يحتل أنبياء العهد القديم والجديد مكانة خاصة في العالم الإسلامي، ليس فقط في القرآن الكريم وتفاسيره، وفي الحديث النبوي الشريف، لكن أيضاً في الثقافة الإسلامية والفلكلور الشعبي. قصص الأنبياء، اسم يطلق على أعمال عديدة عن حياة الأنبياء، ويعود تداولها لما قبل الإسلام. وقد أخذت هذه القصص أبعاداً أعمق مع بداية الإسلام، وترددت في سيرة الرسول قصص من سبقوه من الأنبياء. ولا تعود شعبيتها لأسباب دينية فحسب، بل لأنها قصص فيها عبرٌ عن الصراع بين الخير والشر، وامتحان للتقوى والصبر، وفيها دائماً انتصار للخير، واستمرارية للمسلمين مع من سبقهم. الاهتمام بقصص الأنبياء لم ينقطع في الثقافية الإسلامية حتى اليوم، واندمجت بنظرة المسلمين للماضي وأصبحت جزءاً من التاريخ. حتى أنها أصبحت أمثالاً، فـ"مال قارون" أصبحت عبارة مرادفة للثراء الفاحش، إلا أنها حقيقة من قصة قارون الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، والذي كان من أثرياء قوم موسى، ووزير شؤونهم لدى فرعون. و"صبر أيوب" عبارة نستخدمها وتعود لقصة النبي أيوب الذي اختبره الله بأصعب المصائب.
أخذت القصص طابعاً وعظياً، عندما بدأت تكتب كأعمال مستقلة. ولعل أهم هذه الكتب، كتاب "عرائس المجالس في قصص الأنبياء"، لأبي إسحاق الثعلبي عام 1036، الذي يبدأ بافتتاحية عن الحكمة. ثم يحكي قصة الخلق، ويسرد تاريخ الوجود إلى ما قبل بداية الإسلام. ويختتم بباب قصة أصحاب الفيل. يخلط الكاتب قصص الأنبياء، مع قصص أشخاص لا يعتبرون أنبياء، وقصص شعبية وأشعار. وهناك أيضاً كتاب عن قصص الأنبياء منسوب لمؤلف يعرف بمحمد بن عبد الله الكسائي، مع أن تفاصيل هويته ما زالت مجهولة. وهذا الكتاب، مثل كتاب الثعلبي، يبدأ بقصة الخلق، والملائكة والجنة والأرض، ثم خلق آدم، ويتتبع بالترتيب الزمني سيرة الأنبياء، ويختتم الكتاب بقصة يوحنا المعمدان والسيد المسيح.
موسى ومعه 70 شيخاً في أسفل الرسمة، من مخطوط "جامع التواريخ" في جامعة إدنبرا
يحتل موسى المكانة الأهم عند المسلمين، وقد تجسدت سيرته وقصص من عاصروه في الثقافة الإسلامية بأشكال كثيرة عبر العصور. "عيون موسى" تعتبر أماكن مقدسة مرتبطة بالنبي موسى، والحجر في مسجد القدم (أو الأقدام) في دمشق، الذي يعتقد بأن قدم النبي موسى داسته. وحجر موسى الذي ذكر في قصة في التوراة والقرآن، حين ضرب موسى الصخرة بعصاه مرتين فتدفق منها نبع مياه. وهناك من يعتقد أن عيون موسى هي في وادي موسى في البتراء الأردنية، أو في واحات في سيناء. وعلى الرغم من شعبية قصص الأنبياء وانتشارها الواسع عبر القرون، لم يبدأ تصويرهم في مخطوطات المسلمين، حتى بدايات القرن الثاني عشر، في شرق الإمبراطورية الإسلامية. حينها بدأت تظهر تصويرات لأنبياء العهد القديم في رسومات المسلمين، ومن الأنبياء الذين اختارهم المسلمون في تصويراتهم: آدم وولداه، نوح، إبراهيم وولداه إسحاق وإسماعيل، يعقوب، موسى، شعيب، عيسى، يوحنا المعمدان، ووالده زكريا. استخدم الفنانون المسلمون في القرن 13، في بلاد ما بين النهرين قصصاً دينية مسيحية في نقوش التزيين والزخرفة، ومشاهد من العهد الجديد. واستوحى فنانو المخطوطات واستعاروا في رسوماتهم التي رافقت نصوص المخطوطات، من مواضيع الإنجيل القبطي والبيزنطي، واليعقوبي.
آدم بهالة فوق رأسه والملائكة تسجد له إلا إبليس، من مخطوطة في متحف اللوفر الفرنسي
وقد وصلنا منها، قطعة من سوريا أو العراق، عليها تصوير للنبي سليمان الملك، وهو على شكل تميمة ورقية توضع في علبة فضية صغيرة، لتحمي من يحملها، وترد الشر عنه. ومن الفترة نفسها، يوجد تمائم عليها عصا النبي موسى، على شكل أفعيين متشابكتين أو تنينين متقابلين، وكانت هذه التميمة تعتبر رمزاً مباركاً في المنطقة بكاملها. أما تصوير الأنبياء في المخطوطات، فبدأ مع مستهل القرن 14، في زمن المغول الذين سيطروا على الأجزاء الشرقية للإمبراطورية الإسلامية، ودخلوا بغداد عام 1258، واعتمدوا الإسلام ديناً لدولتهم. وصول المغول إلى أراضي الإمبراطورية الإسلامية ارتبط بالدمار الذي حل في البلاد، وبنهاية الخلافة العباسية على أيديهم. لكن بداياتهم العنيفة في العالم الإسلامي تغيرت في فترة قصيرة، خصوصاً بعد اعتناق قادتهم الإسلام، وأصبحوا من أهم الممولين للفن والثقافة الإسلامية في أراضيهم. ومن أقدم المخطوطات التي وصلتنا، نسخ من هذه الكتب التاريخية:
- كتاب التاريخ "تاريخنامه" لمؤلفه أبو علي محمد البلعمي عام 975، الذي اعتبر ترجمة معدلة لكتاب التاريخ الشهير للطبري (839 - 923).
- مخطوطة "كتاب الآثار الباقية من القرون الخالية" لمؤلفه أبو المسلم أبو الريحان البيروني (973 - 1048)، وهو عبارة عن توثيق للتواريخ التي تستعملها الأمم، والأعياد الدينية عند جميع الأديان، وأسماء الشهور، وتواريخ الملوك.
- كتاب "جامع التواريخ" لمؤلفه رشيد الدين فضل الله الهمذاني (1247 - 1318).
تصوير لقصة النبي موسى في "جامع التواريخ" وخادمات زوجة فرعون يعثرن عليه في النهر. نسخة المخطوطة محفوظة في مكتبة جامعة إدنبرا الإسكندرية
يتمحور ظهور الأنبياء وتصويرهم في هذه الكتب حول دورهم كقادة وكمؤسسين لدياناتهم ولسلالتهم. وقد أعطى الفنانون المسلمون الأنبياء، من خلال تضمينهم في رسومات المخطوطات، أدواراً سياسية، وأنطقوهم بحكم مرئي عن الفضيلة الاجتماعية وبخاصة عن مفهوم العدل، الذي استخدمه الحكام الجدد كأساس لشرعية حكمهم. مع القرن 15، الذي استحكمت فيه سلطة السلالة التيمورية (أو تيمورلنك) في آسيا الوسطى وشرقي إيران، ظهر نوع جديد للسيرة اختص بقصص الأنبياء، واعتمد تصويرهم برسومات ترافق النص المكتوب عن حياتهم وتراثهم الذي تركوه للبشرية. لعل أشهرها، مخطوطة كتاب عرف بـ"قصص الأنبياء" أخذ طابع السرد الشفهي. ويرجح أنه تجميع لقصص كان يرويها قاص قرب الجامع، كنوع من الوعظ الديني والأخلاقي، وترسيخ لنظرة إسلامية للتاريخ والكون. وقد أثر هذا النوع الأدبي، خصوصاً هذا الكتاب، في ازدهار مخطوطات عن قصص الأنبياء في القرن 16.
النبي يوسف بهالة على شكل شعلة نار على رأسه وزليخا. مخطوطة محفوظة في دار الكتب والوثائق القومية في القاهرة
قصة النبي يوسف وزليخا كان لها أهمية خاصة في حلقات الصوفية، التي اتخذوها نموذجاً لتصوير مفاهيم الحب والجمال. واعتمد عبد الرحمن جامي (1414ــ1492) في شعره، القصة كما رويت في القرآن. ولكن في قصيدته "يوسف وزليخا"، تحول النبي إلى رمز للجمال الأكمل في الكون، وزليخا، التي وقعت في حبه، صورت كرمز للبحث عن جمال الخالق، فغدت رمزاً للمتصوفة. هذه القصيدة ألهمت عدداً من الشعراء والفنانين، الذين أعادوا تفسيرها وترميزها في أعمالهم، وما زالت تلهمهم حتى أيامنا هذه.
اكتسب تاريخ الفن البصري ثروة لا تقدر بثمن من خلال إقدام رسامين مسلمين على تصوير الأنبياء الذين سبقوا ظهور الإسلام، وهذه الرسومات، بالإضافة إلى قيمتها الأخلاقية والاجتماعية، هي شاهد ملموس على مستويات التفاعلات الثقافية وتوسع التزاوج في القيم الفنية في العصور التي نفذت فيها تلك التصاوير الفنية.
تنوع منظور تصوير الأنبياء وتناقل قصصهم، وما اشتهروا به من تعاليم ومزايا استثنائية. ومع أن الهدف تضمن إبراز القيم الأخلاقية والدينية الرفيعة التي جاء بها أنبياء الديانتين اليهودية والمسيحية، كان يستخدمها مؤلفو هذه الكتب، كوسيط لإسقاط أفكار، ومقاربة أسئلة أخلاقية وسياسية من ظروفهم ومجتمعاتهم التي عاشوا فيها.
كذلك في الزمن الجاري، حين نستعيد قصص الأنبياء، نسقط عليها أسئلة اليوم، ونصيغها لتحاكي قيمنا المعاصرة. في شعبية قصص الأنبياء التي لم تنقطع في الثقافة الإسلامية أيضاً، ما تقدمه من تأكيد قاطع على اتصال نسب الثقافة الإسلامية بما سبقها، فجاءت تكملة لها. بالإضافة إلى أن العالم الإسلامي لم يكن دائماً عربياً، بل ضم ثقافات عديدة أعطت الإمبراطورية الإسلامية وفنها غنى وشهرة عظيمين.
المصادر: كتاب علاقات المسلمين واليهود (من مطبوعات جامعة برينستون، 2013)
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه