شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
طوارئ وعزلة وانتحار... عن

طوارئ وعزلة وانتحار... عن "بعبع" الثانوية العامة الذي يفترس الطلاب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 21 يونيو 201803:52 م
قد يبدو الأمر عادياً إذا سمعتم عن إعلان الطوارئ في دولة ما عقب عمل إرهابي أو زلازلٍ، لكن غير العادي أن تسمعوا عن إعلان حالة الطوارئ في البيوت المصرية لمجرد أن امتحانات ما ستبدأ. إنها الثانوية العامة بتفاصيلها وأزماتها وضغوطها، وحتى حالات الانتحار التي تقع لأجلها. منذ أيام بدأ مارثون الثانوية العامة، وسط إجراءات أمنية مكثفة من قبل وزارة التربية والتعليم وأجهزة الأمن، للحد من عملية تسريب أجوبة الامتحانات عبر وسائل التواصل الاجتماعي. سبقت تلك التجهيزات قرارات لطارق شوقي وزير التربية والتعليم أكد فيها أن الغرض منها القضاء على "بعبع الثانوية العامة"، والنهوض بالتعليم المصري ووضعه في مكانة تنافس الدول الكبرى، لكن على ما يبدو أن تصريحات الوزير لم تكن كافية لتغير وجهة نظر الأهالي في "الثانوية العامة"، فجاءت التفاصيل مشابهة لكل ما جرى في السنوات الماضية، وكأنها اللعنة التي يورثها الآباء للأبناء دون توقف. طوارئ بالبيوت، منع للزيارات والتلفاز ووسائل التواصل، انقطاع عن الطعام، قلق، اضطرابات في النوم، وحالات انتحار.

شاهد من أهلها

يقول محمد خليل طالب بالثانوية العامة: "قبل الامتحانات بشهرين تقريباً بدأ أهلي في محاصرتي بشكل غير متوقع، ويطالبوني بالمذاكرة ليل نهار حتى يمكن لي الحصول على مجموع كبير يؤهلني لدخول كلية الطب، التي يصر أبي عليها لأن أبناء إخوته كلهم في كليات الطب والصيدلة، ولا يريد لي أن أكون "أقل منهم"، ورغم أني لم أكن أرغب في دخول تلك الكلية، وكنت أتمنى فعلياً دخول كلية الشرطة، إلا إني أمام الضغوط الكبيرة التي يمارسها أهلي قررت أن أستجيب لهم حتى أحقق حلم والدي". أما أحمد بدر فقال: "مُنعت من كل حاجة، الخروج مع أصحابي، وزيارتهم لي، الشيء الوحيد المسموح هو التلفزيون ساعة واحدة في اليوم، والحق أن أسرتي كلها لم تعد تُشغل التلفزيون لأجلي".
21.5% من الطلاب يفكرون في الانتحار، بينما يعاني 29.3% من مشاكل نفسية، أبرزها القلق والتوتر والاكتئاب، و19.5% وصل بهم الأمر إلى حد إيذاء النفس.
أغلب الأسر تعاني من الفقر، ورغم ذلك تُجبر على إعطاء أبنائها دورساً خصوصية مقتنعين أن كتاب المدرسة لا يحقق أي نفع. ما يسبب الكثير من الضغوط النفسية والمادية على الأسرة وبدورها تنقله إلى الطالب.
ويضيف لرصيف 22: "أنا عارف أني كده كده مش هجيب مجموع كبير لأن ظروفي المادية لم تسمح لي أن أخذ دروس خصوصية، وأنا من النوع اللي مش بحب حد يفرض عليا حاجة، أهلي عاوزين مني أفضل أذاكر طول الوقت، وأنا بفتح الكتب قدامهم، قال يعني بذاكر، رغم أني وقتها ببقى مشغول عن المذاكرة بحاجات تانية. كله دلوقتي محصل بعضه اللي بيجيب مجموع كبير زي اللي بيجيب مجموع صغير، طالما مفيش واسطة بعد الجامعة يبقى آخرتها هكون عواطلي وانضم لطابور العواطلية على القهوة، يبقى لازمته إيه بقى المرمطة والضغط اللي الأهالي بيحطونا فيه؟". shutterstock_248774404 وبحيلة أخرى، يلجأ ياسر عبد المعبود إلى إقناع أسرته بأنه لا يجيد المذاكرة بمفرده، وبالتالي يضطر والده إلى الموافقة على حضور 2 من أقرب أصدقائه يومياً للمذاكرة معه، ولأن الرقابة عليهم قليلة، يستغل الثلاثي أغلب الوقت المخصص للمذاكرة في لعب "بلايستيشن"، لأنه بالنسبة لهم كما قال لرصيف22 "أهم من أي امتحانات". على الجانب الأخر من تلك الرحابة التي يتعامل بها ياسر في منزله، والتي تعد حالة فريدة من نوعها في مصر، يحاصر والد هاجر السعيد ابنته كمدافع يقف في مواجهة رأس حربة من طراز رفيع ويخشى أن يتجاوزه ليسقط فريقه في خسارة مدوية. تقول هاجر لرصيف22: "أنا الحمد لله متوفقة في دراستي، وعشان كده قلت أن الضغط هيخف عليا شوية مع قرب الامتحانات، بس محصلش، من الصبح ولحد المغرب دروس خصوصية، ولما أرجع البيت بتبقى الكلمة الوحيدة اللي بسمعها "ذاكري"، مش بعمل حاجة في حياتي غير أني باكل وأذاكر، حتى النوم بنام 4 ساعات بس، وكلهم قلق وتوتر، لدرجة أنى بقيت في الأيام الأخيرة بشوف كوابيس كثيرة، كلها أن الامتحان بيخلص وأنا مش بلحق أجاوب أي حاجة، ربنا يسامح اللي وصلنا للمرحلة دي". وقالت بشرى حليم: "أهلي بيحلموا إني أجيب مجموع كبير، وأنا نفس الشيء نفسي أدخل كلية الهندسة أو الطب، عشان أقدر أشتغل وأساعدهم، خصوصاً وإن ظروفنا المادية صعبة، بس المشكلة أني مع كثرة الضغوط، ما بقتش عارفة أذاكر، وبصحى كل يوم من النوم ناسية اللي ذاكرته، وبمرور الوقت جالي اكتئاب.. مش عارفة أحل المشكلة دي إزاي؟ أهلي فاكرين أني بتدلع ومش عايزة أذاكر بس فعلاً أنا مضغوطة زيادة عن اللزوم وده اللي مخليني مش عارفة أركز في أي حاجة".

بوابة إلى العالم الأخر

عرف العالم التعليم كوسيلة للترقي والتثقيف، لكن هل هناك من بين الناس في شتى بقاع الأرض من جعل من التعليم وسيلة للعبور إلى العالم الآخر؟ في مصر يحدث ذلك. قبل أيام من انطلاق امتحانات الثانوية العامة لهذا العام، استيقظ الجميع على خبر انتحار الطالبة "يارا ي."، بالقفز من الطابق الخامس في مسكنها بالإسكندرية، وفي مداخلة هاتفية لوالدة الضحية مع برنامج "العاشرة مساء"، قالت الأم إن ابنتها اتخذت قرار الانتحار بسبب نسيان المنهج. وأضافت: "بنتي ماتت بسبب تعليم فاشل". shutterstock_678238582 أما في كفر الشيخ، فقد تم الإعلان عن وفاة الطالب "عمرو ع."، قبل ساعات من موعد الامتحان، ورغم تأكيد الأب أن الوفاة طبيعية وأن ابنه توفي بسكتة قلبية، إلا أن زملاءه أكدوا أن الوفاة سببها الانتحار، بسبب الخوف من الرسوب. وفي القاهرة قال "ي. ن."، والد الطالب المنتحر من أعلى برج القاهرة، إن نجله "جرجس"، الطالب بالصف الثالث الثانوي، كان متأخراً في دراسته، وأن زملاءه أخبروه بأنه كان يعاني من أزمة نفسية ودائم البكاء باستمرار خلال الفترة الأخيرة. وأضاف أنه حاول الترويح عنه وذهبا معاً إلى إحدى المدن الساحلية لإخراجه من حالته النفسية، وعندما عاد جرجس إلى القاهرة خرج صباح اليوم التالي من المنزل دون أن يخبر أحد بخط سيره قبل أن يفاجئ الجميع بانتحاره". يارا وعمرو وجرجس لم يكونوا أولى ضحايا الثانوية العامة، ففي كل عام نسمع عن حالات انتحار خوفاً من الفشل أو الرسوب في الامتحانات. وكانت أبرز الحالات في العام الماضي انتحار الطالب محمود عارف باستخدام "ستارة" لشنق نفسه داخل الحمام، في شقته ببولاق الدكرور بمحافظة الجيزة. وفي محافظة المنوفية شمال القاهرة أقدمت طالبة على الانتحار، بسبب صعوبة امتحان الفيزياء، وألقت بنفسها من أعلى كوبري مبارك، أما ريم إبراهيم جاويش، فألقت بنفسها من الطابق الثاني، بعد فشلها في الإجابة عن أسئلة امتحان الجبر، ولفظت أنفاسها الأخيرة فور وصولها إلى مستشفى دسوق العام بمحافظة كفر الشيخ شمال القاهرة.

بالأرقام

زيادة معدلات حالات الانتحار جعلت وزارة الصحة تتوقف أمام تلك الظاهرة، وتعد دراسة رسمية خرجت بأن 21.5% من طلاب المرحلة الثانوية بمصر يفكرون في الانتحار. الدراسة أجريت على عينة من طلاب مرحلة التعليم الثانوي، قدرت بـ10 آلاف و648 طالبًا وطالبة، تراوح أعمارهم بين 14 و17 عامًا. وجاء في الدراسة أن 21.5% من الطلاب يفكرون في الانتحار، بينما يعاني 29.3% من مشاكل نفسية، أبرزها القلق والتوتر والاكتئاب، و19.5% وصل بهم الأمر إلى حد إيذاء النفس.

رد رسمي

وأعلنت لجنة التعليم بالبرلمان المصري أنها فتحت تحقيقًا في وقائع محاولات الانتحار بالتعاون مع مراكز حقوقية ونفسية للوقوف على أسبابها والعمل على الحد منها من خلال نشر التوعية بالمدارس. وبتصريح مقتضب علق الدكتور رضا حجازي رئيس قطاع التعليم العام ورئيس امتحانات الثانوية العامة على حالات الانتحار التي وقعت هذا العام: "النجاح في الثانوية ليس ضماناً أكيداً للنجاح في المستقبل، أو الفشل هو نهاية الحياة".

في مواجهة البعبع

خبير تطوير المناهج صلاح سليم قال: أعتقد أن تلك الظاهرة ستنتهي خلال المرحلة المقبلة بعد القضاء على فكرة "حشو المناهج"، لكن الأزمة الحقيقية التي تزيد الوضع سوءاً هي أن الأسر المصرية حتى اليوم لم تنجح في التخلص من "بعبع" الثانوية، حيث تزيد الأسر الضغوط على أبنائها بمجرد وصولهم إلى المرحلة الثانوية، من أجل تحقيق النجاح بأكبر مجموع ممكن، على أمل اللحاق بكليات القمة "رغم أن مفيش حاجة اسمها كليات قمة وكليات قاع". ولا ننسى أيضاً أن أغلب الأسر تعاني من الفقر، ورغم ذلك تُجبر على إعطاء أبنائها دورساً خصوصية في ظل قناعاتهم بأن كتاب المدرسة لا يحقق للطالب أي نفع. أمر كهذا يسبب الكثير من الضغوط النفسية والمادية على الأسرة وبدورها تنقله إلى الطالب، فينتج عن هذا الضغط في النهاية عدم تركيز وفشل في استذكار الدروس رغم قضاء وقت طويل في المذاكرة. shutterstock_566492398 الأخصائي النفسي عمرو حسان علق على المشهد قائلاً إن هناك الكثير من الطلاب يزورون عيادته قبل شهر أو بضعة أيام من بداية امتحانات الثانوية، وجميعهم يعانون من نفس الأعراض: اكتئاب وتوتر وعدم قدرة على النوم. ويقول عمرو لرصيف22  إن الضغوط التي يمارسها الآباء بحق الأبناء في تلك المرحلة هي السبب الرئيسي وراء إصابتهم بالأمراض النفسية المختلفة، خصوصاً أن الشباب الآن يرى أن التعليم أصبح مجرد شكل وواجهة اجتماعية ليس أكثر ولا أقل بينما يرى الأهالي أنه نقطة فاصلة ومسألة حياة أو موت، وفي ظل الضغوط المتزايدة وزيادة التوتر والتهديد بعقوبات صارمة والمقارنة مع الأخرين يلجأ البعض إلى التفكير في الانتحار للخلاص من تلك الضغوط. هناك أيضاً الدراما والأعمال الفنية التي صورت الجوانب السلبية فقط للمرحلة الثانوية وطلابها، والتي قد تؤثر سلباً على الطلاب للنماذج التي يراها بها، وهو ما يفتح الباب أمام ضرورة مناقشة هذه الأعمال مع المراهقين بدلاً من تركهم ضحايا لها إلى جانب الحد من الضغوط التي يمارسها الأهالي وتعود بالسلب على الطلاب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image