"سيظل النزاع هو المحرك الرئيسي للحاجات الإنسانية، وخلال العام 2018 ستبقى هذه الحاجات مرتفعة بشكل استثنائي في بلدان تعتبر الأسوأ على صعيد الأزمات الإنسانية في العالم، ومنها المنطقة السورية، التي يبلغ عدد المحتاجين للمساعدة فيها أكثر من 13 مليوناً" / تقرير لمحة عامة عن العمل الإنساني العالمي، الصادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية نهاية العام الفائت.
لم يتغير هذا الواقع كثيراً منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، 19 أغسطس، وهو اليوم الذي أقرته الأمم المتحدة "اليوم العالمي للعمل الإنساني"، تكريماً لكل النساء والرجال الشجعان الذين يكرسون أنفسهم لمساعدة المتضررين من الأزمات في أنحاء العالم، ويجازفون بحياتهم في بعض الأوقات للوصول لأهدافهم.
وتم اختيار هذا اليوم كذكرى لهجوم استهدف مقر الأمم المتحدة في فندق القناة بالعراق عام 2003 مما أدى لمقتل 22 موظفاً أممياً، وهو أول هجوم شامل على هذه المنظمة.
في هذا اليوم، بعد مرور أكثر من سبع سنوات على الحرب في سوريا، وتوصف بأنها من أعنف الحروب في التاريخ الحديث، وقد خلفت واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية على الأطلاق، لا أحد أجدر بالتكريم وتسليط الضوء على العمال الإنسانيين السوريين الذين عملوا في مختلف المجالات سعياً لتخفيف وطأة الحرب على الملايين في مختلف أنحاء البلاد، وحتى في دول الجوار.
عمل يدمج بين العقل والروح
لم تكن سنوات الحرب السورية السبع بالنسبة لمازن سيروان (31 عاماً) اعتيادية، ولم يستطع وهو يرى الحرب التي تعصف ببلاده إلا أن يلتفت للعمل الإنساني ليصبح إلى جانب عمله في مجال أمن المعلومات والشبكات، جزءاً لا يتجزأ من حياته. من التطوع مع عدد من المبادرات والجمعيات التي أغاثت آلاف العائلات الوافدة لدمشق وبعض المناطق في ريفها هرباً من الحرب وقدمت لهم خدمات غذائية وطبية وتعليمية وإرشادية، إلى تقديم الدعم النفسي الاجتماعي للأطفال، وصولاً لبناء القدرات والتوعية لعاملين ومتطوعين آخرين، يصف مازن لرصيف22 سنوات هذا العمل بأنها "الأجمل والأصعب في آن واحد".طفل الحرب ليس ذلك الطفل الخجول المستكين الذي يذرف بعض دموع الحزن كما نراه على شاشات التلفاز وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. هو طفل عنيف وعنفه ناتج عن ماضيه المؤلم.
فقدنا خلال هذه السنوات أرواح عشرات المتطوعين الذين استشهدوا أثناء تأديتهم واجبهم الإنساني، وهو ما يجعلنا أكثر تصميماً على المضي في هذا الطريق.الأجمل لأنها مثّلت بالنسبة له قدرة سوريين من مختلف الاتجاهات والمشارب والطوائف على العمل بتفاهم وتناغم كبيرين لتحقيق الهدف الأسمى المشترك، والأصعب لأن الحرب السورية تخبئ في جنباتها كوارث "هائلة" على الصعيد الإنساني والاجتماعي والاقتصادي والنفسي وتتطلب من العاملين الإنسانيين خبرات عالية وقدرة على التوفيق بين البيئة النازحة والمضيفة والتعامل مع مختلف الحالات النفسية والاجتماعية بهدف بناء الثقة بالدرجة الأولى، مع الأخذ بعين الاعتبار هجرة نسبة كبيرة من الكوادر المؤهلة خارج البلاد. هنا، يكمن أثر هذا العمل الذي يعتبر الشاب نفسه جزءاً منه، "فقد كنا قادرين في كثير من الحالات على تغيير حياة أشخاص كثر مصابين بأعلى درجات اليأس والإحباط". يضيف مازن أيضاً بأن "سنوات الحرب في سوريا رغم صعوبتها جعلت من العمل الإنساني أولوية لمعظم السوريين، عن قصد أو بدون قصد، إذ اعتدنا أخذ الجانب الإنساني بكافة قراراتنا وأعمالنا، وبتنا مندفعين لتقديم الأفضل وإبراز صورة إنسانية عن مجتمعنا، ودون شك كان للمجتمع المدني الذي ازداد حضوره خلال السنوات الأخيرة دور التوعية وتعزيز فكرة العطاء والترابط والتماسك داخل المجتمع السوري".
لا أجمل من ضحكة طفل فقد الكثير ثم استعاد ثقته بنفسه
تعمل هبة التشة (33 عاماً) في مجال تعليم الأطفال وتقديم خدمات الدعم النفسي والاجتماعي لهم منذ الأشهر الأولى لبداية الحرب في سوريا، متطوعة مع عدد من الجمعيات المحلية. سبع سنوات ونصف كافية لتراكم كمٍ هائلٍ من التجارب والمتاعب والحكايات لديها. عايشت هبة خلال هذه الأعوام وفق حديثها مع رصيف22 مختلف فئات الأطفال الذين تعرضوا لكل أنواع الصدمات النفسية، من فقدان الأهل لخسارة المنزل والنزوح، للتفكك العائلي الذي تعود أسبابه لمشاكل اجتماعية واقتصادية بالدرجة الأولى، وأيضاً التسرب من المدارس. صدمات تركت آثاراً لا تمحى وتطلبت من الفتاة التي تحمل شهادة في التربية جهداً كبيراً وتطويراً مستمراً لمعارفها وخبراتها لتكون قادرة على التعامل مع مختلف الحالات وعلاجها بأفضل شكل ممكن.قد كنا قادرين في كثير من الحالات على تغيير حياة أشخاص كثر مصابين بأعلى درجات اليأس والإحباطومنذ حوالى عامين، تكرّس هبة وقتها وطاقتها للعمل مع الأطفال الفاقدي الرعاية الأسرية، أي أولئك الذين يعيشون "في الشارع" دون عائلة ومأوى: "يعاني هؤلاء الأطفال من مستويات عالية من العنف التي تصل حد السرقة وربما القتل، وإدمان في بعض الحالات على التدخين وبعض أنواع المخدرات، والسبب الأساسي هو تفكك أسرهم نتيجة النزوح أو الوفاة، وأيضاً الفقر الشديد". وتعتبر هبة أن أصعب التحديات التي تواجهها هي أن تكون قادرة على خلق حالة من التحول في سلوك ونفسية الطفل الذي يمارس كثيراً من التصرفات التي قد لا نتقبلها في ظروف اعتيادية. "طفل الحرب ليس ذلك الطفل الخجول المستكين الذي يذرف بعض دموع الحزن كما نراه على شاشات التلفاز أو في الصور المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي. هو طفل عنيف وعنفه ناتج عن ماضيه المؤلم". كما ترى أن العمل الإنساني في سوريا بشكل عام يعاني من ضعف الدعم والاهتمام بالعاملين في هذا المجال، والذين يضطرون في كثير من الأحيان للبحث عن مصادر دخل إضافية إلى جانب عملهم التطوعي، خاصة مع تراجع الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في البلاد. "رغم ذلك، تبقى سعادة رؤية طفل بلغ عامه الثاني عشر وهو يقرأ كلماته الأولى أمامي بعد سنوات من حياة التشرد هي مكافأتي التي لا أبدلها بأي شيء آخر"، تضيف هبة في ختام حديثها.
العمل الإنساني واجب وأسلوب حياة
تحوّل العمل الإنساني بالنسبة لبشر الخطيب (23 عاماً) إلى ما يشبه أسلوب الحياة، إذ اختار منذ الأيام الأولى للنزاع في سوريا التطوع مع عدد من الجمعيات المحلية لخدمة المتضررين، إيماناً منه بأن هذا واجب محتم على كل شاب وشابة في سوريا. وهو اليوم، إلى جانب دراسته في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، منسق العلاقات العامة لقسم حماية الطفل في الهلال الأحمر العربي السوري. كل يوم من عمل بشر الإنساني يعني بالنسبة إليه حكاية جديدة، وقدرة على التخفيف من معاناة يعيشها آلاف السوريين، وفي الوقت نفسه هو عمل محفوف بالمخاطر والتحديات، "فكثيراً ما توجهنا لأماكن خطرة لتقديم خدماتنا، كان آخرها المعابر التي خرج عن طريقها آلاف المدنيين من الغوطة الشرقية في شهر آذار الفائت وكانت عرضة للقذائف ورصاص القنص. فقدنا خلال هذه السنوات أرواح عشرات المتطوعين الذين استشهدوا أثناء تأديتهم واجبهم الإنساني، وهو ما يجعلنا أكثر تصميماً على المضي في هذا الطريق"، يقول لرصيف22. وبالنسبة لبشر، لا يعني العمل الإنساني والتطوعي مجرد ملء وقت الفراغ كما يعتقد كثيرون، بل هو وسيلة لتحقيق هدف أسمى يكمن في رفع المعاناة عمن وجدوا أنفسهم ضحية هذا النزاع القاسي.فاقدو النطق والسمع أيضاً كانت لهم معاناتهم
للحروب في كل أنحاء العالم أثرها الخاص على الفئات التي تعاني من مشاكل جسدية أو لديها احتياجات معينة، وتحتاج رعاية قد يصعب تأمينها خاصة إن لم يتوفر الدعم الحكومي، والعمل التطوعي. لم يغب كل ذلك عن ذهن فرح التل (27 سنة)، التي اختارت منذ حوالى عشرة أعوام التطوع في إحدى الجمعيات التي تقدم خدمات لفاقدي النطق والسمع في دمشق، لتجد بأن تطوعها هذا ذو قيمة أعلى بكثير خلال سنوات الحرب. تعلّمت فرح كما تقول لرصيف22 لغة الإشارة منذ الصغر بعدما شعرت بانجذاب كبير لعالم لا أصوات فيه، وإنما إشارات تحل محل الكلمات. ورافقت العشرات ممن يعانون من هذه المشكلة خلال أنشطة ثقافية وتعليمية، وساعدتهم أيضاً للدخول للجامعات والتقدم إلى فرص عمل جديدة.يحتاجون الكثير ويحصلون على القليل، ورغم ذلك أستمر في عملي لإيماني بأنه يحدث فرقاً كبيراًلكن الأمر لم يكن بهذه السهولة عندما بدأت الحرب في سوريا، حيث سافر معظم المتطوعين ممن يعرفون لغة الإشارة، وبقي قلائل ممن يتقنونها، فوجدوا أنفسهم ملتزمين بمساعدة العشرات من فاقدي السمع الذين برزت لديهم مشكلة جديدة: فهم غير قادرين على سماع أصوات القذائف والانفجارات، وبالتالي لا يستطيعون تقدير الخطر المحدق بهم، وهنا كان دور الفتاة التي آثرت البقاء معهم وتحمل مسؤوليتها في مساعدتهم، وكذلك حمايتهم؛ واستمرت في التطوع مع جمعيات في دمشق تُعنى برعايتهم. تصف فرح العمل الإنساني في سوريا خلال سنوات الحرب بأنه "صعب ومتعب ومليء بالتحديات ويفتقد الكثير من الدعم بشكل عام، وأكثر صعوبة للفئات ذات الاحتياجات الخاصة والتي تعاني الظلم والتهميش كفاقدي النطق والسمع. يحتاجون الكثير ويحصلون على القليل، ورغم ذلك أستمر في عملي لإيماني بأنه يحدث فرقاً كبيراً".
مع اللاجئين وصولاً لتحقيق العدالة الاجتماعية
استضاف لبنان على مدار سنوات الحرب السورية مئات آلاف اللاجئين الهاربين من الجحيم. تختلف الأرقام الرسمية من عام لآخر، وآخر التقديرات كانت عن وجود حوالى مليون لاجئ سوري، يعيش قسم كبير منهم داخل مخيمات منتشرة في بقاع كثيرة من هذا البلد الصغير المساحة. أعداد تعني دون شك عبئاً غير مسبوق وضرورة للاستجابة لكافة الاحتياجات الإنسانية لهؤلاء اللاجئين، ما دفع هانا عبد المسيح، وهي خريجة الأدب العربي، للتطوع مع جمعية محلية أسسها عدد من الشباب السوريين، وعملت ضمن مشروع تعليم بديل يستهدف الأطفال غير القادرين على التسجيل في مدارس رسمية، وأيضاً الكبار الأميين. "معظم اللاجئين السوريين عاشوا خسارات لا يمكن تخيلها"، تقول الفتاة ذات الأعوام السبعة والعشرين لرصيف22، وتضيف أن من أهم تلك الخسارات اضطرار الأطفال للتخلي عن الدراسة بهدف العمل، ففقدوا القدرة على تعلّم مهارات أكاديمية كثيرة تساعدهم على التعامل مع أقرانهم وأيضاً التطور في مختلف مجالات الحياة، وهنا يكمن الإنجاز الذي تشعر به، مع إتاحة الفرصة للعشرات، وخاصة ممن تجاوزوا سن الدراسة، بالتغلب على مخاوفهم ومتابعة دراستهم. وتضيف هانا –التي أمضت سنوات طفولتها في المملكة المتحدة- أن عملها لم يقتصر على التعليم وإنما يتضمن بناء مساحات مشتركة للتخفيف من الإحساس بالعزلة التي لا بد أن تفرضها ظروف اللجوء، وهنا تشير إلى عشرات الصعوبات التي يجابهها العمل الإنساني مع اللاجئين السوريين في لبنان، وعلى رأسها تخلي بعض الممولين عن مساندة هذا العمل في حين يحتاج اللاجئون لمختلف أنواع المساعدات الطبية والغذائية والمادية، مما أجبر كثيرين على التخلي عن التعليم، إما بسبب المرض أو نقص الموارد المادية. مع ذلك، لا تفقد هانا إيمانها بأهمية عملها الإنساني "كجزء ضروري لتخفيف المعاناة وصولاً للعدالة الاجتماعية التي يجب تحقيقها للاجئين السوريين ولكل المتضررين من الحروب، وهو ما لا يمكن تحقيقه دون تضامن جميع الدول وقيامها بواجبها على صعيد الدعم ومناصرة حقوق اللاجئين وعدم إغلاق الأبواب والحدود بوجوههم".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...