"أكره النهوض من الفراش، لا أجد القوة الكافية لأضع رجليّ خارج نطاق السرير، كل ما أودّ فعله هو أن أغرق بين الأغطية، أشاهد التلفاز وأتناول وجبة طعام "دسمة" وأمضي يومي كله في بقعتي الآمنة...". هذا ما يحصل مع بعض الأشخاص الذين يعانون من حالة الاكتئاب، فيجدون صعوبة كبيرة في مواجهة العالم الخارجي، ويصبح ملاذهم الوحيد هو المنزل، فلا يقوون على مغادرته، خاصة أن الاختلاط بالناس في الخارج يرهقهم ويخنق أنفاسهم. فما هي الأسباب التي تؤدي إلى "تقوقع" البعض على نفسه؟ وكيف السبيل إلى كسر العزلة ومواجهة العالم الخارجي؟
تمرّد العقل وشلل الجسم
يمكن الاكتئاب أن يجعل الأشخاص يشعرون وكأن عقولهم قد تمردت عليهم. في الواقع يختبر كل شخص حالة الاكتئاب على طريقته الخاصة، وفي حين أن الأعراض تختلف من فردٍ إلى آخر مما يحتم التفاوت في العلاج، فإن هذا الوضع يؤثر سلباً على الحياة المهنية والعلاقات العاطفية والحياة الاجتماعية. ولكن هل تتخيلون أن الاكتئاب الشديد قد يصيب الجسد بالشلل التام؟ في مقال لها في صحيفة "سيكولوجي توداي"، تكشف "تيري شيني" أن كل شيء في حياتها قد تغيّر بعد إصابتها بالاكتئاب، فحتى أبسط الأمور الروتينية تحولت إلى عملٍ شاق: النهوض من السرير، الاستحمام، ارتداء الملابس، مغادرة المنزل... توضح "تيري" أن الاكتئاب لا يسلب المرء سيطرته على عواطفه فقط إنما على جسمه أيضاً، متحدثةً عن ظاهرة "psychomotor retardation"، التي تكون في البداية على شكل تباطؤ في المسار العقلي والبدني قبل أن تتفاقم لتصل إلى شللٍ شبه كامل. في هذا الصدد، تشرح "شيني" أن مجرد تحريك الجسم لدى المصابين بالاكتئاب تصبح مهمةَ مستحيلة، وتعطي مثالاً على ما مرّت به في إطار عجزها عن ممارسة أبسط المهمات، تقول:"لنفترض أن أمامي طبقاً فيه لبن الزبادي، وبالرغم من أنني أحب الزبادي، أشعر، بسبب حالة الاكتئاب التي أعانيها، بأني لا أملك الطاقة الكافية أو حتى قوة الإرادة لمدّ يدي إلى الطبق والتهامه". وتضيف أنه إذا كان من الصعب عليها القيام بأمرٍ بسيطٍ من المفترض أن يشعرها بالسعادة، فكيف إذاً القيام بأعمالٍ روتينيةٍ، مشيرةَ إلى أنه مجرد التفكير في النهوض من السرير والاستحمام كان ذلك يغرقها في حالةٍ من اليأس، لدرجة أنها باتت تحلم باليوم الذي ستتمكن فيه من النهوض وتسريح شعرها.أمور لا يفهمها إلا المصاب بالاكتئاب
من غياب الإرادة وفقدان القوة والنشاط وصولاً إلى الألم الجسدي، يمكن لحالة الاكتئاب أن تؤثر على أداء الأشخاص في عملهم، ودراستهم وحياتهم الاجتماعية، وفق ما أكدته منظمة الصحة العالمية. من هنا توضح صحيفة الهافيغتون بوست أن هناك حالات معيّنة لا يفهمها إلا الشخص المصاب بالاكتئاب، وهي التي تحتّم عليه الانزواء والبقاء في المنزل خشية من الاختلاط مع الآخرين. من بين هذه العوامل "المحبطة" التي تعزز فكرة "التقوقع":فقدان الحافز
في الغالب، يختبر الشخص الذي يعاني من حالة الاكتئاب نقصاً في الطاقة وغياب الحافز الذي يجعله يستعيد قواه النفسية والجسدية، من هنا يشرح "جون غريدين"، المدير التنفيذي لمركز ميشيغان للاكتئاب الشامل، أنه نتيجة غياب الحافز، يشعر المصاب بالاكتئاب بأن عضلاته لم تعد تعمل بالشكل السليم،"مما يجعل من الصعب حقاَ الذهاب إلى العمل، والتركيز، والضحك، وإنجاز المهمات المطلوبة".أمراض جسدية
ويؤكد "غريدين" أن اعتبار الاكتئاب حالة مزاجية فقط هو مفهوم مغلوط، لأن هناك أمراضاً تصاحب هذه الحالة، أهمها: عسر الهضم، الغثيان، الصداع، التعب، آلام وتشنجات في العضلات،ج. ويشير "جون" إلى أن هذه الأعراض، إضافةً إلى المزاج السيىء، عوامل مرتبطة بعضها ببعض وتؤثر سلباً على نمط الحياة الروتيني.
فقدان اللذة
علماً أن حالة الاكتئاب يمكن أن تؤثر سلباً على أبسط الأمور الممتعة في الحياة، إذ إن الاشياء التي اعتادت أن تكون ممتعة لدى البعض، تصبح من "دون نكهة". لذا يوضح "غريدين" أن النشاطات الممتعة واللقاءات الحميمة مع الأصدقاء والأحباء تصبح لدى البعض أقل إثارة مما كانت عليه.صعوبة في التواصل
عند الاكتئاب، يجد بعض الأشخاص صعوبة في التحدث مع الآخرين والكشف عمّا يخطر في بالهم من أفكارٍ سلبية، على اعتبار أن لا أحد يستطيع فهم ما يمرون به. وبحسب مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها، تبين أن 25% من البالغين الذين يعانون من مشاكل في الصحة العقلية، يعتبرون أن الآخرين متعاطفون مع أمراضهم العقلية. ويرى "جون غريدين" أن الاكتئاب هو نظرةٌ سلبية إلى الذات وإلى العالم والمستقبل:" كل شيء يُنظر إليه من خلال نظارات داكنة اللون... ومن الشائع أن يشعر المصابون بالاكتئاب أن لا أحد يفهمهم، وهذا أمر صعب للغاية". ويشدد "غريدين" على أن الاكتئاب ليس ضعفاً، أو عيباً أو أمراً جلبه الناس على أنفسهم. وبالتالي لمساعدة الأشخاص الغارقين في الاكتئاب والذين يعانون من فقدان الحماسة للأمور الممتعة، والتقوقع جنباً إلى جنب مع الأعراض الجسدية، يقترح "غريدين" التعامل مع هذه الحالات بعقلٍ منفتحٍ ودعمٍ مستمر، مشيراً إلى ضرورة التخلص من اعتبار الاكتئاب وصمة عار.كيف يمكن التغلب على حالة التقوقع والانزواء؟
إن الشفاء من الاكتئاب والخروج من حالة الانزواء لا تحصل بين ليلة وضحاها، بل هي مسألة معقدة تحتاج إلى وقتٍ طويل ومجهود خاصة، من قبل المحيطين بالشخص المصاب بهذه الحالة، فلا يكفي مثلاً أن يقولوا له:" آن الأوان للخروج من عزلتك"، لأن مثل هذه العبارات قد تكون مؤذية ونابعة عن عدم القدرة على فهم ما يمر به المكتئب من مشاعر متناقضة. يعتبر المعالج النفسي "نتان فايلز" أن خلق الحافز هو أحد أصعب الأمور التي يختبرها الشخص الذي يمر في حالة الاكتئاب، مما يجعله يرى أن أبسط المهمات تستلزم منه أقصى جهد، أما السبب فيعود إلى انتظاره عودة الطاقة من جديد. من هنا يوضح "فايلز" أنه كثيراً ما يقع الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب في فخ "محاولة الإنتظار"، معتقدين أنهم إذا استسلموا للرغبة في البقاء في السرير أو في المنزل لبضعة أيام، فسيستعيدون نشاطهم، غير أن الأمر ليس بهذه البساطة، على حدّ قول "نتان": "إذا أراد الجميع انتظار نوباتهم الاكتئابية، فإن البعض سوف يلازم السرير 20 عاماَ". وعليه، أكد "فايلز" أن إحداث تغيير في طريقة التفكير مع إتباع خطوات سلوكية بسيطة يمكن أن تُحدث نقلة نوعية في حالة الاكتئاب وتساعد الأشخاص على المضي قدماً في حياتهم.إليكم أبرز الخطوات التي تحدث عنها "فايلز" لمساعدة المرء على التغلب على قوقعته:
الخطوة العكسية: من المهم إجبار أنفسكم على القيام بشيءٍ مفيد من أجل محاربة العادات السيئة، فعندما تعلمون مثلاً أن جلوسكم على الأريكة ومشاهدة التلفاز طوال النهار يزيدكم كآبة، فإن الخطوة العكسية هي خروجكم من المنزل على اعتبار أن هذا السلوك يعود بالفائدة الصحية عليكم.
ضبط المنبه: ليس فقط من أجل النهوض من الفراش، إنما يجب أيضاً ضبط المنبه في كل العلامات التي تكون مؤشراَ على الاكتئاب: موعد تناول الوجبات، غسل الملابس... فالمنبه يعمل في هذه الحالة لجذب انتباهكم نحو عملٍ معيّن.
ترتيب السرير: صحيح أن الخروج من السرير قد يكون من أصعب الأمور التي تواجهكم عند الشعور بالاكتئاب، غير أن الخطوة الأولى تكمن في اتخاذ وضعية الجلوس، وضع القدمين على الأرض، ترك المتاعب والأفكار السوداء خلفكم ومن ثم ترتيب السرير لأن ذلك يعطي إشارة لعقلكم بأنه لا مجال للعودة إلى النوم.
غسل الوجه، تنظيف الأسنان وارتداء الملابس: هذه الخطوات البسيطة تجعل عقلكم يفهم أن هناك شيئاً ما تستعدون للقيام به عوضاً عن الاستسلام للكسل والبقاء في المنزل من دون القيام بشيء.
مغادرة المنزل: يمكن أن يكون الخروج من المنزل من أصعب الخطوات بالنسبة إلى الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب، متذرعين بحجة أنه ليس هناك من مكان للذهاب إليه، إلا أن الهدف هو الخروج من هذه "القوقعة" وليس المكان بحد ذاته، وبالتالي ينصحكم "فايلز" بأن تغادروا المنزل، وتغلقوا الباب خلفكم وتفعلوا ما يتبادر إلى ذهنكم: النزول إلى أسفل الشارع، القيام بجولة حول المبنى... الهدف هو تمضية نحو 10 دقائق بعيداَ عن المنزل.
اختيار نشاط محدد: يعتبر تحريك الجسم وسيلة فعالة لبدء الشعور بشكل أفضل، من هنا ينبغي اختيار تمرين واحد على الأقل: المشي، الركض، السباحة، القفز...
رؤية العائلة والأصدقاء: الوجود مع أشخاص مقربين منكم يعتبر من الأمور الأساسية لتحسين الحالة المزاجية، وبالتالي من المهم جدولة مواعيد محددة مع الأصدقاء خارج المنزل، إذ كلما زادت قدرتكم على إخراج أنفسكم من البيئة التي تسبب لكم الاكتئاب، كانت فرصة التغلب على حالة العزلة الاجتماعية أكبر وأفضل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...