"يوم مرور قوات الجنجويد على قرية يُعتبر يومها الأخير في الوجود". بهذه الكلمات لخّص محمد آدم إدريس، أمين تنظيم جيش تحرير السودان-جبهة عبد الواحد محمد النور، جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها تلك الميليشيات في دارفور، مؤكداً أنه عند ساعات الفجر الأولى يبدأ المصير المشؤوم للقرية المستهدَفة، فتظهر المروحيات في السماء، وتطوّق دبابات الجيش القرية ومداخلها، ويبدأ رجال الجنجويد في أداء مهمتهم القذرة. وتابع: "يُفاجأ أهل القرية بحشود غفيرة تقتحم قريتهم ممتطية الأحصنة والجمال، وتبدأ بدخول المنازل، فتقتل وتنهب، حتى البطاطين، ثم تقوم بحرق المنازل المنهوبة". ولا يتوقف الأمر هنا، بل يستمر بقيام أفراد الميليشيات بإخراج النساء من داخل منازلهن وتجميعهنّ في مكان وسط القرية، ويجردوهن من الملابس، ويتناوبون على اغتصابهن أمام أسرهن، ومَن يعترض يُقتل، يروي إدريس. يتذكّر إدريس المذبحة التي شهدتها قريته "دبس" عام 2003 ويقول: "هناك مشاهد لا يمكن أن تمحى من ذاكرتي. حرقوا مسجد القرية والمصلين داخله أثناء صلاة الفجر، ثم قتلوا أكثر من ألف شخص في قرية تعداد أبنائها خمسة آلاف. يمكنك أن تتخيل طفلاً رضيعاً يُنتزع من أمه ويلقى في النار قبل أن يغتصبوها، أو اغتصاب زوجة أو أخت أمام أهلها".
الصراع في دارفور
دارفور هو أحد أكبر أقاليم السودان. تحدّه أربع دول هي ليبيا، تشاد، إفريقيا الوسطى، وجنوب السودان. وهو إقليم غني بالثروات، ولذلك يشهد عادة تناحراً بين قبائل الرعاة العربية والمزارعين الأفارقة من قبائل الفور والزغاوة والمساليت، على المراعي الخاصة بالإبل والأبقار. ولكن في عام 2003 تحوّل التنافس إلى كتلة من اللهب بعد أن اندلعت فيه الحرب. تختلف أسباب اندلاع أزمة دارفور باختلاف وجهات النظر. فالنظام السوداني يتبنى رواية أنها حرب قبلية، بينما الحركات المسلحة، وأكبرها "جيش تحرير السودان" و"العدل والمساواة"، فترى أنها الرغبة في الإطاحة بنظام الخرطوم وبناء نظام عادل لا يهمّش الأطراف الأخرى، وهو ما ظهر في كتبهم كالكتاب الأسود الذي أصدرته حركة العدل والمساواة. وهناك آخرون يرون أنها صراع بين الرئيس عمر البشير وزعيم الحركة الإسلامية حسن الترابي، ويدللون على ذلك بأن معظم عناصر العدل والمساواة هم من أبناء المؤتمر الشعبي (حزب الترابي). وهناك أيضاً رأي آخر يرى أن الحرب نتيجة لأطماع بعض الدول في ثروات دارفور، وأن الضربات المتلاحقة التي قامت بها جماعات التمرد دفعت الحكومة إلى تجنيد قبائل موالية لها وتصوير الأمر كصراع قبلي.جرائم الجنجويد في دارفور... "يُفاجأ أهل القرية بحشود غفيرة تقتحم قريتهم ممتطية الأحصنة والجمال، وتبدأ بدخول المنازل، فتقتل وتنهب، ثم تقوم بحرق المنازل المنهوبة"
الجنجويد كلمة تتكوّن من شقين "جن" و"ويد"، وتعني جنياً يمتطي جواداً، وهي ميليشيات ارتكتب أبشع الجرائم في إقليم دارفور السودانيبدأت الأزمة على الأرض بقيام حركات بالهجوم على مواقع قوات النظام، مثل جيش تحرير السودان الذي ينتمي عناصره إلى قبيلتي الفور (وهي سلطنة قديمة حكمت الإقليم) والزغاوة التي تمتد بين تشاد والسودان وينتمي إليها الرئيس التشادي إدريس ديبي، ويقودها المحامي عبد الواحد محمد النور، وكذلك حركة العدل والمساواة التي كان يقودها الخليل إبراهيم، وبعد اغتياله في فبراير 2011، تولى قيادتها شقيقه جبريل. ويَعتبر مؤسس العمل المسلح في دارفور ضد الحكومة السودانية ورئيس الجبهة الثورية الديمقراطية صلاح أبو السرة أن النظام يصوّر الصراع الدارفوري للعالم على أنه حرب على "الكلأ والماء" ولذلك أنشأ الجنجويد ليظهر الصراع كأنه صراع بين القبائل العربية وغير العربية في الإقليم، واستخدم جماعات محددة مثل قبائل الرزيقات والمحاميد وأعطاهم السلاح لحمايته. وأكد أبو السرة لرصيف22 أن قصة دارفور بدأت حين قرر التجمع الوطني الديمقراطي السوداني المعارض، وهو مجموعة من الأحزاب السياسية السودانية تشكلت عام 1989 لمعارضة نظام عمر البشير بعد أن استولى على السلطة إثر انقلاب عسكري يوم 6 يونيو 1989. وروى أن عمليات مسلحة ضد النظام بدأت من شرق السودان، خاصة من الحدود الإريترية، ثم نشأت جبهه ضد النظام في دارفور لمساندة خطوط القتال بالشرق، وكلّفه التجمع بفتح هذه الجبة، ولكن شاءت الأقدار أن يُعتقل قبل المعارك بأيام. لم يكن جهاز الأمن السوداني الذي اعتقله يعلم بالدور المناط به، خاصةً أنه من أصول عربية، بحسب روايته التي يتابعها بقوله إن اعتقال قادة العمل المسلح بدارفور من العرب هي ما ساعد في إظهار الحرب وكأنها بين العرب وغيرهم في الإقليم. ويروي أن النظام عرض عليه داخل المعتقل الانضمام إلى آلية تشكيل "الجنجويد"، خاصة وأنه ينتمي إلى قبيلة الرزيقات العربية.
ولادة الجنجويد
يوضح أبو السرة أن كلمة جنجويد تتكون من شقين "جن" و"ويد" وهي تعني جنياً يمتطي جواداً، في إشارة إلى مقاتلي تلك الميليشيات التي تكوّنت من القبائل العربية المتميزة في ركوب الخيل والجمال، الدواب التي تُعدّ رأس مالهم الاقتصادي. أما إدريس، فأكد أن موسى هلال، زعيم الجنجويد بين عامي 2003 و2013، وابن شيخ قبيلة المحاميد (نصّب نفسه شيخاً على القبيلة بعد والده) كان مسجوناً على ذمة قضايا جنائية حُكم عليه فيها بالأشغال الشاقة، وأخرجه النظام السوداني من السجن، عن طريق صفقة عقدها نائب الرئيس السوداني عثمان محمد طه، كلّفه بمقتضاها بمواجهه الحركات المسلحة في دارفور. وأكد إدريس أن موسى هلال بدأ بعد الدعم الحكومي له باستمالة القبائل، وبدأ بقبيلته المحاميد، ثم راح يجمع معظم بطون قبيلة الرزيقات، وأعطاهم أرقاماً عسكرية، أصبحت في ما بعد وحدة اسمها "حرس الحدود"، قامت بالجرائم سالفة الذكر كنوع من الانتقام من القبائل التي خرجت منها عملية التمرد، وهي الفور والزغاوة والمساليت. وفرض مجلس الأمن حظراً للسفر على هلال عام 2006 وجمّد أمواله بسبب دوره المعرقل لعملية السلام في دارفور ووضعت الإدارة الأميركية اسمه على قائمة المشتبه بارتكابهم جرائم حرب في الإقليم.300 ألف قتيل وأكثر من مليوني نازح، و400 ألف لاجئ خارج البلاد، و47 قتيلاً و139 مصاباً من العاملين في الوكالات الأممية في الإقليم هي حصيلة الحرب خلال الأعوام الماضية، حسب الأمم المتحدة. "لم تتوقف جرائم الجنجويد عند دارفور"، يؤكد غالب طيفور، القيادي في الحزب الاتحادي السوداني، ويلفت إلى تغيير مسمى الجنجويد من حرس الحدود إلى "الدعم السريع"، مع بقاء الكيان الأول وحصر دوره بأعمال على الحدود، مضيفاً أنه بعد موسى هلال جاء محمد حمدان دلقو (حميدتي)، وهو راعي أغنام تحوّل إلى قاطع طريق والتحق بالجنجويد. وأكد طيفور لرصيف22 أن الفرق بين حميدتي وهلال شاسع، فالأخير ابن زعيم قبلي معروف ولكنه اختار طريق الشر والنهب، أما حميدتي فهو شخصية نبعت من عدم، ولا يعدو كونه أحد أعضاء قبيلة المهرية، أبناء عمومة هلال، واختير لقدرته على تحقيق جميع مآرب الحكومة من قتل وتعذيب دون سؤال عن الأسباب. ارتكب حميدتي جرائم دموية مثل اغتيال طلبة انتفاضة سبتمبر 2013، ولكن أبشع جرائمة هي جريمة مركز اليوناميد (بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور) في خور أبشي عام 2014. فحين شعر أهالي خور أبشي بأن قوات الدعم السريع قد تداهم قراهم احتموا بالمركز الأممي، وبنوا أكواخاً حول المعسكر، معتقدين أنهم مظلتة الدولية تحصّنهم، حسب ما قال طيفور. ولكنهم فوجئوا مع بزوغ صبح لم يتسنّ لهم رؤية نهاره بقوات الدعم السريع تحاصرهم من كل حدب وصوب، برفقة حميدتي وقائد قواته اللواء عباس عبد العزيز. ولم يأبه المهاجمون لصرخات المواطنين بل أحرقوا الأكواخ والخيم بمَن فيها، وتركوا النار تأكل أجسادهم، ولم يفعل المركز شيئاً سوى توثيق الجريمة.الجنجويد في دارفور... "حرقوا مسجد القرية والمصلين داخله أثناء صلاة الفجر، ثم قتلوا أكثر من ألف شخص في قرية تعداد أبنائها خمسة آلاف"
اختلاف تقنية الجرائم
وأردف طيفور أن تقنية الجرائم اختلفت من عصر هلال إلى عصر حميدتي، فبدلاً من الإبادة الجماعية التي كان ينتهجها هلال بات القتل يعتمد على الاختيار العشوائي للأشخاص، كنوع من ممارسة تهدف إلى فرض السيطرة وإغلاق الأفواه. فتجدهم يختطفون شخصاً ويحققون معه، وإذا كان هو بالفعل الشخص المستهدف يقتلونه وإذا كان قد اعتُقل عن طريق الخطأ، يُعذّب ويُترك لحال سبيله. كما صارت الاغتصابات في عصر حميدتي حالات فردية ولكن بقي اغتصاب الفتيات أثناء خروجهنّ للرعي أو لجلب الماء.تمرّد هلال
يروي الناشط الحقوقي السوداني الدارفوري الطيب محمد جادة أنه بعد شعور هلال بالتجاهل والتهميش من الحكومة بدأ يفكر بالتمرد، وبدأ يعود إلى قواعده في مسقط رأسه، وكوّن حركة تمرد تحت اسم مجلس الصحوه الثوري عام 2014. وعام 2015، سافر هلال إلى مصر، بعد خلاف مع النظام. وفي الشهور الأخيرة وقع صدام مسلح بينه وبين الحكومة، وتقرّب من الجبهة الثورية التي تضم جميع الحركات المسلحة، وحضر ممثل عنه مؤتمرها الأخير في باريس في أكتوبر 2017. وأكد جادة لرصيف22 أن النظام قام بحيلة جديدة للتخلص من هلال من خلال عملية جمع السلاح غير الشرعي في دارفور، في أغسطس 2017، ثم أثار غضبه وقبض عليه. وفسر جادة رغبة النظام بالتخلص من هلال نهائياً في هذا التوقيت بزيارة الرئيس السوداني إلى روسيا والتي، حسب تقديره، فتحت المجال للاستثمار ويبدو أن هناك شركات قد تأتي للاستثمار في جبل عامر الذي كان يسيطر عليه هلال. وقص الصحافي السوداني أحمد القمرابي الفصل الأخير من مسيرة هلال إذ أرسل إليه البشير شيخاً صوفياً كبيراً يُدعى شيخ كدباس وهو من الجعليين أقرباء الرئيس، وأرسل إليه معه إشارات تطمينية بأن حقه محفوظ، مقابل تسهيل عمل قوات الدعم السريع في جمع السلاح من أيدي المواطنين، وذلك قبل أيام من القبض عليه.زعيم الجنجويد موسى هلال، الرئيس السوداني عمر البشير، وممثل عن الرئيس التشادي
وأكد قمرابي لرصيف22 أنه عندما تحقق للنظام جمع السلاح لم تتبقّ أية قوة مؤثرة سوى هلال، فعمل على استفزاز بعض قواته في منطقة قريبة من معقله، أثناء التعزيه بوفاة والدته، وتواجدهم في مكان العزاء، وانهال عليهم وابل من الرصاص وبدأت معركة غير متكافئة انتهت بالقبض على هلال وترحيله إلى الخرطوم. ويقيم هلال حالياً في داره في الخرطوم، في حي أركويت، تحت الإقامة الجبرية، ولا يزال كثيرون من سكان دارفور في معسكرات النزوح، ولا يزال التمرد في دارفور مستمراً، وعملياته تظهر من حين إلى آخر، ولا تزال ميليشيات الدعم السريع تقدّم خدمات القتل للنظام كلما طلب منها ذلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ أسبوعمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ اسبوعينعزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...