بعد نزوح هيفاء اللبان مع زوجها وأولادها من بلدة كفربطنا بغوطة دمشق الشرقية إلى مدينة جرمانا بريف دمشق، منذ حوالي خمسة أعوام، استقر بهم المقام في منزل شبه فارغ على أطراف المدينة، وبدأت هيفاء بعد أشهر في التفكير بكيفية بعث الحياة به وكيفية بعث الأمل في قلوب عائلتها من جديد.
"سمعت عن مراكز في جرمانا تدرب السيدات على مبادئ "إعادة التدوير" للاستفادة من أي مواد مستعملة في صناعة أغراض جديدة لمنازلنا. أعجبتني الفكرة وبحثت طويلاً ثمّ وصلت إلى مركز "خطوة أمل" القريب من هنا"، تقول اللبان في لقاء مع رصيف22 في منزلها.
مع انتساب هيفاء، ذات الأعوام الـ35 إلى المركز، بدأت مرحلةً جديدةً من الاستقلال الاقتصادي وتغيرت العلاقات الأسرية والدفع المعنوي نحو أمل بمستقبل أقل قسوة وأكثر تفاؤلاً.
منذ إنشائه عام 2015، سعى مركز خطوة أمل، كما تقول لورا نوفل المشرفة عليه، إلى تمكين السيدات النازحات عن طريق تعليم حرف يدوية إضافة لصناعات منزلية مفيدة، على رأسها صناعة المنظفات وإعادة تدوير المواد الورقية والبلاستيكية وغيرها، وتحويلها إلى مواد يمكن استخدامها أو بيعها.
ترى اللبان أيضاً بأن هذا النمط الجديد سيستمر حتى في حال عودة العائلة للسكن في كفربطنا، "فحياتنا التي كانت مقتصرة على غرف منزلنا لن تعود قط كما كانت، وأزواجنا باتوا يعرفون معنى استقلالنا الاقتصادي وقدرتنا على تأمين مصروفنا بأنفسنا. رغم قساوة تجربة النزوح لكنها علمتنا وغيرت الكثير فينا وبطرق تفكيرنا، بالطبع نحو الأفضل".
بسمة النجار وهي قريبة وصديقة هيفاء، شاركتها تجربة تعلم إعادة التدوير في المركز ذاته بعد نزوحها مع عائلتها من بلدة كفربطنا بغوطة دمشق الشرقية منذ خمسة أعوام أيضاً، وصنعت خلال العامين الفائتين لوحات وحقائب ووسائد وسجاداً وعلباً مختلفة.
"الحرب سلبتنا أجمل ما نملك. لم أحتج يوماً للجوء لإعادة تدوير الأغراض الفائضة عن حاجتنا، لكن الحاجة أمّ الاختراع. يمكننا اليوم ببعض التدبير إعادة الفرح لمنازلنا وتحويلها إلى جنة لنا ولعائلاتنا، وأيضاً المساهمة في تحسين وضعنا المادي، وربما الأهم أن نشغل أنفسنا بما هو مفيد لتجنب التفكير بهموم الحياة"، تقول بسمة في حديث مع رصيف22.
تعتني النجار، 26 عاماً، بتفاصيل ما تصنعه رغم بساطة المواد التي تستخدمها، وترى بأن الإتقان وتخصيص الوقت الكافي لكل عمل، إضافة لتناسق الألوان والاطلاع على "آخر صيحات الموضة" هو مفتاحها لتسويق وبيع منتجاتها التي تشارك بها أيضاً في بعض معارض الأعمال اليدوية بدمشق.
تشير نوفل خلال لقاء رصيف22 معها إلى أهمية هذا التمكين للعائلات النازحة وخاصة تلك التي تعيلها نساء، "وما أكثرها في مدينة جرمانا التي استقبلت مئات آلاف النازحين على مدار السنوات الماضية".
التقرير الصادر عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة حول الأمن الغذائي والتغذية في المنطقة للعام 2017، يتحدث عما يقارب 6.5 مليون شخص مهجر داخل سوريا، ويشير إلى أن 19% من السوريين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، و40% يعانون من انعدام الأمن الغذائي.
التقرير ذاته ينوه إلى أن "النزاع المستمر في سوريا أدى إلى زيادة في عدد الأسر التي تقودها نساء، نظراً لأن أعداداً متزايدة من الرجال سقطوا قتلى أو جرحى أو أسروا أو أصبحوا مقاتلين. وفي غياب الرجال اضطرت النساء إلى تولي مسؤوليات إضافية وأعباء أثقل تتعلق بالعمل".
أرقام أخرى لا بد من الإشارة إليها في هذا السياق، فبحسب وكالات أممية عدة ووفق تقارير صادرة مطلع العام الحالي، يعيش حوالي 80 بالمئة من السوريين تحت خط الفقر. كما أفادت وزارة التنمية الإدارية في سوريا في شهر أيلول/سبتمبر الفائت بأن الحرب رفعت نسبة البطالة في البلاد من 8% عام 2010 إلى 53% هذا العام، "وهي النسبة الأعلى عالمياً".
رحلة اكتشاف للذات وللعائلة
تعلمت هيفاء اللبان في "خطوة أمل" صناعة أغراض منزلية للزينة أو الاستعمال كالعلب والمرايا واللوحات الجدارية، من الورق والبلاستيك واللباد والقماش وأي مواد أخرى مفيدة أو فائضة عن الحاجة. "تحوّلت كل تفاصيل حياتنا في المنزل واكتشفنا نمطاً اقتصادياً جديداً لم نعرفه قبل النزوح. زوجي الذي لم يكن يقبل بخروجي إلا فيما ندر والذي قال لي في بداية انضمامي للمركز "مستحيل خليكي" بات الداعم الأول لي ولعملي ولرغبتي في تعلم المزيد من المهارات. وهو اليوم يسّوق لي منتجاتي ويساعدني في بيعها".كيف تحولت ظروف الحرب بين أيدي هؤلاء النساء إلى فرصة لإعادة خلق الأمل والاستقلال الاقتصادي
ترى اللبان أيضاً بأن هذا النمط الجديد سيستمر حتى في حال عودة العائلة للسكن في كفربطنا، "فحياتنا التي كانت مقتصرة على غرف منزلنا لن تعود قط كما كانت، وأزواجنا باتوا يعرفون معنى استقلالنا الاقتصادي وقدرتنا على تأمين مصروفنا بأنفسنا. رغم قساوة تجربة النزوح لكنها علمتنا وغيرت الكثير فينا وبطرق تفكيرنا، بالطبع نحو الأفضل".
بسمة النجار وهي قريبة وصديقة هيفاء، شاركتها تجربة تعلم إعادة التدوير في المركز ذاته بعد نزوحها مع عائلتها من بلدة كفربطنا بغوطة دمشق الشرقية منذ خمسة أعوام أيضاً، وصنعت خلال العامين الفائتين لوحات وحقائب ووسائد وسجاداً وعلباً مختلفة.
"الحرب سلبتنا أجمل ما نملك. لم أحتج يوماً للجوء لإعادة تدوير الأغراض الفائضة عن حاجتنا، لكن الحاجة أمّ الاختراع. يمكننا اليوم ببعض التدبير إعادة الفرح لمنازلنا وتحويلها إلى جنة لنا ولعائلاتنا، وأيضاً المساهمة في تحسين وضعنا المادي، وربما الأهم أن نشغل أنفسنا بما هو مفيد لتجنب التفكير بهموم الحياة"، تقول بسمة في حديث مع رصيف22.
تعتني النجار، 26 عاماً، بتفاصيل ما تصنعه رغم بساطة المواد التي تستخدمها، وترى بأن الإتقان وتخصيص الوقت الكافي لكل عمل، إضافة لتناسق الألوان والاطلاع على "آخر صيحات الموضة" هو مفتاحها لتسويق وبيع منتجاتها التي تشارك بها أيضاً في بعض معارض الأعمال اليدوية بدمشق.
"صار عندي حرفة"
تجربة مشابهة عاشتها السيدة أم صلاح التي نزحت من بلدة حران العواميد بغوطة دمشق الشرقية لمدينة جرمانا عام 2012، حيث تعلمت صناعة مختلف أنواع سوائل التنظيف المنزلية والشخصية بشكل يدوي، مما غيّر حياتها على الصعيدين الاقتصادي والمعنوي. "عن طريق صناعة سائل الجلي وصابون اليدين والشامبو في المنزل يمكنني توفير ما يقارب عشرة آلاف ليرة (عشرين دولاراً) شهرياً. إلى جانب عمل زوجي في معمل للدهانات نستطيع تدبير الحد الأدنى من متطلبات أطفالنا الخمسة، ودفع أجرة منزلنا الصغير، التي تبلغ خمسة عشر ألف ليرة في الشهر"، كما تقول أم صلاح، البالغة من العمر تسعة وثلاثين عاماً لرصيف22. تجربة الإنتاج المنزلي هذه أيضاً تدفع بأم صلاح لتقول بكل فخر: "صار عندي حرفة". لم تعد تكتفي بالجلوس على شرفة المنزل والتأمل بالمارة لتمضية وقت الفراغ، بل باتت تنتقل بين أعمالها المنزلية وصناعة المنظفات بما يضمن مرور يومها دون إحساس بالملل أو اللاجدوى. ومع تشجيع زوجها لها، تأمل أم صلاح بعودة قريبة لبلدتها، وافتتاح مشروعها الخاص لصناعة وبيع المنظفات اليدوية هناك. ترى المشرفة على مركز "خطوة أمل" لورا نوفل، بأن الاستقلال الاقتصادي الذي اختبرته العديد من النساء خلال السنوات الأخيرة كانت له تأثيرات إيجابية بالغة الأهمية عليهن وعلى علاقاتهن الاجتماعية على حد سواء. "لمست الكثير من التحولات في طريقة حياتهن وفي تعاملهن مع عائلاتهن. النساء اللواتي لم يكنّ ملتزمات بالحضور اليومي في البداية بسبب ممانعة أزواجهن أصبحن مالكات قرارهنّ، تذهبن وتعدن حسب ضرورة العمل والتعلم. حرية القرار والثقة بالنفس هي أبرز ما غيرته تجربة العمل والحرية الاقتصادية فيهنّ". التغيرات تلك طالت أيضاً اهتمامات السيدات التي لم تعد مقتصرة على المنزل والأسرة، بل تعدتها للرغبة في تعلم المزيد من المهارات الجديدة، كما تقول نوفل: "سجلت العشرات في دورات محو أمية، وطالبن بفتح مكتبة بهدف قراءة الكتب وفتح نقاشات بشأنها. والمفاجأة كانت حضور الأزواج أيضاً لاتباع دورات محو الأمية بعد تشجيع الزوجات لهم على هذه الخطوة"."رغم قساوة تجربة النزوح لكنها علمتنا وغيرت الكثير فينا وبطرق تفكيرنا، بالطبع نحو الأفضل"
عن عبقرية الابتكار في وجه الحرب وظروف النزوج: نساء أعدن تدوير مفهوم الحرب، وخلقن أنماطاً اقتصادية جديدة
حلول أخرى، قديمة جديدة
الاقتصاد الذي أفرزته الحرب السورية أعاد كذلك بعض الممارسات المنزلية التي ربما كانت شائعة منذ سنوات طويلة، في زمن الآباء والأجداد، لتتبعها ربات البيوت اليوم من جديد، وتتناقلها بشكل شفوي أو حتى عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي لتصبح نمطاً اقتصادياً جديداً وشائعاً. أم حازم وهي سيدة خمسينية تقيم في منطقة مساكن برزة بدمشق تشرح بعض تلك الممارسات لرصيف22: "مع ساعات تقنين الكهرباء الطويلة، اضطررنا للتخلي عن دور الثلاجة في منزلنا، وعدتُ لما كانت أمي تقوم به: تجفيف الخضار الصيفية والاحتفاظ بها في أكياس قماشية لفصل الشتاء". تبتكر أم حازم أيضاً في تقنين استخدام الوقود في فصل الشتاء، حيث تعمد إلى استخدام بساط كهربائي خلال ساعات توافر الكهرباء مما يمنح دفئاً معقولاً، ومن ثم تشغيل المدفأة لثلاث ساعات فقط في المساء، مع تعدد أغراض استخدامها لتكون بديلاً عن الغاز المنزلي في ساعات عملها الثلاث. أزمة المياه التي مرت بها كثير من المدن السورية خلال الأعوام الفائتة علّمت ربات المنازل أيضاً أساليب تقنين استخدام المياه. لفاديا قاروط المقيمة في حلب تجربة فريدة مع المياه في منزلها، ترويها لرصيف22. "خلال الأشهر الأولى من هذا العام عشنا أزمة مياه غير مسبوقة رغم تراجع وتيرة المعارك في المدينة، وذلك بسبب عطل في إمدادات المياه الرئيسية. ارتفع سعر مياه الاستخدام اليومي التي يمكن تعبئتها بواسطة الصهاريج وأيضاً طرود مياه الشرب، مما أنتج حاجة ماسة للاقتصاد قدر الإمكان". لجأت السيدة الأربعينية حينها لاستخدام أوعية المطبخ البلاستيكية أو الورقية والتي يمكن رميها بعد الاستعمال، مع الاضطرار لأوعية زجاجية في بعض الأحيان. "عند لجوئنا لتنظيف أغراض المطبخ نجمع المياه الناتجة في النهاية والتي لا تكون متسخة كثيراً لاستخدامات أخرى. حتى بعد عودة المياه لمجاريها اليوم لا زلنا مصرين على ممارسات التقنين لخوفنا من أي انقطاع مفاجئ". أم حامد النازحة من دير الزور والمقيمة في منطقة الزاهرة القديمة بدمشق والتي تعتبر من المناطق الشعبية، تتحدث أيضاً عن تجربتها المميزة لرصيف22. عمل أم حامد في صناعة المؤن المنزلية وبيعها لتعيل أطفالها الأربعة بعد وفاة زوجها بقذيفة هاون منذ عامين علّمها الابتكار في المكونات الغذائية المستخدمة والعثور على بدائل تقلل التكلفة "مع إدخال بعض التعديلات التي لا بد منها". استخدام فستق العبيد بدل الجوز، والدجاج أو البطاطس عوضاً عن اللحم، وزيت دوار الشمس بدلاً من زيت الزيتون هي بعض من تلك البدائل التي لا حصر لها، والتي تتنوع يوماً بعد آخر. اكتشفت أم حامد أيضاً طريقة للحصول على السميد أو الطحين لصناعة الحلويات لأطفالها، حيث تستفيد من فائض المعكرونة التي يتم توزيعها كجزء من المعونات للعائلات النازحة، وتقوم بطحنها وتحويلها لما يشبه السميد ومن ثم استخدامها لصناعة حلوى العوامة بعد إضافة الماء والسكر والقلي بالزيت. وتعلق على ذلك، "صحيح أن الحرب سلبتني زوجي ومنزلي وكل ممتلكاتنا، لكن التفكير بهذه الحلول لمساعدة عائلتي هو مخرجي الوحيد للنجاة من الجنون، أو الانهيار".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...