من المحطات البارزة في المرحلة المكيّة من دعوة الرسول محمد "الهجرة إلى الحبشة"، التي جرت في العام الخامس من دعوته. فبعد تعرض المسلمين الجدد لحملة تعذيب منظمة من سادات قريش، حيث قامت كل عشيرة بتعذيب من أسلموا من أبنائها، اقترح الرسول عليهم أن يلجأوا إلى الحبشة قائلًا "فيها ملك لا يُظلَم عنده أحد". وبالفعل بدأت عملية الارتحال المنظمة مع مجموعة مكونة من 83 رجلاً و17 إمرأة على رأسهم بعض كبار الصحابة كالزبير بن العوام وعثمان بن عفان وزوجته السيدة رقية ابنة الرسول ومصعب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف وجعفر بن أبي طالب وغيرهم. تلك المجموعة تفاوتت عودتها بين من عادوا مبكراً مثل عثمان وزوجته والزبير ومصعب بن عمير، وهو ما تثبته مشاركتهم في الأحداث التي وقعت بعد الهجرة إلى المدينة/يثرب في العام العاشر من الدعوة، وبعضها تأخر رجوعه إلى العام السابع الهجري، أي أن حَدَث "الهجرة إلى الحبشة" قد استمر نحو 12 عاماً.
لماذا الحبشة؟
السؤال هنا، لماذا الحبشة بالذات دوناً عن أي بلد آخر؟ بينما تُهمِل القراءة "المُدَيَّنَة" لتاريخ الدعوة المحمدية هذا التساؤل حيث أن الإجابة الجاهزة لديها وهي أن الرسول محمد "موجَّه إلهياً"، فإن القراءة الموضوعية تطرحه لمحاولة قراءة ما وراء سطور الوقائع. مقارنةً بالبلدان الأخرى -داخل وخارج جزيرة العرب- فإن الحبشة كانت الخيار الأفضل إن لم تكن الخيار الوحيد. فبدايةً، لم يكن من الآمن أن تتوجه الهجرة إلى أي بقعة من الجزيرة العربية، سواء تلك المستقلة أو الواقعة تحت النفوذين الفارسي والبيزنطي، حيث أن قبائل وعشائر ودول تلك المناطق كانت ترتبط بعقد "الإيلاف" مع قريش، فليس من مصلحتها أن تؤوي أعداء سادات مكة. وبالتالي فإن طالب هؤلاء السادات برد من هاجروا إليهم كان مطلبهم سيتلقى استجابة فورية. لم يكن من المتاح كذلك الانتقال إلى الأراضي البيزنطية أو الفارسية، فقد كانت دولتا الحيرة والغساسنة تلعبان دور "حارس البوابة" للدولتين الكبيرتين، فكان على أي مرتحل لبيزنطة أو فارس أن يحصل أولًا على مباركة الملك الحيري أو الغساني حسب وجهته، علمًا أن الغساسنة والحيرة كانت تربطهما علاقات الإيلاف السالفة الذكر. فضلاً عن ذلك، فإن بيزنطة كانت تعاني حالة من الاقتتال الديني بين مذاهب المسيحية أو في شكل اضطهاد السلطة البيزنطية لليهود، فلم تكن ساحة آمنة لأي هجرة إسلامية.بلد مسيحيٌّ لا يتبع بيزنطة
من ناحية أخرى، فإن الحبشة-أو مملكة أكسوم-كانت تمثل وضعاً فريداً، فهي دولة مسيحية لكنها لا تتبع بيزنطة، بل تتبع المذهب الأرثوذكسي القبطي المضطهد بيزنطياً مما خلق لدى السلطة السياسية فيها حالة من "التفهُم" لفكرة الهرب من الاضطهاد، وهي غير مرتبطة باتفاقات مع قريش بل أن علاقتها بقريش وبالجزيرة العربية كانت فاترة نتيجة تأييد العرب لطرد الأحباش من اليمن الذي كانوا يحتلونه، ونتيجة الحملة الحبشية بقيادة أبرهة، التي داهمت مكة سابقاً. والوصول إليها لا يحتاج إلى المخاطرة باتخاذ طرق تمر عبر حلفاء لقريش، فكل المطلوب هو الوصول لبعض موانىء البحر الأحمر مثل جدة أو ينبع ثم عبور البحر نفسه بالسفن.أما التعليل النبوي بأن ملكها عادل فإن معرفة الرسول محمد بذلك منطقية، فهو رجل حديث عهد بالتجارة والارتحال والاختلاط بالتجار ومعرفة أخبار هذا البلد أو ذاك، فمن الطبيعي أن يبلغه خبر عدل ملك الحبشة ليصبح نقطة ترجيحية لهذا الخيار. كانت إذاً وجهة مثالية للهجرة من المنظور العملي البحت.
التحدي يظهر قراءة مسبقة للمشهد الحبشي
عندما فشل القرشيون في الحيلولة دون هجرة المسلمين، حاولوا مطالبة ملك الحبشة بردهم إليهم، فأرسلوا عمرو بن العاص ومعه عبد الله بن أبي ربيعة محملين بالهدايا للملك ورجاله وبطارقته (منعاً للاختلاط، البطارقة في المصادر التراثية قد تعني رجل الدين "بطريرك"، وقد تعني قيادات الجيش "باتارك"، والأرجح أنها الأخيرة خاصة وأن الحبشة لم يكن بها بطريرك وإنما أساقفة حيث كانت تتبع بطريركية الإسكندرية). وبالفعل مثل ابن العاص بين يدي النجاشي-في المصادر العربية معروف باسم "أصمحة"-وأبلغه مطلب حكومة مكة معللاً ذلك بأن المسلمين "سفهاء فارقوا ديننا وليسوا على دينك". كان قلق القرشيين من الهجرة إلى الحبشة بالذات منطقياً، فقد كانت مكة حديثة العهد بحملة أبرهة الحبشي عليها، وكان ساداتها يخشون من أن يكون هؤلاء الذين هاجروا قادرين على الاستقواء بالنجاشي واستمالته لتوجيه حملة على بلاد العرب أسوة بما كان من سيف بن ذي يزن مع الفُرس الذين أقنعهم بغزو اليمن، أو بما كان سابقًا من غزو الأحباش لليمن بعد نداء وجهه إليهم مسيحيو نجران.هل اختيار الحبشة وجهة للهجرة يرجع لأن الإسلام كان يخاطب في المقام الأول "أهل الكتاب" من يهود ومسيحيين؟
لم يكتفِ النجاشي بإعطاء المسلمين اللاجئين لبلاده حرية الحياة والتنقل، وإنما قد أضفى عليهم حمايته بفرض غرامة على من يتعرض لهمفكرة "الاستقواء بالخارج" كانت مقلقة في كل الأحوال باعتبار أن ذلك خيار متاح سواء لغرض ديني-كأن يسلم النجاشي ويقرر أن يقدم الدعم العسكري للمسلمين-أو لغرض اقتصادي نفعي بحت. وباستدعاء النجاشي وفداً عن المسلمين-مثلهم جعفر بن أبي طالب-عرض هؤلاء قضيتهم فأقرهم الملك على البقاء في بلاده، وعندما حاول عمرو بن العاص أن يؤلبه عليهم لمخالفتهم مذهبه في "طبيعة المسيح" تشدد الملك في حمايتهم إلى حد فرض غرامة على من يتعرض لهم، وتقول المصادر الإسلامية إنه قد أهان وفد قريش بأمره برد الهدايا. هذا الموقف يؤكد حسن اختيار الحبشة ليس لكون ملكها واسع الصدر يستمع لأطراف الخلاف قبل الحكم فحسب، ولكن لأن العالم المسيحي في ذلك الوقت كان ما يزال يعيش أصداء الجدل والنقاش حول طبيعة المسيح، بين قائلين بطبيعتين لاهوتية وبشرية، والقائلين بأنها طبيعة واحدة ذات أوجه متعددة. وبينما كانت بيزنطة تضطهد المخالف لمذهبها الرسمي-الروم أرثذوكسي-كان باقي العالم يتعامل بمرونة نسبية مع هذا الخلاف، ولم تكن حكومة الحبشة قد أقحمت نفسها في هذا الجدل الديني كما فعل قياصرة بيزنطة الذين كانوا يؤمنون أن "الدولة تحكم الكنيسة وتحميها". إذاً فمن الطبيعي أن يكون النجاشي أوسع أفقاً في التعامل مع دين يقول بطبيعة بشرية بحتة للمسيح.
القلق الروحي
ويبدو أن ثمة عاملاً شخصياً في النجاشي نفسه، هو ما يمكن وصفه بـ"القلق الروحي"، فقوله عند سماع الآيات القرآنية التي تناولت السيد المسيح بأن "هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة" يعكس تأثره بالجدل المذهبي وقابليته لتقبل أية رؤية توقف حالة القلق تلك. هذه القراءة لشخصية النجاشي ووصف الرسول محمد للحبشة بأنها "أرض صدق" يشيران بشدة لأن اقتراح الهجرة قد سبقته عملية تفكير ومقارنة وجمع للمعلومات ولم تكن مجرد "اقتراح يائس" أو "مغامرة غير محسوبة"، وهو-الاستطلاع وجمع المعلومات-أمر أسهل ما يكون في بلد مثل مكة فيه تنوع للجنسيات وانتقال لأخبار الأقطار المختلفة. هنا ثمة سؤال ينبغي أن يُطرَح: هل اختيار الحبشة وجهة للهجرة يرجع لأن الإسلام كان يخاطب في المقام الأول "أهل الكتاب" من يهود ومسيحيين؟ القراءة للقصص الديني القرآني تفيد-صراحةً وضمنيًا- بأن أي رسول أو نبي إنما هو مبعوث لقومه أياً كانت ديانتهم، بالتالي فإن المُخاطَب الأول هم قوم النبي. إذن فأهل مكة هم أول مُخاطَب "وأنذر عشيرتك الأقربين". ثم في مرحلة المجاهرة بالدعوة كان الخطاب القرآني لغير المسلمين يقول "يا أيها الناس" أي أن الخطاب موجه للناس كافة. في العموم، فإن اختصاص الرسل والأنبياء من حيث الموجهة لهم الرسالة عادة ما يكون "جغرافيًا" و"عشائريًا" لا مذهبياً. ولكن من ناحية ثانية فإن المضمون القرآني يشير لأن الرسول محمد جاء ليكمل ما جاء به عيسى ومن قبله موسى، وليعيد من "خرجوا عن المسار" إلى "الحق" أياً كانت أديانهم. ومن ناحية أخرى، فإن القرآن قد تضمن آيات تشير لأن "النصارى/المسيحيين" هم "أقربهم مودة" للمسلمين. فهل اختيار بلد مسيحي للهجرة هو أمر ذو صلة بذلك؟ ولكن تلك الآيات (82 و83 من سورة المائدة) مؤرخ نزولها في وقت لاحق على الهجرة إلى الحبشة. وقصتها-حسب رواية المفسرين-هي أن النجاشي بعد استماعه لحجج المسلمين المهاجرين قد أرسل وفداً من بعض القساوسة والرهبان إلى مكة، فالتقوا بالرسول محمد وسمعوا قوله فاعتنقوا الإسلام، وفي رواية أخرى إنهم قد وفدوا عليه مع آخر من رجع من المهاجرين إلى الحبشة، وبالتالي فإن حالة "التقارب الإسلامي المسيحي" تلك كانت مترتبة أو لاحقة على الهجرة لا العكس.مسجد في الحبشة
حياة المسلمين في الحبشة، قراءة ما بين السطور
للأسف فإن ما دونه المؤرخون المسلمون عن حياة المسلمين الأوائل في الحبشة لم يكن وافيًا، فليس أمام الباحث سوى توظيف مهارة الاستنتاج لقراءة ما بين السطور. بدايةً يمكن استنتاج أن النجاشي لم يكتفِ بإعطاء المسلمين حرية الحياة والتنقل في بلاده وإنما قد أضفى عليهم حمايته بفرض غرامة على من يتعرض لهم. ويبدو من حوار المسلمين معه حين طالبوه بمضاعفة مبلغ تلك الغرامة أنهم قد تعرضوا بالفعل لبعض المضايقات. كذلك يمكننا استنتاج أنهم كانوا على علاقة مستمرة مع النجاشي، ففي أكثر من موقف يظهر ذلك، فجعفر بن أبي طالب عندما رجع من الحبشة كان يصف أكثر من موقف له مع الملك، مثل أنه إذا رضي عن أحد أقامه وحجل حوله أو أنه بعد انتصار بدر قد أبدى فرحه بأن جلس على التراب وعليه ثياب بالية كإظهار للتواضع والشكر لله على هذا الانتصار. وحين تولى عقد قران رمل بنت أبي سفيان المعروفة بالسيدة أم حبيبة على الرسول محمد بعد وفاة زوجها، أي أن وضعهم لم يكن مجرد وضع بعض الوافدين وإنما تحولوا إلى فئة مقربة من النجاشي ومتداخلة معه. وثمة مراسلات كانت قائمة بالفعل بين الرسول محمد والنجاشي، منها رسالته التي أرسلها إليه لدعوته إلى الإسلام أسوة بما فعل مع ملوك فارس وبيزنطة والمقوقس في مصر.وفي تلك الكتابات كذلك خبر عن أن النجاشي قد تعرض لتمرد، فحشد جيشه ووضع المسلمين على سفن وأمرهم أن يهربوا بها إذا تعرض للهزيمة حتى لا يؤذيهم عدوه إذا سيطر على المُلك، فلما طالت المعركة أرسل المسلمون الزبير بن العوام ليعبر النيل سباحةً ويأتي بخبر النجاشي، فعاد إليهم وأخبرهم بانتصاره. الجدير بالذكر أن المؤرخين قد أكّدوا أن النجاشي كان قد أسلم وكتم إسلامه عن رجاله-حتى لا يثوروا ضده-إلى حد ذكرهم أن الرسول محمد حين بلغه عن طريق الوحي موت النجاشي قد صلّى عليه صلاة الغائب. وفي كل الأحوال فإن إظهار النجاشي تعاطفه مع أناس لاجئين على غير دينه شيء، ومفارقته دينه شيء آخر قد تترتب عليه بالنسبة إليه نتائج خطيرة. وهو ما يدحض رواية ذكرها البعض عن أن النجاشي كان قد مات في طريقه للهجرة إلى المدينة لإشهار إسلامه.
ومما يمكن استنتاجه كذلك أن المسلمين لم يكونوا فئة منغلقة على نفسها في المهجر، بل كانوا يخالطون الأحباش، وربما كان بعضهم يناقشهم في أمور الدين، فأحد المهاجرين-عبيد الله بن جحش-وكان زوجاً لأم حبيبة، كان يجتمع ببعض القساوسة ويناقشهم في أمور الدين، ثم قام بعد ذلك باعتناق المسيحية وكان يسخر من المسلمين المهاجرين معه كلما قابلهم، مما يعني أن هنالك "تفاعلاً" بشكل أو بآخر.
كما أن بعض المؤرخين-مثل ابن إسحق-قد وضعوا قوائم بمن وُلِدوا في الحبشة أو ماتوا ودُفِنوا فيها، فمن العسير أن نفترض أن أناساً قضوا 12 عاماً بين قوم وهم في عزلة عنهم. أخيراً يبقى سؤال: لماذا تأخر رجوع أغلب من هاجروا إلى العام السابع من الهجرة؟ لماذا لم يلحقوا جميعاً بمن حوّلوا "دار هجرتهم" إلى المدينة مثل عثمان بن عفان ومصعب بن عمير والزبير بن العوام؟ الاستنتاج المنطقي ربما يكون أن الرسول محمد قد رأى أن يبقى للمسلمين "ظهير خارجي" يمكنهم اللجوء إليه إذا استطاعت القوى المناوئة لهم أن تتحد وتغزوهم في المدينة وتدهمهم فيها كما كاد يحدث في غزو الأحزاب/الخندق، وبالفعل لم يعد آخر من هاجر إلى الحبشة إلا بعد سقوط خيبر وتحوّل المسلمين إلى قوة يُحسَب لها حساب.
ختاماً، للأسف فإن قراءة تاريخ البعثة المحمدية من منظور ديني فقط تُحَيِّد التحليل الموضوعي العملي للقرارات والتصرفات التي قام بها الرسول محمد، فالمنظور الديني يختصر كل ذلك في أنه "رسول موجه من الله لا ينطق عن الهوى" ويغفل الجانب الدنيوي والضرورات العملية في تلك الفترة الهامة. و"الهجرة إلى الحبشة" من الموضوعات التي تضررت من ذلك، فكان لا بد من تحليلها بشكل عملي يفسرها في ضوء المعطيات الواقعية المعاصرة لها.
المصادر: البداية والنهاية، ابن كثير؛ تاريخ العرب قبل الإسلام، محمد سهيل طقوش؛ السيرة النبوية الشريفة، محمد سهيل طقوش؛ أطلس تاريخ الإسلام، حسين مؤنس؛ السيرة النبوية، ابن إسحق؛ الكامل في التاريخ، ابن الأثير؛ تاريخ ابن خلدون، عبد الرحمن بن خلدون؛ محمد رسول الله والذين معه، عبد الحميد جودة السحار.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...