ساءت الأوضاع في السودان بعد الانفصال عام 2011، خاصة في مجال الحقوق المدنية وصيانة الحريات.
زاد من حدة الأزمة ما رافقها من عقوبات وحصار اقتصادي، ارتفع معه نطاق التعسف والتضييق على الناس، وانعكس سلباً على مستوى الحريات العامة، وعلى مجال نشاط الحقوقيين، والصحفيين والأكاديميين، ودعاة الإصلاح.
ولكن التأثير الأقسى طال التنوع والتعديدة في المجتمع السوداني، وأثر بشكل مباشر وكارثي على مسيحيي البلاد، لأن الحكومة استخدمت الدين الإسلامي لسنوات طويلة في محاربة "الجنوب"، وأعطت الصراع السياسي طابعاً دينياً.
وبدلاً من أن تلتزم الحكومة بحماية كامل مواطنيها ورعايتهم، أصبح المسيحيون منهم يتعرضون للتمييز والاعتقال، ويتمّ إغلاق الكنائس تحت ذرائع مختلفة.
ونتيجة لذلك نزح كثيرون، بينما وجد من اختار البقاء طرقاً للتأقلم.
تناقلت وسائل الإعلام ما قاله البشير في أواخر يوليو/تموز 2017، لكبير أساقفة كانتربري، جاستن ويلبي، خلال زيارته للسودان، حيث صرّح أنّ "البلاد تشهد تعايشاً سلمياً بين المسيحيين والمسلمين حتى على مستوى الأسرة الواحدة كإخوة متحابين. فالكنائس لم تتعرض لأي اعتداء على مدى التاريخ، ما يؤكد أن المسيحيين في السودان ينعمون بالسلام ويعيشون في محبة"، كما أوردته الحياة.
أصاب تصريح البشير المسيحيين بصدمة بالغة، وبخاصة أنه تزامن مع تداول خبر صدور قرار عن وزارة التربية والتعليم بولاية الخرطوم بإلغاء "عطلة يوم الأحد" في المدارس الكنسية، على أن تكون العطلة يومي الجمعة والسبت، وهو ما ذكّر الجميع بكل التجاوزات التي شهدتها البلاد على مدى السنوات الماضية.
ونفت الوزارة أن تكون قد اتخذت هكذا قرار، إلا أنه جرى تداول كتاب أرسلته إلى إحدى المدارس وينص صراحة على أن تدرّس الأحد. وتعتبر الوزارة أنها طلبت ذلك لضرورة إكمال عدد أيام معيّن خلال العام الدراسي.
يقول فيليب كوكو، المواطن السوداني الذي يعمل في المجلس الثقافي البريطاني في الخرطوم، إنه لا يوجد مسيحي في السودان ينكر وجود اضطهاد ديني كبير، فالمضايقات الأمنية ضد رجال الكنيسة لا تتوقف. كما أنه من الصعب أن تحصل على فرصة عمل حكومية، طالما أنت مسيحي، مشيراً إلى أن معظم المسيحيين يعملون في المنظمات والسفارات الأجنبية فقط. مع غياب سطلة الدستور وفعالية الضغوطات الدولية، من يحمي حقوق الشعب السوداني وحرياته؟
عندما استخدمت السودان الدين كواجهة لحروبها، ضحّت بالحريات الدينية لمواطنيها المسيحيين
ويضيف لرصيف22: "قدر ما كنت أريد أن ينفصل الجنوبيون ليحصلوا على حريتهم، بعدما ظلموا كثيراً، كنت خائفاً أيضا أنه بعد انفصالهم، سيزداد اضطهادنا كمسيحيين شماليين، لذلك ما كنت أريد أن يتم الانفصال"، مضيفاً: "صراحة السودان بقت دولة إسلامية مية المية وإحنا بقينا كإننا ما لينا وجود"، في إشارة منه إلى التوجه الإحادي الطابع وغياب مراعاة التعديدة الدينية في سياسات الحكومة منذ الانفصال.
إنّ الطابع التبشيري الموجه بطبيعة الحال للمسلمين، هو ما يزيد قلق السلطات، ويتسبب بمزيد من التضييق على المسيحيين، كما هو الحال في المعاداة الصارخة لممارسة "التبشير" (من اعتقال وتهم وتشكيك)، حيث أنّ شرعية الحكومة منذ الانقلاب عام 1989، وبشكل متزايد بعد انفصالها عن الجنوب، باتت تتكئ بكاملها على هويتها الإسلامية بشكل إقصائي، وهذا ما تستخدمه في توسيع صلاحياتها على حساب الحقوق التي ينصّ عليها الدستور.
يقول القس إسحاق حسن، أحد القساوسة السودانيين، إنه لا يبغي من الدنيا إلا التبشير بكلمة الإنجيل، فكان يجوب القرى والمدن داعياً إخوانه في السودان لـ"رسالة الميسح" حتى جاء اليوم الذي خشاه جميع مسيحي الشمال، وانفصل الجنوب، ليبقوا هم "الفريسة" التي يستهدفها نظام البشير، حسب تعبيره.
فبعد أن كان التبشير ممارسة دينية، يختارها القساوسة، كلّ بحسب إرادته، أصبحت بعد الانفصال شأناً حكومياً، حيث أخذت بعداً سياسياً في علاقة السودان بجنوب السودان، وأصبحت الحكومة تنظر إليه كتهديد لسلطتها.
ويروي إسحاق حسن قصته، قائلاً: "بينما كنت أعلّم الناس في دارفور عن الدين، ألقت قوات الأمن القبض عليّ بسبب تشغيل فيلم (المسيح) وضربوني وقالوا (كيف تكلم الناس عن المسيحية، لا مسيحية هنا)، قبل أن أتمكن بمساعدة الأهالي من الهروب، واصطحبت أسرتي وانطلقت إلى مصر عبر ميناء حلفا".
ويضيف لرصيف22 أن الحكومة تقمع أي محاولة لنقد التمييز ومناقشته، بالتلويح بتهمة "نشر الأخبار الكاذبة... التي تواجه بها سلطات الأمن كل من أراد الحديث عن قضية الاضطهاد الديني في السودان".
ويتابع أنه بعد الانفصال صادرت السلطات عدداً من الكنائس واستخدمتها كمبانٍ حكومية، "كما أغلقوا و"شمعوا" كنائس أخرى، غير التي هدّمت، هذا بالإضافة إلى اعتقال العشرات من رجال الكنسية في السودان".
ويوضح: "رغم أني هربت من السودان، وعانيت ما عانيت في مصر، إلا أنني حظيت بفرص أفضل من أخوتي في السودان، فمنهم من أعتقل لأكثر من عام ومنهم من لم يستطع الدعوة إلى 'كلمة الإنجيل'".
وعن موقف رجال الدين الإسلامي في السودان من اضطهاد المسيحيين، يقول: "لم يحاول أي من رجال الدين الإسلامي نصرة المسيحيين المضطهدين، فنحن خارج حسابات الجميع، ولكن الحق يقال إنه ليس بمقدورهم الحديث، فمن يتكلم ينكّل به".
ويختتم القس حديثه بأن الكثير من المسيحيين الذين غادروا البلاد لن يعودوا إلا برحيل حكومة الإنقاذ، لأنهم مسجلون لديهم، وقد يتعرضون وأسرهم للأذى في حال عودتهم.
تعليقاً على هذه النقاط، يقول ديماس جيمس مرجان، المحامي والمستشار القانوني لطائفة كنيسة المسيح السودانية، "إن الكنيسة تعاني التمييز في كل ولايات السودان، فمثلاً: لا يمكن لها الحصول على قطعة أرض، على سبيل التخصيص، كواحدة من الحقوق الدستورية للكنيسة ومنصوص عليه في المادة (6) من دستور السودان المعدل في 2015، وحتى تلك التي يشتريها المسيحيون –من حرّ مالهم- لتبنى عليها الكنائس، هي الأخرى عرضة للمصادرة أو الإزالة".
كما أضاف: "في 2016، أصدرت سلطات الأراضي بوزارة التخطيط والتنمية العمرانية بولاية الخرطوم قراراً بإزالة 27 كنيسة تحت ذريعة التعدي على الميادين العامة والأراضي الحكومية، علماً بأن تلك الأراضي تحوز عليها الكنيسة وأخرى اشترتها منذ وقت بعيد شملها أمر الإزالة".
وتابع: "عندما تخطط الحكومة أي منطقة تستثني الكنيسة من عملية التخطيط؛ لتعتبرها لاحقاً متعدية، فهذا أمر إن دل على شيء فإنما يدل على النية المسبقة لإزالة الكنيسة عن الوجود".
وفي مجال التعليم، يقضي الطلاب المسيحيون في السودان عطلة نهاية الأسبوع في مجمعات تعليمية لدراسة مادة التربية المسيحية على يد متطوعين، لأن الحكومة لا تعين لهم أساتذة ولا تعدّ لهم أماكن للدراسة أسوة بالمسلمين.
بالرغم من الصمت على هذا الظلم، يقول مرجان أنّ "هناك الكثير من الزملاء المحامين المسلمين تضامنوا معنا في كثير من قضايا الاضطهاد الديني في السودان، كما عبر الكثير من المواطنين المسلمين عن رفضهم لسلوك الدولة تجاهنا".
في حديث للناشط الحقوقي، الطيب محمد جاده، لرصيف22، ناقش التعسف والاضطهاد بحق المسيحيين، وعلّق أنّ "الحكومة في السودان استغلت الدين الإسلامي في محاربة الأخوة في جنوب السودان، والدليل على ذلك الحروب الشرسة التي خاضها حزب المؤتمر الوطني ضد الجنوبيين".
وأضاف: "زاد الاضطهاد للمسيحيين في شمال السودان بعد الانفصال، فأزالت الحكومة دور العبادة المسيحية، واعتقلت القساوسة، حيث تعكف الحكومة على استثمار أماكن دور العبادة المسيحية".
وأكد الطيب، أن الحكومة السودانية تريد التخلص من المسيحية في شمال السودان نهائياً، مشيراً إلى أنّ التقارير الدولية لم يعد لها تأثير فعّال، فهناك أكثر من تقرير دولي لم تعره حكومة الخرطوم أدنى اهتمام. وأردف أن "الحكومة السودانية لم تحترم الحريات الدينية المنصوص عليها في الدستور والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان".
وطالب الناشط الحقوقي المجتمع الدولي بالتعامل مع حكومة الخرطوم بالجدية الحاسمة تجاه تقارير المنظمات الدولية بشأن المسيحيين وحقوق الإنسان وحرية ممارسة الشعائر الدينية ودور العبادة، موضحاً أنه بصدد رفع مذكرة لمنظمة (هيومن رايتس ووتش)، "احتجاجاً على استهداف أخوتنا المسيحيين".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...