الإدمان كلمة تعني المرض والألم والتعلق بشيء سلبي يؤذي صحتكم ويعرّضكم للخطر.
أن تكونوا مدمنين على أحد أو شيء، يعني أنكم لا ترون معنى لحياتكم خارج علاقتكم به. يعني أيضاً أنكم تشعرون بوجودكم فقط حين يكون هو موجوداً، وأن صورتكم الذاتية تتلاشى كلياً لمصلحته. الإدمان على المخدرات، أو الكحول، أو العقاقير، أو العلاقات المدمرة... هذه كلها أمور يحذّر الأطباء والمعالجون من مخاطرها وينصحون ضحاياها بالاعتدال في السلوك.
لكن الواقع مختلف.
فلكل شخص منا تعلّق خاص وعميق بشيء ما، أو بشخص. رغبة تجعله يعشق الإقدام على أمر ما مراراً. أمر لا يؤذينا بل على العكس يشعرنا بالراحة والاكتفاء. علماً أننا، كلنا، بحاجة لذلك التعلق لإعطاء معنى لحياتنا.
كيف يتحوّل الإدمان في حياتنا من سلبي إلى إيجابي؟
لماذا نلجأ إلى الإدمان في الأساس؟
كثيراً ما نقرأ عن شخصية الأشخاص الذين يلجأون إلى الإدمان على مادة أو سلوك سلبي، فهم يوصفون بالحاجة إلى الكذب المستمر لحماية أنفسهم من نقد المجتمع الذي يرى في سلوكهم هذا حالة مرضية تعرضهم للخطر إذا لم يقلعوا عنها. حالة تبعدهم يوماً بعد يوم عن محيطهم لتجعلهم أسرى شيء ما أو شخص معيّن. كما أنهم أشخاص لا يواجهون المشكلة ولا يبحثون عن حلول منطقية. بل يفضلون الهروب إلى وسيلة للتنفيس عن غضبهم أو انزعاجهم بعيداً عن التعامل مع المشكلة الأساسية. نظرياً، فإن حماية هؤلاء الأشخاص من الانجراف أكثر وراء إدمانهم أمر ضروري، لكن الأساس في الجوهر، في الأسباب التي جعلتهم يهربون إلى ذلك النوع من التعلق: التعلق المدمّر. via GIPHY فيما تجمع مدارس التحليل النفسي على أن الشخص بحاجة إلى الانتماء والتعلق بأحد أو شيء ليثبّت جذوره، ويشعر أن له ملجأ وسنداً فتتعزز ثقته بنفسه، تشير دراسات عديدة إلى أن اللجوء إلى الإدمان يأتي نتيجة مشاكل نفسية، وعائلية واجتماعية يشعر خلالها الشخص أنه غير مسموع وعاجز عن المواجهة وفاقد للأمان ولحاجته بالتعلق الإيجابي، فيلجأ حينها إلى وسائل مدمرة إما لمعاقبة ذاته على شعوره بتقصير ما أو ذنب، فيؤذي نفسه عمداً أو عن غير قصد، أو لأنه وجد في تعلّقه الجديد حالاً من الأمان والشعور بالسيطرة. فالمخدرات مثلاً لا تهرب ولا تتركه وحيداً بل تكون دوماً إلى جانبه حين يحتاجها، وهي لا تجادل ولا ترغب في تحويله إلى شخص لا يشبه ذاته. يصبح الشخص حينها غير آبه بالأضرار الجسدية، والنفسية، والذهنية، والاجتماعية. فالحاجة إلى الهروب من واقع موجع أكبر وأعظم من النتيجة. لكن السؤال الأساسي هنا: هل كل إدمان هو سلبي بالضرورة؟ وإن كنا محكومين بالحاجة إلى التمسك بعادة ما أو طقس ما، فلمَ لا يكون ذلك الطقس إيجابياً؟ فعوض أن نحاول سلخ الشخص عن حاجاته، ماذا لو حوّلناها من سلبية إلى إيجابية؟الإدمان الإيجابي وهم أم حقيقة؟
ظهر مفهوم "الإدمان الإيجابي" عام 1976 مع الطبيب ويليام غلايسر بعد عمل طويل مع المدمنين على المخدرات والكحول وغيرهما من المواد المضرة. أبحاث غلايسر وعلاجاته أوصلته إلى استخلاص ما يلي: عوضاً من أن ننزع عن الشخص متعة التعلق بشيء يعطيه الرغبة – حتى لو رافقها الوجع – وإدخاله في حال من الكآبة المرضية والشعور بالحرمان كما يحدث في أغلب الأوقات حين يقلع الشخص عن مادة كان يدمنها، لمَ لا نحترم حاجته تلك أي التعلق والشعور بالانتماء والسيطرة وتحويل رغبة التعلق من عادة سلبية مضرة إلى عادة إيجابية يحبها، وتكون هي محور شغفه. نظرية غلايسر هذه واجهت انتقاداً كبيراً في الوسط الطبي الذي يميل إلى الاعتقاد بأن أي تعلق يكون غير معتدل، حتى ولو كان بالرياضة أو الموسيقى أو الطهو أو القراءة، إذ يغدو نوعاً من أنواع الإدمان، ومن المستحسن الاعتدال في كل شيء. إن كان الأمر كذلك، فما الذي يميّز شخص من آخر؟ وهل يبقى للشغف مكان إذاً؟ ما الفرق بين طاهٍ جيّد وطاهٍ منفرد الذوق والأسلوب؟ ما الفرق بين موسيقى جميلة وموسيقى تجعلنا نطير ونسرح في خيالنا؟ ما الفرق بين نص متماسك ونص يشدّ القارئ ويجعله عاجزاً عن أن يشيح بنظره عنه ثوانيَ؟ via GIPHY الشغف بالشيء يجعل رغبتنا تتحوّل إلى سلوك يومي ممنهج لا نستطيع الاستمرار بدونه. شأنه شأن سلوك الشخص المدمن لكن من دون أضرار جسدية ونفسية. بل بالعكس هذا النوع من الإدمان يعلي من شأن الشخص ويخلق لحياته معنى ومتعة مستمرة. إذاً، من خلال العمل مع المدمن واكتشاف شغفه، لأن لكل شخص شغفاً ما، حتى لو لم يكتشفه بعد، يصبح التركيز ليس على إدمانه السلبي الذي يجب أن لا يلخص شخصيته، بل على مكامن الجمال والرغبة في شخصيته لينميها ويحوّلها إلى نوع آخر من الإدمان: الإدمان الإيجابي.ما هي خصائص الإدمان الإيجابي؟
1 – هو نشاط ترغبون في ممارسته من دون التباري مع أحد أو تحدّي أحد وتكرسون له نحو ساعة في اليوم. 2 – لا يتطلب منكم جهداً ذهنياً مضنياً بل تشعرون بالراحة والصفاء أثناء ممارسته. 3 – تمارسونه وحدكم أو مع شخص آخر، لكنكم لا تنتظرون تشجيع أحد بل تقدمون عليه من دون تردد. 4 – تؤمنون أن ممارستكم له تغنيكم نفسياً وذهنياً وعاطفياً. 5 – تعتقدون أنكم كلما تورطتم فيه أكثر زاد نجاحكم وتطور أداؤكم، وهنا لا تحتاجون لتشجيع أحد بل تعرفون ذلك وحدكم. 6 – النقطة الأخيرة والأهم: لا تنتقدوا أنفسكم ولا تشعروا بأي ضغط أثناء ممارسة ذلك النشاط، بل كل ما تشعرون به هو المتعة. إضافة إلى هذه الخصائص التي حددها غلايسر للإدمان الإيجابي، هناك عامل ثقة الشخص بذاته، فهو على عكس الإدمان السلبي، يزيد كلما زاد استثمار الوقت في النشاط المفضل. إذ ذاك يكون المدمن قد اكتشف موهبته ومصدر شغفه فأصبح لتعلقه سبب وجيه وفوائد كثيرة.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...