يؤكد المتصوفون السودانيون أن مشاركة بلادهم الفاعلة في "عاصفة الحزم" التي تقودها السعودية ضد الحوثيين في اليمن، وإن عادت على الخرطوم بمكاسب سياسية وحصائد اقتصادية، إلا أنها في المقابل تعصف بقرون من التسامح الصوفي الشعبي الذي يسم السودانيين، مفسحةً المجال أمام نموذج إسلامي سلفي يهدد الأمن والسلم الاجتماعيين.
وعليه، اجتمع أخيراً ستون من أعلام التصوف في السودان ليناقشوا أوضاعهم بعد التقارب السوداني - الخليجي، وأعلنوا على لسان متحدثيهم رفضهم التام لما يرون أنه دعم تقدّمه حكومتهم ذات التوجهات الإسلامية بقيادة الرئيس عمر البشير، للتيار السلفي الذي يتهمونه بالتطرف.
ويشكو الصوفيون على وجه الدقة من هامش الحركة الكبير المتاح للسلفيين، وانتشارهم في المؤسسات الدينية، مع السماح لهم بامتلاك قنوات تلفزيونية ومحطات إذاعية خاصة تنشر المنهج السلفي.
بدورهم، يؤكد السلفيون أن التحركات الصوفية الأخيرة هي نتاج غيرة مستحكمة من قدرة التيار السلفي بمدارسه المختلفة على اجتذاب اتباع له في معاقل كانت خالصة للمتصوفين، وبالتالي لا يجد الأخيرون ذريعة ليهربوا بها من مشاكلهم الداخلية غير اتهام الخرطوم بأنها داعم رئيسي للمدرسة السلفية ورموزها.
ويمتلك المتصوفون في السودان رصيداً شعبياً هائلاً، فلهم يرجع الفضل في دخول الإسلام إلى السودان، بعدما فشلت الحملة العسكرية التي قادها الصحابي عبد الله بن أبي السرح لفتح بلاد النوبة. فقد دخل الإسلام مستخدماً قواه الذاتية الناعمة من خلال التعريف بالرسالة المحمدية عبر الدعوة بالحسنى وفن المديح النبوي.
وكان ابن أبي السرح قد أبرم اتفاقية أقرب إلى الهدنة مع ملوك النوبة المسيحيين عرفت باسم "اتفاقية البقط" سنة 31 هـ، وبموجبها سمح بحرية الحركة، فتغلغل رجالات الطرق الصوفية في السودان ونشروا رسالة الإسلام، وتمكنوا بعد قرون من تكوين مملكة إسلامية هي مملكة سنار (1504 – 1821).
مشاركة فاعلة
شارك المتصوفون السودانيون بفاعلية في الحروب ضد المستعمرين. فالثورة (المهدية) بقيادة الإمام محمد أحمد المهدي، مزجت التصوف بالسياسة، وتمكنت من إنهاء الاستعمار التركي للسودان (1821 – 1885) ووضعت حداً لاسطورة الضابط البريطاني المتعاون مع الأتراك، غوردون باشا، وذلك بحزّ رأسه في معركة تحرير الخرطوم التي قادها المهدي بنفسه.
ولما استشعر الإنكليز خطر المهدية، تحركوا لاحتلال السودان بجيش مزود بأحدث أسلحة ذلك العصر، وواجهوا "دراويش" المهدية باسلحتهم البدائية، ليتم القضاء على الدولة المهدية عام 1899 بعد معركة غير متكافئة.
ولاحقاً، نجحت الطرق الصوفية في إذكاء مسيرة الاستقلال، من خلال ثورات محدودة كثورة عبد القادر ود حبوبة في 1908، ومن ثم اتجه المتصوفون إلى دعم قادة مؤتمر خريجي كلية غوردون التذكارية (جامعة الخرطوم لاحقاً) حتى نجحوا في تحقيق مطالب السودانيين بجلاء المستعمر الإنكليزي من البلاد في فاتحة العام 1956.
الصوفيون والسلفيون في السودان: علاقات متوترة وصدامات واتهامات متبادلة وتنافس على نيل رضى السلطة
الصوفية هي القوة الشعبية الأولى في السودان، ولكنها الآن تخاف من تصاعد المد السلفي في البلاد
قوى مؤثرة
يُعتبر الصوفيون القوة الشعبية الأولى في البلاد، بيد أن توزعهم على طرق متباينة دون قدرة على التنسيق المشترك، مع وجود اختلافات شديدة حول مواقفهم من السلطة تراوح بين الاعتزال والمعارضة والمشاركة، علاوة على فشلهم في تثوير مناهجهم، كل ذلك قاد في النهاية إلى نجاح التيار السلفي في إيجاد موطئ قدم له، مستغلاً حالة التسامح الحكومية، والدعم المالي الكبير الذي يصل إلى رموز السلفيين من دول الخليج.
واليوم، يرتفع صوت الزهاد الصوفيين، بالشكوى من مواقف الحكومة التي يرونها نصيرة للسلفيين.
عن ذلك يقول القيادي الصوفي البارز، د. صلاح الخنجر، لرصيف22 إن مساندة الخرطوم للسلفية خطأ لا يغتفر، مضيفاً أن الحكومة باتت تدعم الفكر السلفي من خلال إتاحة الفرصة لأصحاب ذلك المذهب وفتح المجال واسعاً أمامهم في وسائل الإعلام حد امتلاكهم قنوات وإذاعات خاصة في مقابل تضييق الخناق على الصوفيين.
ويستند الخنجر في دعاويه على أمثلة عدة، منها حيلولة السلطات أخيراً دون قيام ندوة كبرى للصوفية بعنوان "التصوف قضايا آنية ومستقبلية"، الأمر الذي يقول إنه يصب في صالح التيار السلفي.
وتراجعت السلطات السودانية عن قرارها بالسماح للصوفيين بإقامة ندوة كبرى في قاعة الصداقة مطلع الشهر المنصرم، بالرغم من حصول قادة الندوة على الإذن الأمني اللازم، وبررت السلطات قراراها بأن هدفها هو منع وقوع توترات وحوادث عنف.
وأعلن الخنجر انزعاجه مما يسميه إبعاد قادة التصوف من الهيئات والمؤسسات الدينية في مقابل تمكين الرموز السلفية الذين استطاعوا بسط سيطرتهم واستصدار قرارات لمحاكمة الصوفيين بموجب المادة (22) في القانون الجنائي الخاصة بالدجل والشعوذة.
واعتقلت الشرطة أحد شيوخ الطريقة القادرية بداية مايو المنصرم، وحاكمته بتهمة ممارسة الدجل والشعوذة، كونه يهب أتباعه تعاويذ تحوي رقى شرعية وآيات قرانية، ما عدّه الصوفيون استهدافاً لهم.
كذلك، لا يخفي الخنجر استياء الصوفيين من سيطرة الأئمة السلفيين على منابر الجمعة بالرغم من اعتراف والي الخرطوم المنتمي إلى حزب البشير، عبد الرحيم محمد حسين، بأن 90% من مساجد العاصمة بناها المتصوفون.
بدوره رفض القيادي الشبابي في جماعة أنصار السنة المحمدية، أواب خالد، دعاوي المتصوفة، وقال لرصيف22 إن "السلفية وصلت إلى السودان منذ الأربعينيات من القرن الماضي، واستطاعت بصبر ودأب أن تخلق لها قاعدة عريضة بفضل خطابها الدعوي الداعي للعودة إلى القرون الخيرية الأولى مع رفض الشركيات في المذهب الصوفي".
واعتبر أواب أن محاولات الربط بين السلفية والحكومة، أو السلفية والخليج، إنما هي محض محاولات لذر الرماد في عيون الناس وإغفال أن الصوفية ومناهجها تسيء معاملة الأتباع.
وتوجه انتقادات حادة للمتصوفة من جراء استخدامهم الكي بالنار أو الجلد بالسوط في علاج بعض حالات المس والذهان، جنباً إلى جنب انتقادات لهم بشأن تردي البيئة في الخلاوي (مقار تحفيظ القرآن)، وتردي نوعية الطعام المقدم.
غير أن قادة التصوف يعبّرون عن ثقتهم في الطرق العلاجية المستخدمة التي توارثوها، مشددين على أن الخلاوي وإن بدت فقيرة فهي ترقى بالنفوس إلى مرحلة الزهد المطلوبة في المتصوف، هذا مع تذكيرهم المستمر بأن الخلاوي ظلت على الدوام ملجأ للجائع الفقير ولمَن تقطعت به السبل.
وكانت الحكومة السودانية الواصلة إلى الحكم عبر الانقلاب العسكري في يونيو 1989، قد استعانت في بواكير عهدها بقادة الطرق الصوفية لحاجتها الماسة للدعم الشعبي بحسبان أن الصوفي يتبع شيخه عادة في انقياد أعمى (من أقوالهم: كن بين يدي الشيخ، كالميت بين يدي غاسله) وبالتالي فإن تقريب قادة الطرق الصوفية يعني اكتساب الحكومة لأتباع كُثر.
وحظيت الحكومة السودانية في بداياتها بعدة بيعات من رجالات الطرق الصوفية، أشهرها لقاء المباركة الذي ضم البشير وزهاء 300 رمز صوفي، على رأسهم الشيوخ الكباشي والصابونابي ومصطفى الفادني. وبرر المتصوفون ميلهم للحكومة وبرامجها، بحسبان الأخيرة ترفع شعارات إسلامية.
يجدر الذكر أن الرئيس البشير اختتم حملته لانتخابات عام 2015 من داخل مسيد (مجمع صوفي ضخم) الشيخ الكباشي، وهو من كبار رجال الطرق الصوفية، وتلقى هناك بيعة مشايخ الصوفية الذين باركوا له الفوز مقدماً.
سبب ثانٍ قاد الحكومة إلى الدخول في تحالفات مع رجالات الطرق الصوفية، تمثل في مساعيها لضرب أكبر حزبين في البلاد (الاتحادي الديمقراطي والأمة) كونهما يعملان تحت رعاية أكبر طريقتين صوفيتين (الختمية والأنصار) وذلك على التوالي، من خلال خلق مراكز جديدة للتصوف.
وضيقت الحكومة في بداية عهدها على رجالات الختمية والأنصار، فاضطر كثيرون منهم إلى مغادرة البلاد، بمن فيهم راعي الطريقة الختمية محمد عثمان الميرغني، وإمام الأنصار، الصادق المهدي.
فرص
ما هي الفرص المتاحة أمام المتصوفين والسلفيين قرباً وبعداً من الحكومة السودانية؟ سؤال طرحناه على الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية، الهادي محمد الأمين، الذي أجاب بأن الحكومة السودانية استطاعت على الدوام إيجاد معادلة تحافظ بها على علاقاتها بالحركات الإسلامية، سواء في السياسية (في مرحلة السلفية الجهادية، حماس، الإخوان المسلمين) أو المذهبية (الصوفية، السلفية، وحتى الشيعة).
ويقطع الهادي بأنه عقب حظر المظاهر الشيعية وإغلاق الحسينيات الإيرانية في 2015، اتجهت الحكومة السودانية التي تعاني من صعوبات اقتصادية، إلى الخليج برساميله النفطية، الأمر الذي دفعها إلى إفساح المجال أمام الجماعات السلفية، لكن مع المحافظة على أواصر العلاقة بالصوفية، وإن اقتصر ذلك على زيارات ينفذها المسؤولون إلى البيوتات الصوفية مع إقرار مستمر بدورهم في الحياة العامة.
وفي وقتٍ يصف الخنجر علاقة الصوفيين بالحكومة بالجيدة، كونها ترفع راية الإسلام، دعا إلى إشراكهم في الشأن العام بما في ذلك السياسي بدلاً من اللجوء إليهم فقط في حالات الحشد والانتخابات، وقال إنه بحالة استمرار تجاهلهم لصالح "الإسلام النجدي" الذي سبق لأفراده أن دخلوا في مواجهات مسلحة ضد الحكومة، فمن غير المستبعد التئامهم في حزب سياسي ينتزعون من خلاله حقوق المتصوفين.
وقضى جندي يتبع لقوات الحياة البرية، إثر معركة دامية، مع خلية مكونة من 30 شاباً أثناء تلقيهم تدريبات في محمية الدندر الطبيعية عام 2012 لأجل تنفيذ هجمات إرهابية، وقتل موظف المعونة الأمريكية جون غرانفيل ليلة رأس السنة 2008 على يد عناصر متشددة في قلب الخرطوم، وجرت مذبحة في "كمبو 10" بولاية الجزيرة وسط البلاد إثر صدام بين الشرطة ومجموعة سلفية متشددة عام 1993.
واستضافت الخرطوم مطلع التسعينيات قادة العمل الجهادي القادمين من الحرب الأفغانية، وعلى رأسهم أسامة بن لادن، الذي غادر الخرطوم إلى أفغانستان بضغوط أمريكية عام 1996، ومن ثم تحول إلى زعيم القاعدة والمطلوب رقم (1) في العالم.
في المقابل، أسبغ أواب خالد توصيفات الخنجر نفسها على علاقات السلفيين بالحكومة، وقال إنها جيدة، خاصة أن قادة السلف يتسمون بالوسطية، ولهم أدوار بارزة في مكافحة الأفكار المتطرفة والشركية.
وكانت رئيسة قطاع الفكر والثقافة بحزب المؤتمر الوطني الحاكم، انتصار أبو ناجمة، قد نفت بشدة أن تكون الحكومة تضيق الخناق على الصوفيين الذين عدتهم من ممسكات الوحدة الوطنية. بيد أن التصريحات القيادية نفسها في حزب البشير حملت رسالة مبطنة إلى السلفية، حين أكملت قائلةً إن المجال متاح أمام الجميع للتعبير عن آرائهم وأفكارهم في إطار القانون.
واقع قاتم
يعكس الواقع السوداني صورة قاتمة لعلاقات المتصوفة والسلفيين، وحالة احتقان وصلت حد إحراق أضرحة للمتصوفة، وحالات صدام دامٍ كما جرى في ساحة المولد النبوي بأم درمان، حين نشب قتال دامٍ بين متصوفين ومجموعة سلفية نصبت خيمة لها في الميدان للقول ببدعية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف.كذلك وقع صدام في مجمع للسلفية في منطقة الزريبة التي تعتبر أحد معاقل المتصوفين بإقليم كردفان، غرب السودان، حين هاجم ملثمون بالأسلحة البيضاء المجمع وأبرحوا الموجودين فيه ضرباً حد إحالة كثيرين منهم إلى المستشفيات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ يومينالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 3 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت