في الذكرى الثامنة لثورة 25 يناير، نحن أمام مشهدين: الأول قديم وهو تجمّع مئات الآلاف في ميدان التحرير في قلب القاهرة وتوليد هتافاتهم طاقة تغيير فاضت عن المشاركين ووصلت ذبذباتها إلى كل العرب وحلّت عليهم لأشهر طويلة؛ والثاني جديد ويمكن تلخيصه بنضوب طاقة التغيير.
إنها مسألة طاقة، طاقة لا نظريات حاسمة ومقنعة تشرح بشكل واضح كيف تتولّد أو كيف يمكن توليدها. هي فقط تتولّد وتغيّر المشهد حولنا.
لدينا تنظيرات كثيرة حول أسباب غضب الناس وحنقهم وأخرى حول تصرّفات الجماهير الغاضبة وديناميكيات تحرّكاتها الاعتراضية. ولكن بين هاتين المرحلتين، هنالك مرحلة رمادية وهي مرحلة انبثاق طاقة قادرة على إخراج الناس إلى الشوارع مع قناعة بأنهم قادرون على التغيير.
كان يمكن أن نلحظ حضور هذه الطاقة في التظاهرات والاحتجاجات التي تحمل مطالب تخرج عن الكلاسيكية وترفع سقفها منتقلةً من "التحسين" إلى "التغيير الشامل"، كما كان يمكن أن نلحظها في أحاديث الشباب التي يكثر فيها التخطيط للمشاريع، كبيرة كانت أو صغيرة، وسياسية كانت أو إعلامية أو اقتصادية، أي لتأسيس أشياء تنطلق من مجموعات صغيرة مؤمنة بأنها قادرة على الفعل، بعيداً عن التفكير في ركوب قطارات الحياة المعروفة للتعبير عن الأفكار أو لجني المال. إنه زمن التفكير في بناء أشياء جديدة.
في المناخات الثورية الفيّاضة بطاقة التغيير، تشيع الثقة بالنفس بين الناس فتتغيّر طرائق التفكير بشكل يجعل الأحلام تتغلّب على تعقيدات الواقع عند تحليل أي عمل أو نشاط، ويتقلّص الخوف من المجهول. يحدث ما يُشبه ولادة ديانة جديدة تقوم على الإيمان بالقدرة على صناعة غد أفضل، وتطال تأثيراتها كل أفكار الناس وقناعاتهم.
في مرحلة مدّ "الروح" التغييرية، تنهدم كل الأسس القديمة ويصير كل شيء ممكناً. إنه زمن الأحلام، والأحلام لا تعرف الحدود.
هذا هو ما فقده المصريون وفقده معهم العرب ولذلك المسألة ليست بسيطة، ولا يمكن تعديل مسار الأمور بإجراء نقد ذاتي لتصحيح أخطاء ارتُكبت. الطاقة التغييرية نضبت. وعندما تنضب هذه الطاقة لا يعود أي شيء نافعاً.
وهم؟
غذّت الإنجازات السريعة انتشار مناخات الثقة بالنفس الثورية. "هرب" الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي بسرعة و"تنحّى" الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك بسرعة أيضاً. هذان الإنجازان جعلا المتظاهرين ينظرون إلى أنفسهم على أساس أنهم يمتلكون قدرة على هدم كل جدران الواقع وفتح فضاءات لمستقبل أفضل، وتجلّى ذلك في قناعتهم بإمكانية العودة إلى الشارع، إلى ما لا نهاية، بحال أفضت المسارات السياسية اللاحقة إلى ما لا يعجبهم، من أجل صناعة إنجاز كبير جديد. هذا كان وهماً. حينما عاد الواقع المعقّد ليفرض نفسه، صار المتظاهرون يصطدمون بحقيقة أن ما يطالبون به قد لا يتحقق، وأن "الإنجاز" قد لا يُنجَز، فعاد كل شيء إلى مساراته المعتادة وبدأت الطاقة الثورية الممزوجة بالثقة بالنفس تنضب.في المناخات الثورية الفيّاضة بطاقة التغيير، تشيع الثقة بالنفس بين الناس فتتغيّر طرائق التفكير بشكل يجعل الأحلام تتغلّب على تعقيدات الواقع عند تحليل أي عمل أو نشاط، ويتقلّص الخوف من المجهول
الآن، بعد ثماني سنوات على 25 يناير، من المناسب أن نعيد التفكير بطبيعة الحالة الثورية نفسها حتى ولو كانت لن تعود إلا بعد سنوات طويلة ستكون مطبوعة بالشعور العام بالإحباط، هذا إذا عادتعربياً، ساهمت خيارات النظام السوري في نضوب طاقة التغيير، فعندما قرر عدم تقديم إنجاز سريع للمتظاهرين والتمسك بالسلطة ومواجهة الثائرين ضده، لم تعد فكرة الحلم "العامة" كافية لاستدامة الحالة الثورية، وصارت المسألة مسألة حسابات واقعية، وما عاد ممكناً للحلم أن يتغلّب على الواقع، وعاد العقل العربي إلى إجراء حسابات الربح والخسارة. وفي الأنظمة القمعية الخسارة قاسية لأنها تُقاس بالأرواح. أما في مصر وتونس، فبدأت الثقة بالنفس تتراجع مع اختبار واقعية الممارسة الديمقراطية، ونزع السِحر عنها. تبيّن للحالمين أن السلطة الجديدة التي تنبثق عن انتخابات لا تكون على قدر أحلامهم الكبيرة، وهي أحلام لم تكن في الحقيقة محددة بل كان تحتضن جملة هائلة من الأماني والتناقضات التي تتسع لك شيء، ما يعني أن الوصول إلى حالة الإحباط كان تحصيل حاصل، فلا سلطة تستطيع تحقيق كل الأحلام. ثم أتت الضربة القاضية مع الثورة المضادة في مصر والتي أعادت استخدام آلات القمع بشكل مكثف ضد المتظاهرين، وأسقطت آخر الأوهام وهو: يمكن أن نعود إلى الشارع ونعيد تكرار الإنجاز. وبين هذا وذاك، ساهمت حالتا الفوضى في ليبيا واليمن في انخفاض سقف التوقعات من الثورات. الآن، بعد ثماني سنوات على 25 يناير، من المناسب أن نعيد التفكير بطبيعة الحالة الثورية نفسها حتى ولو كانت لن تعود إلا بعد سنوات طويلة ستكون مطبوعة بالشعور العام بالإحباط، هذا إذا عادت. تفتح الحالة الثورية باب تغيير النظام القائم ولكنها لا تسمح كثيراً بالتجريب بعد ذلك. هناك منظومة ما يجب إحلالها أمام المنظومة القديمة والتصوّرات حول هذه المنظومة، أو خطوطها العريضة على الأقل، يجب أن تكون مُعدّة سلفاً وعليها توافُق واسع سلفاً، ما يُعيد الاعتبار إلى ضرورة العمل السياسي التقليدي عبر الأحزاب التي تمتلك برامج. وأياً يكن النظام الجديد الذي تفرزه حالة ثورية، فهو لن يرضي معظم الثوريين الحالمين، لمجرّد أنه سيصير واقعاً والواقع لا يستطيع احتضان الأحلام الكبرى. ولكن واقع عن واقع يفرق، ولا يجب تبديد طاقة التغيير مجدداً بدون مكاسب مستدامة عندما تتولّد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع