خالطاً الواقعي بالمتخيّل، والتاريخ بالأسطورة، والماضي بالحاضر، يكتب محمد ولد أمين روايته، مستمداً عنوانها من اسم بطلتها "منينة بلانشيه" الفتاة الموريتانية التي تزوّجت من حاكم فرنسي واكتسبت لقبه، فأصبح بعد ذلك اسمها مزيجاً من ثقافتين مختلفتين.
تدور أحداث الرواية في مكانين مختلفين: بروكسل حيث جوزيف بلانشيه أو أحمد ولد خيبوزي يحاول بمساعدة طبيب نفسي استعادة سيرة حياة أمّه "منينة"، وموريتانيا حيث عاشت أمّه كل حياتها، وحيث سيعود هو بعد انتهاء جلساته ليستقرّ فيها ويطالب الحكومة الموريتانية بأملاكه.
"في بروكسل، منذ سنة، أقنعني طبيبي وصديقي الدكتور برنارد أن أصوم طويلاً كي أستذكر أمّي. ووعدني برؤيتها. (...) فالدكتور برنارد يعتبر أن الإنسان لا يرث القسمات البيولوجية فقط من والديه بل يرث معها الذاكرة، ويصرّ في أبحاثه على أن الصيام يوقظ الذاكرة البعيدة المطمورة في تلافيف الدماغ".
هكذا، مدفوعاً برغبته في معرفة أمّه عن قرب ومعرفة هويّة والده الحقيقي يدخل جوزيف/أحمد هذه المغامرة، فتبدأ شخصيات الماضي بالتدفّق، وتظهر الصحراء الموريتانية، وينفتح الزمن على ثلاثينيات القرن الماضي. يتعرف إلى جدّه مختار الأعيور شيخ قبيلة المناذير، وقاطع الطرق المشهور، الذي نُسجت حوله الأساطير، ويرى كيف اعتقلته السلطات الفرنسية لتأديبه ثم رحّلته إلى نواكشوط فتبعته ابنته "منينة"، وتعرفت هناك على حاكم نواكشوط باتريك بلانشيه الذي أغرم بها وتزوّجها.
يعالج الكاتب موضوع الهويّة، والانتماء، والصراع الذي ينشأ داخل الفرد نتيجة حيرته في تحديد ولاءاته، وانتماءاته. تكشف الذكريات عقم "باتريك" زوج "منينة" واستعانة الزوجين بحارس المنزل الموريتاني لتنجب منه "منينة" ابنها، وبعد وفاتها يصبح الطفل موضع نزاع بين القنصلية الفرنسية والمحكمة الموريتانية ليبقى حائراً بين هويّتين واسمين: "الطرف الفرنسي اعتبر نفسه منتصراً بتثبيت فرنسيتي، والطرف الموريتاني اعتبر نفسه منتصراً بحكم رعايتي والاستحواذ عليّ (...) أصبحت جوزيف بلانشيه وأحمد ولد خيبوزي في نفس الوقت. وأصبح باتريك بلانشيه هو أبي الذي لم أعرف ويوسف ولد خيبوزي هو والدي".
يصور ولد أمين التراتبية الطبقية في المجتمع الموريتاني، وكيف أن أمور الحسب والنسب، والأصل والفصل، ما زال معمولاً بها حتى الآن عند الزواج. برغم تطور الحياة ومرور السنين وتمدّن الناس وتعلّمهم، إلا أنهم لم يتخلّصوا من عبء هذه التقاليد، لذا يجد البطل نفسه بعد أن يكبر غير قادر على تطوير أي علاقة عاطفية، إذ تقف أصوله المختلطة، وعدم انتسابه لعائلة كبيرة عائقاً في طريق ذلك. "أكثرهن قسوة كانت عائشة التي قالت لي بصراحة: أمّي قالت إنك لست ولد خيمة كبيرة! ضحكت طويلاً منها ومن صراحتها الطائشة، لكني تألمت كثيراً من قصّة الخيمة الكبيرة: كيف لم يستطع البدو نسيان الخيام الكبيرة والصغيرة وقيم الترحال المرير رغم تمدّنهم وتعلمهم وتحضرهم؟".
ترصد الرواية مفاصل هامة في التاريخ الموريتاني، فهي تسرد بعضاً من الممارسات القهرية والإذلالية التي مارسها الاحتلال الفرنسي على الناس، كما تؤرخ لاستقلال البلاد، والمشاعر التي رافقت ذلك من الطرفين، وكيف أُعلن ميلاد الجمهورية الإسلامية الموريتانية، ثم تحويل نواكشوط إلى عاصمة للدولة الجديدة، ومصادرة القلعة التي بناها باتريك بلانشيه لمنينة، وإقامة مباني رئاسة الجمهورية فوق الربوة التي يمتلك جوزيف بلانشيه صكوك ملكيتها، مما يقوده إلى رفع دعوى بعد عودته في 2012 ضد رئاسة الجمهورية الموريتانية بمساعدة أحد المحامين المعارضين.
يصف الروائي وضع الصحافة في موريتانيا وكيف أنها مسيّسة، وخاضعة لأهواء المتنفذين وأصحاب الأموال، الذين يستعينون بها لخدمة مصالحهم. ينصح المحامي موكله بالاستعانة بها بهدف إثارة الرأي العام في قضية أملاكه، "صحافة نواكشوط، رغم بؤسها، لا تخلو من سطوة وخطورة، وهي ليست بالضرورة حثالة ولا مجموعة أفاكين، كما يراها البعض، بل هي عصارة نادرة من الحزن والفقر والثورة. وقد لاحظت أن جلّ الساسة وكبار التجار يمدّونها بالأخبار والمال ويستعينون بها في معاركهم الطاحنة".
تشير الرواية إلى الاحتجاجات التي اندلعت في نواكشوط بعد موجة الربيع العربي، مضيفةً إلى آمال أحمد ولد خيبوزي أملاً جديداً بولادة العدل والحرية في هذه البلاد، تماماً كما ولدت منينة بلانشيه جديدة، ربما ستعيد ما كان لجدّتها من مجد وتبختر وخيلاء!
محمد ولد أمين كاتب وروائي موريتاني، مواليد 1970. حائز ماجستير في العلوم السياسية والحقوق من جامعة لوفان ببلجيكا، وشهادة التخصص العالي في الإعلام من معهد إيبال ببروكسل. كان وزيراً سابقاً للاتصال والعلاقة مع البرلمان ثم أصبح وزيراً مستشاراً في رئاسة الدولة. يُعدّ خبيراً دولياً في قضايا الأمن الإقليمي ويزاول مهنة المحاماة في موريتانيا. نشر روايته الأولى "مذكرات حسن ولد مختار" تحت اسم مستعار "حسن مختار"، و"منينة بلانشيه" هي روايته الثانية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 19 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.