في مبنًى يتوسط مخيمات عدة للاجئين سوريين ببلدة بر الياس الواقعة وسط سهل البقاع اللبناني، يبدو تعليم الموسيقى والغناء لأكثر من أربعين طفلاً وطفلة ليس بالأمر السهل، إلا أنه تحدٍّ أخذته مجموعة من الموسيقيين والمدرسين والمتطوعين على عاتقها منذ أكثر من عامين. على مدار ثلاثة أيام أسبوعياً، تمتلئ قاعات المبنى الصغير التابع لمؤسسة "العمل للأمل" بألحان منسّقة تارة، وأخرى ممزوجة بأصوات المدرّبين وهم يبحثون عن أفضل توازن ممكن بين الآلات المختلفة، وتنهدات الطلاب المتعبين والسعداء بعد يوم تدريب طويل في مدرستهم الموسيقية. وبين العود والبزق والأكورديون والناي والطبلة والدف، تتنوع مواهب الأطفال ومعظمهم من النازحين من سوريا، ويبدعون خارج الأطر الموسيقية التقليدية، فيما يراه مدرّسوهم "قدرة كبيرة على الابتكار وحمل المعارف التي يتعلمونها إلى مساحات جديدة يعملون هم على رسمها بمخيلاتهم".
[caption id="attachment_123321" align="alignnone" width="700"] تلاميذ البرنامج خلال حفلة التخرج[/caption]
بلد في أزمة...
لجأ إلى لبنان خلال السنوات الست المنصرمة أكثر من مليون سوري، وذلك وفق أحدث إحصاءات الأمم المتحدة لعام 2017، ويرتفع هذا العدد ليبلغ مليون ونصف المليون لاجئ بحسب تقديرات الحكومة اللبنانية وبعض المنظمات غير الحكومية العاملة في لبنان. تعيش شريحة كبيرة من السوريين في لبنان ضمن تجمعات يفتقر معظمها إلى أبسط مقومات الحياة، فهي عبارة عن خيم ومراكز إيواء وشقق غير مجهزة ومستودعات، وتقدر نسبة النساء والأطفال بينهم بأكثر من 70%. في هذا البلد الصغير الذي لا يزيد تعداد سكانه على أربعة ملايين ونصف المليون نسمة، والذي ترتفع فيه نسبة البطالة لتبلغ 20% وفق منظمة العمل الدولية، أرخت موجات النزوح السورية المتتالية بظلالها وأعبائها على المجتمع والحكومة، بخاصة في ما يتعلق بالبنية التحتية والخدمات والتوظيف والصحة. أما في ما يتعلق بالأطفال، والذين يبلغ عددهم ما يقارب نصف المليون طفل، فإن المفوضية الأوروبية تتحدث عن حرمان 50% منهم تقريباً من أي شكل من أشكال التعليم، الأمر يعرضهم لخطر العنف والاستغلال والعمالة. في مواجهة ذلك، تعمل عشرات المنظمات الحكومية وغير الحكومية ومئات الناشطين بشكل يومي لمعالجة ما تمكن معالجته من آثار الحرب السلبية. عمل قد لا يكون كافياً بطبيعة الحال، لكنه جهود لا بد من بذلها وانتظار نتائجها في الأيام المقبلة، بحسب ما يؤمن العاملون والقائمون على مؤسسة "العمل للأمل".مشروع وليد...
تأسست "العمل للأمل" كمؤسسة مستقلة تعنى "بمواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المفروضة على أفراد المجتمعات المنكوبة من خلال إطلاق خيالهم وقدراتهم الإبداعية". وأطلقت برامج ونشاطات عدة في مناطق مختلفة كالبقاع وشاتيلا، على رأسها المدارس الموسيقية والمراكز الثقافية وبرامج التدريب والدعم والمنح الفنية وقوافل الإغاثة الثقافية، والتي تهدف إلى "تحقيق تنمية ثقافية تلبي الاحتياجات الاجتماعية والثقافية والنفسية للمجتمعات المنكوبة والمهمشة". [caption id="attachment_123326" align="alignnone" width="700"] تلاميذ برنامج العمل للأمل[/caption] ولعلّ ظروف تأسيس هذه المؤسسة تشي بمقدار اهتمام القائمين عليها بمدى تأثير حرية التعبير والإبداع الفني في التعافي من الانعكاسات السلبية للحرب. بدأت الفكرة عام 2012 خلال زيارة فنانين وناشطين ثقافيين عرب مخيمَ كلس في تركيا، بدعوة من مديرة مؤسسة المورد الثقافي بسمة الحسيني، حيث انطلقت فترة تجريبية لبرنامج نظم أربع قوافل إغاثة ثقافية في مخيمات اللاجئين السوريين بلبنان وكذلك في حي وقرية مصريين، ثم تأسست "العمل للأمل" كمؤسسة مستقلة مطلع عام 2015. تطور العمل خلال هذا العام بعد لقاء جمع الموسيقي السوري فواز باقر مع الحسيني في أحد اجتماعات اليونيسكو المعنية بالتراث اللامادي في العاصمة الفرنسية باريس. في الاجتماع، غنّى باقر موشحاً قديماً، أتبعه برؤيته الشخصية: "إن كنا نريد أن تبقى الموسيقى حية، فعلينا تعليم أولادنا إياها، فالقلوب هي الحامل الأساسي للتراث اللامادي". تقول الحسيني في حديثها إلى رصيف22: "أعجبني حديث باقر عن أهمية الحفاظ على التراث الموسيقي السوري من طريق الممارسة، وهو الأسلوب الذي كنت أود تطبيقه في المدرسة التي كانت فكرة قيد الدراسة. اتصلت به بعد لقائنا بشهور بعد أن استطعت تأمين تمويل أولي من معهد غوته والمجلس البريطاني وبدأنا مرحلة تجريبية في لبنان في شهر أغسطس 2015". إثر ذلك، انطلق هذا المشروع الثقافي الموجه إلى الأطفال والشباب من المجتمعين النازح والمضيف، والذي يهدف بشكل أساسي إلى الحفاظ على التراث الموسيقي السوري الغني والمتنوع، وتخريج طلاب يمكنهم العمل في مجال الموسيقى واحترافها في المستقبل، باستخدام طريقة تعليم تزاوج بين المعرفة النظرية والتدريب العملي والحفلات الموسيقية.آلية العمل...
يتحدث باقر وهو المشرف الفني في مدرسة العمل للأمل إلى رصيف22، المدرسة تستقبل عشرات طلبات التسجيل ليتم اختبار الأطفال واختيار الأكثر موهبة بينهم، ومن ثم تعليمهم بعض الأغاني وتعريفهم بمختلف الآلات الموسيقية ليختاروا الأقرب منها إلى قلوبهم، "بعد أن يمسكوها ويتحسسوها ويتعرفوا إلى أسمائها وأصواتها". لا يحاول كادر المدرسة فرض آلة موسيقية معينة على الطلاب، "فالموسيقى عبارة عن خمسين موهبة مجتمعة ومتناقضة، وكل طالب يعبر عن رغبته في آلة موسيقية معينة. قد نوجههم إلى طريق معين بعد أن نعرف نقاط ضعفهم وقوتهم، لكننا نترك لهم حرية الخيار"، يقول باقر الذي يؤلف ويعزف على آلات موسيقية عدة كالكونترباص والعود.الموسيقى هي الحل...
يلاحظ باقر البالغ 57 عاماً، التطورات الإيجابية في شخصيات الطلاب وتصرفاتهم، ويقول: "الموسيقى...تعلّم قيمة الصمت والكلام والقوة والضعف وتساعد على إدارة الكآبة. لو أن الموسيقى تدرّس بشكل صحيح في المدارس لحصلنا على جيل أكثر هدوءاً وفهماً وأقل عنفاً"انطلق مشروع العمل للأمل للشباب من المجتمعين النازح والمضيف، للحفاظ على التراث الموسيقي السوري الغني والمتنوع
الموسيقى...تعلّم قيمة الصمت والكلام والقوة والضعف وتساعد على إدارة الكآبة...
لو أن الموسيقى تدرّس بشكل صحيح في المدارس لحصلنا على جيل أكثر هدوءاً وفهماً وأقل عنفاً...ويشير باقر إلى دور الأهل في تحديد مستوى الطلاب، "فجزء كبير من تطوير ملكاتهم يعتمد على تدريبهم خارج المدرسة حيث يأخذون آلاتهم معهم، وعندما يلمسون اهتمام أهلهم ويسعون إلى إرضائهم يقبلون على التمرين بشكل أفضل وأكثر كثافة". ويقود تطور الطلاب إلى مصائر مختلفة سيعيشها كل منهم، فبعضهم سيستمر في الدراسة مع "العمل للأمل" وآخرون سيأخذون آلاتهم وقد ينضمون إلى فرق خارج إطار هذه المدرسة الموسيقية، وغيرهم بطبيعة الحال قد يكتفون بما وصلوا إليه من معرفة موسيقية، "نحن نهدف إلى تخريج موسيقيين حقيقيين، ومحاربة العنف بالموسيقى، فهي نقيض الحرب"، يضيف باقر في حديثه. تطور تلحظه سارة زين مسؤولة البرامج في العمل للأمل، "فالأطفال الذين لم يعرفوا من قبل سوى أغنيات قليلة عربية شائعة وحديثة، باتوا قادرين على عزف أهم المقطوعات التراثية وغنائها، ومن مختلف المقامات الموسيقية". ولعل الأهم هو مساعدة الأطفال في رسم خططهم المستقبلية، "فكثر باتت الموسيقى هدفهم، بعضهم يريد متابعة دراستها في الجامعة وآخرون يخططون لاستخدام المدرسة كمنطلق لإحياء حفلات في أهم المراكز والتجمعات الثقافية في بيروت، فالمخيمات لم تعد تشكل أي حدود بالنسبة إليهم". وتنوه زين – التي تحمل إجازة في المسرح من الجامعة اللبنانية – بأثر الموسيقى في رفع معنويات الطلاب، "فتراهم يسيرون بكل ثقة وهم يعلمون أنهم قادرون على تقديم ما هو مختلف عن أقرانهم، وخارج إطار الكوادر التي كانت ثقافتهم الموسيقية موضوعة ضمنها".
مواهب صغيرة...
بالنسبة إلى مجد الدين ربعي، الفلسطيني ابن الستة عشر ربيعاً، يساعده الغناء وعزف العود في التعبير عن مكنونات نفسه، بخاصة "عندما تضيق به الدنيا"، ويزيدان من ثقته في نفسه "فالكل بات يعرفني ويطلب مني أن أغني له". ويعتبر ربعي ظهوره الأول مع مدرسة "العمل للأمل" العام الفائت، بمثابة التجربة التي لا تنسى، "فما إن غنيت الجملة الموسيقية الأول حتى ضج المسرح بالتصفيق، كان شعوراً من الفرح لا ينسى". كذلك، باتت آلة البزق تشكل جزءاً لا يتجزأ من حياة مها فتوح التي اختارت التعلم عليها عند انتسابها إلى مدرسة العمل للأمل منذ عامين. وها هي اليوم تعزف ألحاناً منفردة لتشعر بأنها فعلاً "فنانة" بحسب ما بات أصدقاؤها يلقبونها. وتحلم فتوح التي نزحت مع عائلتها من مدينة حمص منذ أربعة أعوام لتستقر في مخيم شاتيلا، بأن تدرس الطب وتستمر بالعزف والغناء حتى آخر نفس في حياتها، "فهو الشعور الأجمل الذي يمكن أن أعيشه".حفل تخرج...
بحماسة منقطعة النظير، تسلم طلاب الدفعة الأولى من هذه المدرسة الموسيقية شهادات تخرجهم الأسبوع الفائت، وتوّجوه بعمل استمر لمدة عامين متواصلين بحفل موسيقي قدموه مساء الجمعة على مسرح "المدينة" في شارع الحمرا ببيروت، والذي ضجت مدرجاته بتصفيق طويل لحضور مدهوش بمهارة أطفال تراوحت أعمارهم بين عشرة أعوام وسبعة عشر عاماً. لم تُعتمد في الحفل الذي قُدم تحت عنوان "يا محلى نورها In Light Of"، مقومات فنية كثيرة ربما تزخر بها عروض موسيقية أخرى، فلا ديكورات مبهرة على المسرح، ولا تقنيات حديثة... سوى شاشة إسقاط تعرض عليها صور وإضاءات متنوعة. إلا أن الروح التي كانت تنبعث من عيون الأطفال ووجوههم وهم يعزفون بكل إتقان أغانيَ ومقطوعات تراثية، وصلت إلى الجمهور الذي لاحظ التعاون والتنظيم السائدين بين الموسيقيين الصغار، حيث كانوا قادرين على تبديل أماكنهم والدخول والخروج بين أغنية وأخرى، والعزف بشكل متماسك ومنسّق من دون الحاجة إلى أي موجه أو مرشد لهم، فكانوا وحدهم على المسرح في مواجهة مئات المتفرجين بكل نجاح وثقة. كُتب في المنشور الذي وُزع على باب المسرح: "نحن نؤمن بأن المجتمعات التي تمر بظروف صعبة، وتلك المهمشة والفقيرة، تحتاج بشكل خاص إلى القوة التي يمنحها الفن كي تواجه التحديات الكبيرة المفروضة عليها باستخدام الخيال والنقد والتأمل، كما أنها تضم مواهب فنية أصيلة ومهمة، يؤدي إهمالها إلى إفقار المشهد الثقافي والفني في بلادنا. من هنا، يأتي اهتمامنا بتعليم الفنون وإنتاجها وممارستها في تلك المجتمعات". هكذا، أنهى أطفال العمل للأمل دراستهم الموسيقية وحفل تخرجهم وهم "أكثر ثقة في أنفسهم، وعلى درجة أعلى من التطور في الموهبة والمعرفة والثقافة، إلى جانب الوعي بالذات والقدرة على التنظيم وإدارة الخلاف، وهو ما لم يكن موجوداً لديهم من قبل"، بحسب تعبير الحسيني.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...