن يثق به".

إن كل هذه المعطيات، إضافة إلى حقائق أخرى كثيرة متعلقة بالحرب لا يتسع المجال لذكرها، تشير بوضوح إلى أنه لم تكن هناك خطة تآمرية منظمة بين الولايات المتحدة وإسرائيل لصيد الديك الرومي كما كان الحال مثلاً في حرب 1956 بين إسرائيل وفرنسا وبريطانيا والتي تستحق لقب المؤامرة عن جدارة. إن هذا لا يعني بالطبع أن إسرائيل لم تكن تطمع في مزيد من الأراضي وبالتحديد في القدس والضفة، أو في الاطاحة بعبد الناصر ولكن الأمر هنا يتعلق بحقيقة ما جرى بناء على معلومات موثقة لا على نظرية مؤامرة تشوه رؤيتنا للأسباب الحقيقية للكارثة.

وفيما يخص غزو صدام حسين للكويت عام 1990 فإن تقييم السي آي إيه حتى 31/7 كان يستبعد الغزو الشامل ويضع أسوأ الاحتمالات في إطار مهاجمة بعض حقول النفط أو السيطرة على بعض الجزر الكويتية. يقول تيم وينر في كتابه "إرث من رماد- تاريخ السي آي إيه" إن تقييم الوكالة لم يتغير إلا قبل 20 ساعة من الغزو حين أرسلت إنذارا للبيت الأبيض بعملية عسكرية واسعة وشيكة. لم يصدق الرئيس بوش تحذير السي آي إيه واتصل بكل من الملك الحسين، والرئيس مبارك والأمير جابر الأحمد الذين أكدوا له استبعاد وقوع غزو شامل.

ويذهب الكثيرون في تفسيرهم لواقعة الغزو بمنظور المؤامرة إلى مقولة أن إبريل غلاسبي السفيرة الأميركية في بغداد أعطت ضوءا أخضر لصدام للقيام بالغزو. وحين نقرأ محضر اللقاء بين صدام والسفيرة نرى فيه مشهداً مختلفاً.

لم تكن السي آي إيه غائبة عن كثير من الأحداث في الشرق الأوسط مثل التآمر بالمال والتخطيط لإعادة الشاه وإسقاط مصدق، أو التورط في حرب اليمن لاستنزاف عبد الناصر وحماية السعودية من تمدد التيار القومي وغيرها من بؤر التوترات في المنطقة.
لم يصدق الرئيس بوش تحذير السي آي إيه من غزو صدام حسين للكويت عام 1990، واتصل بكل من الملك الحسين، والرئيس مبارك والأمير جابر الأحمد الذين أكدوا له استبعاد وقوع غزو شامل.

فقد قال صدام للسفيرة في رده على سؤالها عن الحشود العسكرية ونواياه الحقيقية إنه لن يحدث شيء قبل ولا بعد اجتماع جدة إذا أعطاه الكويتيون بعض الأمل. كما تحدث صدام عن رغبته في علاقة جيدة مع الولايات المتحدة وقال إنه يريد حل المشكلة سلمياً مضيفاً أن العراقيين قد ملوا من الحرب. وحين نقرأ رد السفيرة على شكاوى صدام من الكويت بالتحديد في موضوع الحدود فإنها، وهي التي عملت كدبلوماسية في الكويت في أواخر الستينات، لم تخرج عن السياسة الرسمية للولايات المتحدة وتعليمات وزارة الخارجية بعدم اتخاذ أية مواقف في النزاعات الثنائية بين الأقطار العربية. إن قراءة موضوعية لمحضر الاجتماع بين صدام وإبريل غلاسبي لا تعطينا أي مؤشر على ضوء أخضر لغزو الكويت، خصوصاً مع تأكيد السفيرة على رغبة أميركا بحل سلمي للأزمة.

إنه من الغريب حقاً أن يضع البعض هذه المقابلة، بل الموقف الأميركي برمته، في خانة المؤامرة لأن السفيرة لم تلوح باستخدام القوة لصدام. وكأنه من المتوقع من الولايات المتحدة أن تكون وصياً يؤدب القادة العرب ويقوم سلوكهم ويلجم أطماعهم وكأنهم قاصرون طائشون يحتاجون إلى رقيب.

إن العمل الاستخباري بكل أنواعه سيبقى دائماً حاضراً لخدمة مصالح الدول سواء كانت الولايات المتحدة أو غيرها. إلا أن تبني منطق تآمر الوكالة كتفسير تلقائي وأوحد لكل ما مر أو يمر بنا ليس صحياً لأنه يمنعنا من رؤية الحقائق وليس صحيحاً لأنه يفقدنا القدرة على الحل بسبب خطأ التشخيص. يلتبس مفهوم المؤامرة عند العرب أحيانا بحقيقة أن الأعداء يستثمرون أخطائهم في تحقيق انتصارات ومكاسب لم تكن لتقع لو كان لتلك الشعوب صوت فيما يقرره زعماؤها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image