"يعيش التنابلة في حي الزمالك، وحي الزمالك مسالك مسالك، تفكر يا مُسعد تقرب هناك توفر حياتك بلاش المهالك".
رسم شاعر العامية المصري أحمد فؤاد نجم، بهذه الكلمات صورة لأرقى أحياء القاهرة في أعين طبقات كادحة من المصريين الذين تختلف معيشتهم عن سكان هذا الحي الراقي. ارتبط الفن التشكيلي، والفنانين التشكيليين بمنطقة الزمالك بعد أن نقلت مدرسة الفنون الجميلة إلى قصر الأمير يوسف كمال في شارع بورسعيد. يقول الفنان التشكيلي الدكتور رضا عبدالرحمن: "كانت أول مدرسة للفنون في أفريقيا والشرق الأوسط والبلاد العربية، ومنذ ذلك الحين وبعد انضمام المدرسة إلى الجامعة الأهلية أصبحت منطقة الزمالك قبلة الفنانين نظراً إلى وجودهم بالقرب من مقر الفنون، ففضل معظمهم الإقامة أو إنشاء مراسمهم فيها، وفي بداية الثمانينات بدأ إنشاء الغاليريات في الزمالك". "الزمالك" كلمة تركية تعني "الأكواخ الخشب والعشش"، فالحي في البداية كان عبارة عن جزيرة من طين واقعة في نهر النيل، وكانت نقطة انطلاق الصيادين، وكانوا يخزنون أدوات صيد الأسماك في العشش والأكواخ الموجودة في الجزيرة التي كانت أيضاً مكاناً لراحتهم خلال فترات الصيد. تسهل عليك، وأنت تسير في شوارع حي الزمالك، مشاهدة قاعات الفن التشكيلي "الغاليريات" التي تنتشر بكثافة في الحي الراقي.
سفر خان
"سفر خان" لافتة تقابلك في بداية شارع البرازيل، المتفرع من شارع محمد مظهر، في حي الزمالك، وهي عنوان لأشهر غاليريات الحي، حيث تحس من الزيارة الأولى بعبق القاعة، حيث رسومات الأرابيسك، والخشب المشغول تتصدر الواجهة. افتتحت قاعة "سفر خان" في الثمانينات، وتعتبر من أوائل القاعات الفنية في مصر، وهي تحتوي على لوحات لفنانين كبار وقدماء مثل حامد ندا، عبدالهادي الجزار وصلاح عبدالكريم. "سفر خان" على الرغم من مساحتها المحدودة التي لا تتخطى أمتاراً قليلة، إلا أن شكلها وأعمال الأرابيسك تمنحها جاذبية خاصة، هي مختصّة بعرض أعمال عباقرة الفن التشكيلي المصري، ويهتم القائمون عليها بطريقة عرض الأعمال باختلاف أنواعها. يقول الدكتور جمال مليكة، أستاذ الفنون التشكيلية في جامعة ميلانو، أن الفنانين يتجمعون في حي الزمالك، نظراً إلى الرقي الذي يميزه من غيره من أحياء القاهرة. استقدم الخديوي إسماعيل مهندسين من فرنسا وإيطاليا لتخطيط حي الزمالك وبنائه بجانب "سراي الجزيرة" التي بناها على مساحة 60 فداناً، وشهدت احتفالات افتتاح قناة السويس عام 1869. وأقامت في "سراي الجزيرة" الإمبراطورة أوجيني، إمبراطورة فرنسا، عند زيارتها مصر، كما شهدت السراي أفراح أسرة الخديوي، وأصبح الحي منافساً لحي غاردن سيتي الذي اشتهر بأنه حي الطبقة الأرستقراطية، نظراً إلى إقامة الباشوات والبكوات وذوي المناصب العليا بمعظمهم فيه بحكم قربه من مقر الحكم في قصر عابدين. وأوضح مليكة لـرصيف22، أن مقتني الأعمال الفنية ومحبي الفن التشكيلي يترددون كثيراً على حي الزمالك، وهو ما جعله مركزاً مهماً لوجود أهم الغاليريات، إضافة إلى وجود سفارات، أثرت في حركة الفن التشكيلي، بسبب ارتيادها من أجانب ومثقفين ورجال أعمال. اشترى عبد النعيم محمدين - مؤسس حي الزمالك - عندما جاء من بلدته قنا، عام 1897، قطعة أرض في الزمالك بسعر لم يزد عن قرشين ونصف للمتر، وخلّص الأرض من الحيوانات المفترسة، واستصلحها للزراعة. بالفعل أثمرت الأرض، فأرسل عبد النعيم يستقدم فلاحين من قنا، ليستعين بهم في مشروعه الناجح حتى تجاوز عدد أقاربه في منطقة العشش الألف وخمسمئة، فقرر التوسع واشترى بقية مساحة المنطقة ليستثمرها هي الآخرى، واختير عمدة على أقاربه وفلاحي بلدته. ويقول عبدالرحمن لـرصيف22: "منذ منتصف الثمانينات، نتردد على منطقة الزمالك التي ارتبط اسمها بالفن التشكيلي المصري سواء على المستوى الأكاديمي أو الاحترافي، ونجد هناك قاعات عرض أخرى داخلها مثل متحف كلية الفنون الجميلة وقاعة العرض الخاصة بها وقاعة عرض كلية التربية الفنية وقاعة عرض مركز الديبلوماسيين. وأخيراً، تم تجديد مجمع الفنانين في قصر عائشة فهمي، وأيضاً افتتاح مؤسسة آراك وغيرها من المؤسسات والجمعيات المهتمة بالفن التشكيلي التي تزيد من زخم الزمالك الفني". في شارع البرازيل أيضاً، قاعة "الزمالك للفنون"، وتنقسم قسمين، تستضيف معارض فنانين مختلفين شهرياً، وقسمَا الغاليري يمتازان بمساحتهما الكبيرة على شكل حجرات مختلفة واسعة تسمح بالوقوف على مسافة كافية من الأعمال لمشاهدتها بأريحية، إضافة إلى طول الحوائط التي تستوعب الأعمال الضخمة. تمتاز قاعة الزمالك للفن بتقديرها الأعمال النحتية، وتقديمها أعمالاً لفنانين شباب متميزة. ويضيف عبدالرحمن: "إننا بحاجة إلى قاعات جديدة وفاعليات تتناسب وعراقة حي الزمالك المميز الذي شهد إبداع جيل العمالقة مثل عبدالهادي الجزار وجمال السجيني وحامد ندا والوشاحي وغيرهم من أساتذتنا الراحلين". ويتابع: "ما زال الحي يحتضن كثراً من أساتذة الفن المصري مثل فرغلي عبدالحفيظ وأحمد نوار وزينب السجيني ومصطفى الفقي وغيرهم من جيل الوسط وحتى من جيل الشباب وطلبة كليتي الفنون الجميلة والتربية الفنية". تسهل على المتجول في شوارع الحي العتيق، ملاحظة تصميمات القصور والمباني التاريخية وأسماء الشوارع التي تحكي تاريخاً حافلاً بالحوادث التي لم تخل من إنجازات، وتعتبر لوحات فنية يصعب استنساخها. ويلاحظ المتجول في حي الزمالك أيضاً وجوهاً أجنبية، بسبب اختيار سفارات كثيرة ومؤسسات دولية هذا الحي مقراً لها، لموقعه المتميز كونه جزيرة يحيط بها النيل من الجهات كلها، لذا أطلق على الزمالك "حي السفارات". "محمد مصطفى" شاب في العقد الثالث من العمر، متوسط الطول، سرّح شعره يساراً، يقف في شارع 26 يوليو، أمامه عدد كبير من الجرائد والمجلات الأجنبية، ويقول: "عندي كتب ومجالات باللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية، وده لأن سكان الحي من جنسيات مختلفة عربية وأجنبية". ويضيف محمود: "زبايني من الجنسيات كلها... وأنا تحت أمر الزبون". المصريون الذين يسكنون حي الزمالك يغلب عليهم نمط الحياة البرجوازية، بسبب تاريخ الحي الراقي الذي ارتبطت تركيبته السكانية بزمن الملوك والباشوات والبكوات، ما جعله قبلة للأثرياء والراغبين في دخول زمرة الطبقة الأرستقراطية. يقول أحمد عثمان، أحد سكان شارع حسن صبري في الزمالك: "أنا زي السمك مقدرش أطلع من الزمالك... وتعودت على الحياة في الحي... لا أستطيع أن أعيش خارجه". ويضيف صاحب الـ47 سنة: "في الزمالك، كل شيء جميل، يختلف تماماً عن بقية أحياء القاهرة الصاخبة، هنا كل شيء هادئ، الحياة مرتبة، المباني تشعرك بالتاريخ، الأجانب حولك يتركون انطباعاً كأنك تعيش في أوروبا". يقول الفنان التشكيلي رضا عبدالرحمن أنه بعد تحويل مدرسة المعلمات في الزمالك كلية التربية الفنية، زاد ضغط الفنانين من طلبة وأساتذة الكليتين على المنطقة، ما ساعد على وجود حراك فني مكاني مميز وساعد في نشأة غاليريات خاصة كثيرة مع بداية افتتاح مجمع الفنون الذي شغل قصر عائشة فهمى وأصبح أهم قاعة عرض تابعة للدولة. ومن أقدم الغاليريات غاليريان ما زالا مفتوحين "المسافر خانة" و "خان المغربي"، ويضيف أنه من حيث الأهمية فكل غاليري في منطقة الزمالك له توجه مهم. ويضيف عثمان لـرصيف22: "إن الغاليريات المنتشرة في الزمالك، أضفت جمالاً خاصاً على الحي، وزادته رونقاً وبهاء، كما أن غالبية الأسر التي تعيش في الزمالك تحرص على اقتناء الأعمال الفنية". واختتم: "الحمدلله، التطرف لم يعرف طريقه إلى حي الزمالك". من شارع البرازيل إلى شارع حسن عاصم في الزمالك، حيث قاعة "بيكاسو"، إحدى أشهر قاعات العرض في القاهرة، وتعتبر من المدارس القديمة، لكن ليس إلى درجة المتحفية، إدارة المكان متمسكة بسياسة معينة في عرضها حيث لا تقبل بأي عمل. مي حشمت، صاحبة غاليري "بيكاسو"، أرجعت سبب انتشار "الغاليريات" في منطقة الزمالك إلى قرب موقعه إلى الكليات التي لها علاقة بالفنون مثل كلية الفنون الجميلة وكلية الفنون الموسيقية، وأيضاً إلى قرب المنطقة من الأوبرا المصرية، ما يجعل إقبال المهتمين بالفن كبيراً على المنطقة. وتحرص إدارة غاليري "بيكاسو" على اختيار الفنانين المخضرمين مثل جورج البهجوري، نازلي مدكور، عمر النجدي وحلمي التوني. تقول حشمت لرصيف22: "للسفارات الأجنبية دور كبير في انتشار تلك الغاليريات، لأن الوفود الأجنبية الموجودة في مصر عندما تريد التعرف إلى ثقافة دولة تبحث دائماً عن الفن وتكون الغاليريات وجهتها التي من الممكن أن تجد ضالتها فيها".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...