أصبحت الهجرة والتهجير خبراً يومياً في العالم العربي اليوم، ولكن من قال إنّ الحروب والظروف السياسية بإمكانها أن تغلي إنسانية كل فردٍ وتجربته بكل ما تحمله من خصوصية وحميمية وجمال؟
تعمل الفنانة العربية المقيمة في واشنطن، هيلين زغيب على هذه القضية بجرءة، وقد كرست فنّها منذ هجمات 11 أيلول لعرض صور إيجابية عن العرب والشرق الأوسط بشكل أساسي للجمهور الأميريكي. وليس من أهدافها تناول جوانب الأحداث العالمية كالربيع العربي مثلاً الذي تهتم به بشكل خاص؛ بل هدفها أن تسلّط الضوء على عواقب مثل هذه الحالات المتغيرة للحياة.
قالت زغيب في مقابلة خاصة مع رصيف22: "إنه لمن المثير للاهتمام أن العديد ينظرون إلي كفنانة سياسية، وأنا بلا شك أفهم لماذا توصلوا إلى هذا الاستنتاج، ولكن بكل صراحة ليست هذه هي الطريقة التي أرى فيها أعمالي".
وبدلاً من ذلك، كما هو الحال مع مجموعتها المعنونة "الربيع العربي" (وهي تختار هذه التسمية لتشير إلى السنوات الستة الأخيرة، من أجل الاستمرارية)، تقول زغيب، "أنا أرى نفسي كفنانة تعلقُ بصرياً على العالم من حولي، وتحديداً العالم العربي الذي جئت منه، إنني أتناول الجانب الإنساني، والنساء، والأطفال، والناس الأبرياء الذين هم عموماً الضحايا الأوائل للاضطرابات السياسية، والحرب، والنزوح". تظهر زغيب كرامة شخوص لوحاتها من خلال الأعمال اليومية العادية، وتتدرج لوحاتها من غرفة مزدحمة من النساء المحجبات؛ إلى أحذية موضوعة على تصميم هندسي إسلامي.
هذه اللوحات الصغيرة، برمزيتها تخدم أنسنة لحظات الصراع الشديد.
تفسير فنّ زغيب على أنه سياسي يعني تضييع البؤرة المركزية التي تجمع لوحاتها، إذ تصر زغيب على أن عملها إنساني في التأثير الذي ينطوي عليه، وينقله للمشاهد.
عندما ننظر إلى فنّ زغيب، فإن المشاهد ينشدّ على الفور إلى الألوان الزاهية، إلا أنّ الألوان المكثفة والحيوية على قماش الغواش ليست جمالية فحسب؛ بل هي تتمة لرسالة زغيب الرئيسة في الأمل والتفاؤل.
تستعمل زغيب الألوان الزاهية عن عمد لتصور الأحداث الأكثر قتامة وكآبة، تبدو الأزهار، بخاصة في أغلب لوحات مجموعتها الأخيرة "الربيع العربي"، متفتحة من كل زاوية من قماش اللوحة.
تقول زغيب، "في سلسلة "الربيع العربي" بدأت استعمال موضوعة الأزهار كرمز للأمل، والتفاؤل، والمساواة، وقد حافظت على موضوعة الأزهار، وتكرارها المتنوع على طوال ست سنوات، وأكثر، واستمر خلالها 'الربيع'".
عندما تقدّم العباءة بلغة فنية استخدمها فنانون غربيون مثل بيكاسو وليكتنشتاين وماتيس
عن الحميمية والخصوصية والجمال الذي نسيناه في قصص الشتات والهجرة الجماعيةوتتابع: "كذلك حافظت على الألوان الزاهية، فكرة الجمال بالنسبة لي هي أيضا آسرة، وأنا في النهاية أريد من مشاهد عملي أن يستمع إلى قصتي، وأن أخلق تواصلاً، أي كما يقول التعبير الأمريكي (أن نرتدي حذاء الآخر) أي أن نضع أنفسنا في مكان الآخر، بالمعنى الحرفي والمجازي. إنني أشعر أنه إذا كان العمل الفني جذاباً، وربما حتى جميلاً، فسيجعل الناس يدرسون العمل الذي سيجذبهم إليه بالأساس جماله، وبعد ذلك، يمكنهم الاستماع إلى رسالتي. وربما هذا غير تقليلدي، ولكنني ما زلت أحقق هدفي من هذا الحوار، والتواصل الممكن، والحل الممكن". [caption id="" align="alignnone" width="940"] Di/as/pora "الشتات"[/caption] أحد المصادر الهامة الملهمة لأعمال زغيب هو مفهوم الهجرة الجماعية، والشتات. وبالنسبة لها فإن القضية فردية وجماعية في آن، حيث أجبرت هي نفسها لأن تفر من العنف مرتين من قبل: مرة أولى أثناء حرب 1967 مع إسرائيل، ومرة ثانية في عام 1975 أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، وهذا الفرار أصبح دائماً. كلمة الشتات، تقول زغيب: "مؤلفة من ثلاثة مقاطع (Di/as/pora)، وهذ أيضاً هو الفصل القائم في عنوان عملي، والذي يظهر النزوح، والمغادرة، والرحيل، والفرار". إننا نرى فيها أرتالاً من الناس يتحولون إلى مجموعة ... ولقد اقترحت سيناريوهين ممكنين هما المغادرة الطوعية، أو الإخلاء القسري وهو الأكثر تدميراً وخطراً. وكلاهما سردية شخصية تشير في الوقت نفسه إلى أزمة اللاجئين الحالية. وقد واجهت في حياتي كلتا الحالتين. ومن الغريب أن هذه اللوحة تمكن مشاهدتها من اليسار إلى اليمين، كما قصدت بالأساس، أو من اليمين إلى اليسار كما تكتب اللغة العربية، وكما تقرأ بالطبع. وهذا يشير إلي في الواقع وأنا واقفة أنظر إلى هذه اللوحة متحدثة إلى زميلي". هناك مصدر إلهام هام آخر على زغيب هو العباءة. عند مشاهدة أعمالها الفنية لن يستغرق الأمر وقتاً طويلاً لملاحظة الدور الأساسي الذي تلعبه العباءة في عملها. وحسب قول زغيب فإن إدراج العباءة في أعمالها جاء في وقت حرج في العلاقات بين العرب والولايات المتحدة. "لقد بدأت استخدام العباءة في لوحاتي بعد أحداث 11 أيلول، والحرب في العراق وأفغانستان. وخلال ذلك الوقت، كانت القوالب السلبية النمطية للعرب، والمسلمين، قد بدأت بالظهور في وسائل الإعلام العامة. وأنا استخدمت العباءة في بعض الأعمال بسخرية، وفي أعمال أخرى بدعابة، فضلاً عن أن بعضها كان بهدف التثقيف، وكل ذلك لتبديد الأفكار المسبقة عمّا تمثله العباءة، مثلما يبدو بوضوح في سلسلتي التي بدأتها في ذلك الوقت 'تغيير التصورات'". وتتابع، "جمعت في هذه المجموعة من اللوحات بين الفنان موندريان والعباءة، وبين بيكاسو والعباءة، وروي ليكتنشتاين والعباءة، وماتيس والعباءة ... في سعي مني لمواجهة لتلك القوالب النمطية ذات الغالبية السلبية عن طريق جمع عناصر في لوحتي مأخوذة من الشرق والغرب معا". وهنا مثال لوحة لزغيب تعمدت محاكاة واحدة من أشهر لوحات بيكاسو، وقدمت العباية مستخدمة مفردات فنية تخاطب كل المهتمين بالفن الغربي المعاصر. وعن تسيس تصوير الحروب التي يمّر بها العالم العربي، ودور ذلك في تغييب الاهتمام بالتجربة الإنسانية، خاصة في الغرب، تعلّق زغيب: "أعتقد أن الفن يذهب إلى الأماكن التي لا تستطيع السياسة ولا السياسيون الذهاب إليها، وأعتقد أن الفن يستطيع أن يجعل اللامرئي مرئياً، وأن يكون صوت من لا صوت لهم، وأعتقد أن الفن، في أي شكل، كالموسيقىن والرقص، والأدب، يستطيع أن يلعب دور منصة للحوار بهدف التقريب بين الطرفين، خطوة في كل مرة، فقط لنكتشف أننا أكثر تشابها من اختلافنا، عن الفن يفعل ذلك بطرق بارعة، وفي بعض الأحيان غير براعة، ولكن في نهاية المطاف نأمل أن يحقق بعض الاحترام المتبادل، أو حتى مجرد الاعتراف والقبول بالاختلاف فيما بيننا". على الرغم من رفض زغيب لوصفها "بالفنانة السياسية"، فإنها لا تتردد في إصرارها على إضفاء الطابع الإنساني على الانتفاضات والصراعات العربية السياسية. "أنا أعتقد أن مدى تأثير "الربيع العربي"، ونتائجه، سواء أكانت انتصارات صغيرة في مجالي المساواة والتغيير، أم المآىسي الهائلة للحرب والنزوح، كان ساحقاً بالنسبة للأغلبية بحيث لا نستطيع أن نستوعب كامل تداعياته بعد. لقد قتل الآلاف، وأجبر الآلافف على الفرار من بيوتهم وعائلاتهم، والتمس الآلاف ملجأ في بلدان أخرى، وفي حالات عديدة لم يكن مرغوباً فيهم". وتختتم زغيب بقولها: "أنا كفنانة أشعر أنني ملزمة بمحاولة "إضفاء الطابع الإنساني" على محنتهم، وأشعر بالمسؤولية تجاه بقاء قصتهم حية لكيلا ينساها الناس، وأشعر أن علي أن أضع القصة في مستوى حميم جداً، وأن أنجز أيضاً، على سبيل المثال، التفاتة صغيرة من الأمل، أو ربما، خلق التواصل الذي أسعى إليه جاهدة في عملي، بخاصة في الأعوام الستة الماضية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...