كانت تمتد في نيل القاهرة أكثر من 500 عوامة حتى نهاية الأربعينات. اليوم تقلص عددها إلى نحو 36 عوامة، لكنها ما زالت ترسو في ثبات بنسق فريد من العمارة بطبقة أو طبقتين، تستقبل الضوء والشمس، وتتهادى بسكانها فوق موجات النهر البطيئة. تعتبر هذه العوامات أماكن سكن تعامل كالعقارات، ولها تراخيص وعليها رسوم ولا بد من أن تحصل على شهادة أنها صالحة هندسياً للبقاء في النيل. جدرانها من الخشب، في الطبقة الواحدة منها نحو 4 حجرات ومطبخ وحمام، تطلّ جميعها على النيل، ويشاهد سكانها من خلال نوافذها بنايات منطقة الزمالك الفخمة، أو يمارسون الصيد بصنارات صغيرة. تُعرف العوامات بأرقام توضع عند مداخلها. فقد كانت العوامة الرقم 75 لنجيب الريحاني، والرقم 66 للمطربة منيرة المهدية، والتي عُرفت بأنها مقر إجتماعات مجلس الوزراء أيام حكم الملك فاروق، بحسب مقال للكاتبة سناء البيسي. يقول عارف غريب، والذي يعمل بحاراً ويهتم بصيانة إحدى العوامات، أن العوامات نوعان: ثابتة لا تتحرك من مكانها، وأخرى متحركة ويطلق عليها ذهبية. ويضيف أن العوامة بأكملها تصنع من الخشب لتطفو على المياه على أيدي نجارين ومهندس معماري، ثم يتم تثبيتها وشدها بخزانات حديد ضخمة حتى لا تجرفها المياه. يتم بعد ذلك إيصال المرافق إليها.
جواسيس في العوامات؟
يقول الدكتور عاصم الدسوقي، أستاذ التاريخ الحديث، لرصيف22 أن بداية ظهور العوامات في نيل العاصمة كانت في العشرينات. وقد فرضتها الضرورة على القاهرة التي عانت حينذاك من نقص في مواد البناء بسبب الحرب العالمية الأولى. لذلك، اتجه بعض الناس إلى استخدام الخشب في البناء، وسرعان ما تحولت الضرورة رغبةً راقت لعيون الأثرياء الذين تسابقوا في بناء العوامات الفاخرة بهدف الإقامة فيها وتسلية ضيوفهم. يتابع أن العائلة المالكة ممثلة في أسرة فاروق وقبله فؤاد كانت لديها عوامات وأشهرها العوامة مصر التي اشترتها الملكة نازلي. وكانت العوامات مقصداً للجواسيس الذين كانوا يتسللون إلى نيل القاهرة في سنوات الحرب العالمية الثانية، بحسب الدسوقي. وقد اتخذ الجاسوس الألماني الذي عاش في مصر إبلر، أو حسين جعفر، من العوامة مقراً لإقامته عام 1942، وكان الضابط وقتذاك أنور السادات يتردد على عوامة إبلر لتنسيق الجهود ضد الوجود البريطاني في مصر، بحسب الدسوقي.ظهرت العوامات في القاهرة في العشرينات حينما عانت مصر من نقص مواد البناء بسبب الحرب العالمية الأولى
من يسكن اليوم في عوامات النيل القديمة؟
العوامات والستينات
كانت الستينات نقطة تحول في وجود العوامات، فقد نُقلت من منطقة الجيزة إلى منطقة إمبابة. حينذاك رفض كثرٌ من مالكيها الانتقال إلى مناطق اعتبروها شعبية، فباعوها أو تركوا بعضها يغرق.عوامة تنقذ آثار النوبة
يقول دسوقي أن عوامة وحيدة استثنيت من قرار النقل في الستينات، وهي عوامة البروفيسور جورج سكانلوي، أستاذ العمارة والفن الإسلامي في الجامعة الأميركية بالقاهرة، لأنها كانت مقراً لفريق عمل من خبراء التنقيب عن الآثار في مصر. وكان عليه أن يبقيها مكانها حتى يكون الفريق قريباً من مواقع الحفر والتنقيب عن الآثار في الفسطاط والقاهرة القديمة. وعلى مدى السنوات الممتدة بين عامي 1965 و1981، استمر سكانلوي في قيادة فريقه من هذه العوامة التي حملت اسم الفسطاط، بحسب دسوقي. بنيت هذه العوامة بعد الحرب العالمية الأولى، وأبحرت إلى النوبة لتكون مقراً لإقامة فريق من خبراء الآثار أثناء عملية إنقاذ آثار النوبة وأسوان المهددة بالغرق.إخلاص والقطط
تُعتبر إخلاص حلمي واحدة من أشهر سكان العوامات اليوم. تقول لرصيف22: "أنا عاشقة العوامات ولدت في عوامة والدي، ومنذ ذلك الوقت أحببت النيل وعندما تزوجت في شقة فاخرة بالزمالك لم تفارقني فكرة العودة إلى النيل، وفعلاً انتقلت إلى عوامتي وتركت شقتي الفاخرة بعد وفاة زوجي". تسكن في عوامة تحيط بها الأشجار مع قطط كثيرة تتولى رعايتها منذ سنوات عدة.قول حارسة العوامات أم سعيد لرصيف22: "نحن جزء من حياة العوامات منذ سنوات طويلة". كان زوجها الريس زكي شيخ الصيادين، وكان يعمل في صيانة العوامات كلها"عشت معه زمن العوامات الحقيقي، حين كان يملكها المشاهير"، تقول أم سعيد. تضيف أن كثيراً من أصحاب العوامات يؤجرن الدور الثاني للأجانب الذين يبحثون عن تجربة نيلية، فإيجار العوامات هذه الأيام يترواح بين 3 آلاف و5 آلاف جنيه شهرياً.
الماء والخضرة...
يقول المهندس صلاح حليم، لرصيف22 أنه يسكن في عوامة منذ نحو 50 عاماً، متمتعاً بالماء والخضرة حولها. "لكني أعاني من جيراني ومن مشاكل إدارية كثيرة وتعدد الجهات التي تشرف على العوامات"، يقول لرصيف22. ويضيف: "نواجه صعوبة حالياً في استصدار التراخيص السنوية، إننا هنا نخضع لقوانين الري ومرافق القاهرة والجيزة وشرطة المسطحات المائية، ونعاني من مشاكل الصرف الصحي". يقول أن العوامات حالياً مساكن مكلفة فهي تحتاج إلى عملية رفع في الصيف، فضلاً عن تكاليف صيانة الصنادل المحركة ومحركات الدفع.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...