شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"عزلة، وتأمل، وحميمية، وثقة، وأورجازم": القاموس العاطفي والنفسي لثورة 25 يناير

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 26 يناير 201902:26 م
ماذا حدث في 25 يناير؟ كيف فعلنا ما فعلناه؟ هل يمكن أن يتكرَّر مرة أخرى مع تلاشي الأخطاء؟ هل فشلنا واستحال الربيع العربي إلى خريف من الاستبداد والإرهاب؟ هل من طريق للعودة مرّة أخرى؟ ثماني سنوات مرت على ثورة يناير، كبر الجيل الذي انخرط في الميادين، وبات أفراده الآن إما مقموعين في السجون، أو موظفين وعاملين، أو مهاجرين ومنفيين، ويتم طرح أسئلة شبيهة حول هذا الحدث، الذي شكَّل مسار مشاعرنا وشخصياتنا. 25 يناير هي المرة الأولى التي انكسر فيها حاجز الخوف، وتعرَّفنا على آخرين يشبهوننا في التفكير والاختيارات، نحن لسنا مختلفين، كأنَّ البيوت والشوارع انفجرت بشراً، ليسوا حشود زومبي، ملامح بشرية تهتف باسم الحرية بصدور مفتوحة أمام الغاز المسيل للدموع، والرصاص الحي، والدبَّابات.
فور دخوله مع الحشود، تحوّل، ولم يكن يدري حينها أنّ شخصيته تغيرت للأبد، صاح في صديقه إسلام: "حاسس اللي انا حاسسه"، "أيوة"، "هو إيه ده"، "ده الإحساس بالحرية يا علي".
تشكلت شوارع محيطة بميدان التحرير من شباب أصحاب نمط متحرر، مستمتعين بشرب المخدرات، وتبادل القبلات، في شارع يسمى "شارع الشعب"، اتخذ اسم "شارع الضريبة"، وأحيانًا "شارع الثورة".
تحدثتُ مع صديقين، علي، 36 عاماً، يعمل بالتدريس الآن وناشط في مجال السينما، ومحمد، 31 عاماً، يعمل في المسرح بجانب عمله في شركة دعاية، نتذكر ما حدث، ونطرح الأسئلة مرة أخرى.
يقول محمد إنه كان خائفاً، "من رابع المستحيلات أن أشارك في مظاهرة"، ولمَّا اندلعت ثورة الخامس والعشرين من يناير، وتداول هو وأصدقاؤه مقاطع الفيديو لاقتحام ميدان التحرير، وصمود شباب السويس أمام الشرطة، حتى "كسروا شوكتها"، بعد وقوع عشرات القتلى، دب فيه الحماس، ولكن الخوف لا يزال متربصاً في روحه، في تظاهرات الثامن والعشرين من يناير، بعد صلاة الجمعة في مسجد "العباسي"، الذي انطلقت منه تظاهرات 28 يناير في شبين الكوم، ظل يتفرج على المشاهد من بعيد، ما بين القنابل المسيلة، وكر وفر، وهتافات تُندّد بمستوى المعيشة، وتُطالب بالعدل والحريات، حتى رأى مجموعة من أصدقائه، حينها كانت اللحظة البكر لعلي، وكان مبرره أن ما سيحدث له سيحدث لأصدقائه، ويجب ألا يفارقهم. يشير الباحث الاجتماعي الإيراني آصف بيات في كتاب: "كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط؟" إلى أنّ الشوارع بحكم طبيعتها هي "المسرح الحضري الحديث" للتعبير عن الاحتجاج، في الثورة الفرنسية، والحركات العمالية في القرن التاسع عشر، وحركات الهيبية المعادية للحرب في فيتنام، والثورات المخملية في أوروبا الشرقية، والحركة العالمية لمناهضة الحرب، واحتجاجات الربيع العربي. في الشارع يمكن لأهل البيت والغرباء والناس العادية البعيدة عن الهياكل التنظيمية أن ينضموا إليك، ويُمثّلوا كياناً معقداً تتشكَّل فيه المشاعر والآراء وتنتشر، ويتمّ التعبير عنها بطريقة فريدة، لذا حرصت الشرطة المصرية، بحسب بيات، على استخدام تكنيك في محاصرة المتظاهرين في ركن معين، وفصلهم "عن التدفق الطبيعي لحياة الشارع" كما حدث في ربيع 2002 بالقاهرة، "هذا التكنيك تم اختراعه لمنع إمكانية امتداد المشاعر للعابرين أو المارة"، وهدف الشرطة هو منع "العدوى" من الوصول من النخب السياسية المعارضة إلى الناس العاديين، وهو ما فشلت فيه الشرطة عام 2011. https://www.youtube.com/embed/mIBGIYf4hvE شعر محمد بألم بالغ في معدته، اكتنزت تلك اللحظة الكثير من المشاعر لديه، حيث رسم خوفه القديم والمُتأصِّل في طبعه سيناريوهات الاعتقالات، والتعذيب، أو على أفضل تقرير الموت برصاصة حية، إلّا أنه فور دخوله مع الحشود، تحوّل، ولم يكن يدري حينها أنّ شخصيته تغيرت للأبد، صاح في صديقه إسلام: "حاسس اللي انا حاسسه"، "أيوة"، "هو إيه ده"، "ده الإحساس بالحرية يا علي". في مقال للدكتورة تشيكي ديفيس على موقع "سايكولوجي تُدي" حول المشاعر الثورية، وما يمكن أن تعلمنا إياه، تقول إنها طوال مشاركتها في حركة "مسيرة النساء"، باتت تسأل نفسها: من أنا؟ أنا لستُ شيئا هامًا، أنا مبتدئة بالكامل في السياسية، ولست خبيرة أو ناشطة، لماذا أجد نفسي منساقة إلى ثورة؟ تجيب على نفسها كطبيبة نفسية: إنه حدسي الذي يقول لستُ أنا وحدي من أفكر بتلك الطريقة، فممَّا أسمع هذه الحركة شكَّلها أناس شبهي، أشخاص لم يكونوا سياسيين من قبل. لذا مدفوعة بتلك المشاعر والدوافع صمَّمت على النزول إلى التظاهرات، شيء ما يحدث، شيء ما كبير، وأتساءل لماذا بالضرورة يحدث الآن؟ تصف ديفيس ما يحدث في معدتها: مشاعر غريبة، حساء مركب من الغضب، والأمل، والعاطفة، يبدو كنار تحترق في الداخل، الطريق غير واضح، التأثير غير مؤكد، ولكنها مشاعر متقدة تتغلب على خلايا عقلي، في كل سنوات دراستي للعواطف لم أر أو أشعر بذلك من قبل. INSIDE_Jan25Emotions3 هذه التعبيرات المحملة بالعاطفة خرجت بطريقة غير كاملة أو مهذبة، ولكن بالتعبير عنها، بحسب ديفيس، تحوّلت العواطف إلى شيء جديد، ويختبر المتحدثون باسم الحركة راحة نفسية تُمكّنهم من الحركة للأمام بفاعلية أكثر، وبلا خوف، وبالنسبة لمن يستمعون إليهم يكتسبون بصيرة داخل تلك المشاعر التي لم نتطلع اليها في السابق، عندما نكشف الأسرار، ونفتح عيوننا باتساع، نستطيع للمرة الأولى أن نعالج أسباب تلك المشاعر لأننا بدأنا نعي وجودها. ليست ثورة يناير بدعاً من الثورات، فقد سبقتها تظاهرات أحدثت فلسفات، بل وتلتها أيضاً كذلك، ثورة الهيبية لتي تجسدت في "صيف الحب" في "نكسة" 1967، وكذلك حركة "مسيرة النساء" التي برزت بعد تمكن دونالد ترامب من رئاسة أمريكا، وكانت حركة "وأنا أيضاً" من أبرز تداعياتها. تُثمّن تشيكي ديفيس الباحثة النفسية المشاعر التي تدفع للسلوك بشكل عام، "مجموعة محددة جداً من العواطف" هي التي تقود الثورة، وليس شيئاً آخر. توضح أنّه بعد أن قضينا حياتنا في الكبت، مسيرة النساء، وحركة "أنا أيضا" عبَّرت بعمق وتجاهلت للمرة الأولى العواطف الجنسية، والاعتداء، وكراهية النساء، وتُحدّد ديفيس المشاعر المحركة للسلوك الثوري في ثلاثة: الأمل، التواصل الاجتماعي، الشعور بالهدف والمغزى.

الأمل والشعور بالمسؤولية

تكتب ديفيس أنَّ الأمل مرتبط بقدرتنا على تحقيق الأهداف، ويتطلَّب "الطريق والقدرة"، وإذا توافر هذان العنصران يصبح لدينا أمل، وتسمي ذلك بـ"عقلية النمو"، تؤمن بما تريد وتعرف أنّك ستحققه إذا عملت عليه، بينما صديقي علي يسميها "اليقين"، اليقين بأنَّ كل مشاكلنا ستُحلّ فور نجاح الثورة، هو الذي دفعه إلى المشاركة فيها، والذهاب لميدان التحرير، بدون هذا اليقين في غد أفضل، لم يكن ليتحمل أهوالًا مثل أن ينقل شخصًا فُتح دماغه وبرزت خلاياه العصبية مخضبة بالدماء بين يديه، ذكريات مثل تلك لا يتمنى حتى أن يتذكرها. https://www.youtube.com/embed/ezI2ZQ6sIX4 بينما يرجع فاتسفل هافيل، أحد قادة ربيع براغ البارزين وكاتب مسرحي، في كتابه "قوة المستضعفين" دافع الناس العادية للثورة إلى "الإحساس بالمسؤولية"، التي تحاول الأنظمة أن تسلبها منه، عندما يشعر أنَّه يتحمَّل مسؤولية تردي أوضاعه الخاصة، ومآسي العالم، عندما يرفض بائع الخضروات أن يُعلّق لافتة الحزب أو صورة الزعيم على محله الصغير، ويعلق بدلاً منها شعارات تطالب بالعدل والحرية ولو بسيطة، فسيتحول هذا الفعل إلى ثورة، الشعور بالمسؤولية هو يمد المستضعفين في كل بلد بتلك القوة التي لا تُقهر. 

الحميمية مع الآخرين

العنصر الثاني بحسب ديفيس "التواصل الاجتماعي"، الإحساس بأننا متعلقون بعضنا ببعض، نلاحق أهدافاً مشتركة، ونعمل كفريق، نشعر أنَّنا أقوى، كُلّنا نجلب "قوى فريدة" إذا حضرنا جماعات وليس فرادى، نعرف يقينًا أنَّه لن يفصلنا أو يكسرنا شيء. اللحظة الثورية تصبح لحظة هادفة، عندما يتم كشف الستار عن الصورة المشوهة التي تقبع خلف روتين يومنا، وبرامج التلفزيون، والذهاب إلى العمل، عندما تصل الحركة إلى الزخم، هناك الكثير يجب العمل عليه، انخفاض الأجور، وحشية الشرطة، السلوك الجنسي المتوحش، نستطيع فعل شيء ما. تقول ديفيس عن نفسها أنها لطالما عاشت حياتها انطوائية، لم تمارس الرياضة في الثانوية العام، ليست ناشطة اجتماعية، ولكن "مسيرة النساء" هي الحركة التي تريد أن تكون جزءًا منها، أشخاص ليسوا سياسيين أو لم يمارسوا السياسة من قبل مثلي، وربما لا يطمحوا أن يكونوا سياسيين، الإحساس بمشاعر ثورية تتدفق في أوردتها، وعندما ينضمُّ العاديون إلى حركة، ويُساقون لفعل شيء، ما فهذا ما يصنع الثورة. INSIDE_Jan25Emotions4 أما معتز عطا الله، وهو يعمل باحثاً في مجال التعليم وأحد الذين نشطوا في ميدان التحرير، يوجز مشاعره في الأيام الأولى لثورة 25 يناير بأنها "الحميمية"، هي الكلمة التي تخطر على ذهنه بشكل سريع للغاية عندما يُسأل عما حدث هناك. ويشرح نفسياً ما حدث له ولأصدقائه في ميدان التحرير بأنَّها حالة من القرب الاستثنائي من الناس، هذه الحالة أتيح لها أن تنضج على نار هادئة لتصبح مُميّزة جداً. يشرح أوشو مفردة الحميمية مضفياً عليها بعداً آخر، في كتاب "الحميمية الثقة في النفس والآخر"، أنَّها هي التي تحوّل الآخر من "غريب" إلى إنسان، وتعني "أن تكشف نفسك أمام الغرباء"، تُسقِط كل إسقاطاتك التي تضعها عليهم، تتجاوز آليات خوفك منهم أو دفاعاتك، التي شكلتها السلطة ومؤسساتها عبر آلاف السنين. "الثقة" هي الكلمة المُفضَّلة لكارولين جارسيا التي كانوا يسمونها "فتاة الجبل" في حركة "صيف الحب" الهيبية، تُعرّف الثقة: "إنَّها لحظة سحرية..هذه حركة تحرُّر، أوقات المشاركة التي كانت متفردة للغاية، وتحمل الكثير من مشاعر الثقة"، كارولين أنجبت من أحد مصممي الحركة، جيري جارسيا. يتأمل جوي مكدونالد، أحد نشطاء الهيبيين البارزين، ثورات الربيع العربي، ويعتبرها "نسخة" من "صيف الحب": "صيف الحب أصبح معبداً، الربيع العربي مرتبط بصيف الحب، حركة "احتلوا وول ستريت" مرتبطة بصيف الحب". ويرى أن "صيف الحب" هو "الوضع الحالي الجديد"، حيث بات الكل يريد ممارسة الجنس، يريد المتعة، يريد الأمل، لقد فتحنا الباب، ودلف الجميع من خلاله، وكل شيء تغيَّر بعد ذلك، وحذَّر الأجيال الجديدة من نسيان هذا المصدر، هذا التحول الذي ضرب أمريكا والعالم بسبب "صيف الحب". الشاعر الأمريكي آلين كوهين أصدر بيانًا قبل أن تُسمَّى الحركة باسم الهيبية: "أحيانًا يصبح مع مرور الأحداث والظروف من الضروري للناس أن يتوقفوا عن طاعة الأنماط الاجتماعية التي تعزل الانسان عن وعيه، نحن مواطنو الأرض نحمل حبّنا وعاطفتنا لكل الناس الذي يحملون الكراهية"، ورويداً رويداً بدأ الشباب والفتيات يتدفقون إلى شارع "هايت ستريت"، وتشكلت حركة الهيبية، حتى قامت الشرطة بتصفيتها أخيرا، بعد أن اختزلت حركتهم في ضرب الحشيش، وممارسة الجنس المتحرر. https://www.youtube.com/embed/pEejp5_UMyQ

عندما يكون التلذذ بالأورجازم ثورة

مثلما كان النشطاء في حركات "احتلوا" الأمريكية يبالغون بمنع دخول المخدرات إلى مخيماتهم، حتى لا يطالهم التشويه الذي طال حركة الهيبية، حيث اختزلت في الإعلام الأمريكي إلى مجموعة من الشباب الهائج جنسياً، المغيب بالمخدرات، الهارب من المسؤوليات والواقع، بالغ النشطاء في مصر أيضًا في تبنّي نمط محافظ للغاية حتى ينالوا احترام وتقدير الأغلبية، ويقطعوا على الإعلام فرصة لتشويه الثورة. بينما كانت اللجان التي تحرس ميدان التحرير تتشدّد في عدم دخول أحد المخيم بمخدرات أو بكحول، تحايل البعض مُستغلّا سذاجة الحراس بأن صبوا زجاجات البيرة في علب أدوية، بينما تشكلت شوارع محيطة بميدان التحرير من شباب أصحاب نمط متحرر، مستمتعين بشرب المخدرات، وتبادل القبلات، في شارع يسمى "شارع الشعب"، اتخذ اسم "شارع الضريبة"، وأحيانًا "شارع الثورة". يكتب جورج أورويل الروائي الانجليزي في رائعته "1984" مثمناً القيم التحررية الجنسية، وكيف تستغلها السلطات المستبدة في بث مشاعر الكراهية والتعصب، يقول: "هذه الغريزة لا تني توجد عالمًا خاصاً بها خارج سلطان الحزب، ومن ثَمَّ كان يتعيّن استئصالها إذا أمكن، الحرمان الجنسي يفضي بعضو الحزب إلى حالة من الهستيريا، وهو أمر مرغوب فيه حيث يمكن تحويله إلى نوع من حُمَّى الحرب، وعبادة الزعيم". ويربط أورويل بين اللذة والبهجة التي يستشعرها الناس بعد ممارسة الجنس وقيمته "الثورية": "عندما يمارس المرء الجنس فإنه يستنفد قواه ويستشعر نوعاً من اللذة تجعله لا يأبه بعدها بشيء، وهم لا يرغبون في ذلك. لو كان المرء مبتهجًا في قرارة نفسه فما الذي يدفعه للاهتمام بالأخ الكبير والبقية الباقية من ترهاتهم اللعينة". ويرى أورويل أنَّ هناك "صلة وثيقة ومباشرة بين إجبار المرء لنفسه على العفة وبين ولائه السياسي، إذ كيف يتسنى للحزب ضبط مستوى الخوف والكراهية والتصديق المطلق لدى أعضائه عند الحد المطلوب، إلا من خلال الضبط القسري لبعض الغرائز القوية لاستخدامها في بعد كقوة دافعة؟".

"عزلة، تأمل، أورجازم"...وصفة "جورج أورويل" لمحفزات الثورة

ويبرز هنا التساؤل: هل يمكن أن تتكرر الثورة مرة أخرى؟، ألسنا لم نزل نحمل تلك المشاعر والمحفزات؟ يستبعد علي حدوث ثورة في الأفق القريب، لافتقاد الناس إلى "اليقين" أنّ أحوالهم ستتحسن بمجرد إزاحة النظام، ولعدم وجود "الثقة" في مراكز القوى الصلبة التي تتنازع السلطة في مصر، الجيش والإخوان. https://www.youtube.com/embed/XMy6fMcqj9g يُقدّم لنا جوروج أورويل وصفة بالمشاعر التي تشكل محفزات الإنسان للثورة على أوضاعه، والتحرك لتغيير العالم حتى في أسوأ الظروف، حيث استفرد بالحكم حزب احتكر كلّ شيء المعارف العلمية، واللغة، والسياسة، والدين. وأوّل تلك المشاعر هو العزلة، العزلة التي تدفع الإنسان إلى التأمل، إلى أن يُصدّق أن 2 + 2 تساوي أربعة، ليس كما يريد لنا الحزب أن نصدق، القمع والتنميط الذي يحدثه في عقول الناس يحمل الكثيرين على تصديق الأفكار الخرافية، طالما هي خارجة من رحم السلطة. ويتذكر الشباب المصري جيداً حجم الخرافات التي تم الترويج لها بعد سقوط مبارك، أبرزها اختراع عبد العاطي الذي روّج له الإعلام باسم القطاع الصحي للقوات المسلحة، الذي اخترع جهازاً لا يقضي على مرض الإيدز فقط ولكن يحوله إلى كفتة، تم الترويج لها إعلاميًا، ونالت قبولًا شعبياً، ويحدث وينستون بطل "1984" نفسه، وكأنّ أورويل كاتب الرواية يخاطب القارئ: "البديهيات الواضحة عليك بالتمسك بها! الحرية هي حرية القول إن اثنين واثنين يساويان أربعة، فإذا سلم بذلك سار كل شيء آخر في مساره السليم". وكتب أورويل: "كان الحزب يوصي بأن ترفض تصديق ما تراه عيناك، وما تسمعه أذناك، وكان هذا هو توجيهه النهائي والأكثر أهمية". ويُثمّن أورويل الشعور بالفراغ والعزلة للحفاظ على العقل "سليماً" من الخرافات التي يروجها النظام، يقول "ما كان لعضو بالحزب أن يكون لديه وقت فراغ، أو أن ينفرد بنفسه إطلاقاً إلا عند نومه.. وكان إقدام العضو على عمل يوحي بميل للعزلة حتى لو كان ذلك نزهة على الأقدام يقوم بها منفرداً، هو عمل فيه مخاطر واضحة"، والحاجة إلى الانطواء والتفكير المنعزل يسميها النظام"حياة خاصة" وتعني الفردية والتمركز حول الذات، بطريقة معيبة. https://www.youtube.com/embed/s6txpumkY5I يقول جورج أورويل في فيلم تسجيلي أذاعته "بي بي سي": أحداث مثل "1984" يمكن فعلاً أن تحدث، هذا هو الاتجاه الذي يتوجّه له العالم في الوقت الحالي، في عالمنا لا توجد مشاعر سوى الخوف، والغضب، وغريزة الجنس يتم محوها، تُمحي السلطة الأورجازم، حيث لا يوجد ولاء ما عدا الولاء للحزب، ولكن دائمًا هناك سكرة السلطة، دائمًا وفي كل لحظة هناك إثارة النصر، مشاعر دحر العدو، إنه شيء مؤسف، إذا تخيلتُ المستقبل تخيلت حذاءً مطبوعًا على الوجه الآدمي للأبد، غدًا سيرسمه هذا الوضع الكابوسي الخطر، إنه مستقبل ممكن الحدوث، لا تدعوه يحدث، ذلك يعتمد عليكم.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image