لا يَحار السكارى في مصر كثيراً في اختيارات الذهاب إلى البارات في نهاية يومهم، أو ليلة الخميس، سهرتهم المقدسة، فتقودهم الخطى دون تفكير إلى منطقة وسط البلد، التي ترسم خريطة أي نشاط يحدث في العاصمة. إلا أن خريطة البارات قد تدفعك إلى مغامرة الخروج من قلب المدينة.
الحرية، الجريون، ستيلا، هابي سيتي، كاب دور، أستوريل... أسماء لبارات مصرية معروفة تاريخياً وإعلامياً وشعبياً، شكلت جزءاً كبيراً من الذاكرة التاريخية للسُكر في مصر، نظراً لنوع الطبقات الاجتماعية التي تقصدها، سواء كانوا من المثقفين أو السياسيين، لكن الهامش دائماً يصنعه المهمشون الباحثون عن الكأس خارج هذه البقعة المعروفة... هنا نتعرف إليها .
الدقي: "الخمارات جنب المخابز
في زقاق صغير مسدود من أحد تفريعات شارع التحرير بمنطقة الدقي، تختلط روائح الخبز الطازج بالكحول المنبعثة من المخبز البلدي وكافتيريا الدقي، اللذين يصنعان ثنائية متناقضة ألفها سكان الحي خلال العقود الخمسة الأخيرة.
لافتة معدنية صفراء تحمل شعار "ستيلا"، وأخرى من النوع نفسه لاسم المحل "كافتيريا الدقي"، تقودكم إلى أحد أقدم بارات الدقي، الذي تأسس في 1961، وهو العام الذي شهد الطفرة الإنشائية للبارات في مصر. لكن هذا البار يتفرد بتفاصيل لن تجدها في بار آخر في الحي المشهور بالأسطح الفاخرة.
باب موارب تعبر من خلاله الكراسي المتراصة خلفه مباشرة، بشكل يوحي بتكدسه في فترة الظهيرة، لكن تصميم المكان يجعلك تستمر في السير لمشاهدة طبيعة الزبائن الذين بالكاد انتهوا من العمل، وفي الخلفية تصدح الست أم كلثوم من الراديو المتهالك المعلق جوار البار.
هنا رجل أربعيني يرتدي بدلة ويضع حقيبة "المحاماة" أعلى الطاولة، وهناك رجل أشيب منكب على الزجاجة والسيجارة، وفي الزاوية الهادئة البعيدة يجلس آخر بجلباب مهترئ، وفي الوسط مجموعة من الشباب يتسامرون ويرفعون الكؤوس في صمت، حفاظاً على هدوء المكان.
لم يتغير البار كثيراً عن فترة الستينيات باستثناء طلائه بالألوان الممتزجة بين الأصفر والبني الداكن، هذا ما يوضحه شريف وحيد، مدير كافتيريا الدقي، الذي يحجز معقده أمام هرم زجاجات البيرة والويسكي المحلية.
للبار ميزة في موقعه الجانبي لاقتصاره على زبائنه القدامى، فلن تعثروا عليه إلا بالصدفة أو من خلال كلام الآخرين عنه.
"البار له طبيعة خاصة في وسط البلد، مخصص لكبار السن من جميع الفئات مثل الصناعيين والموظفين والمحامين، والفنانين من عازفي أوركسترا الأوبرا"، يتحدث وحيد عن طبيعة زبائنه، مشيراً إلى أنه يسمح للزبون الجديد بالجلوس مرة واحدة فقط لملاحظة سلوكه قبل قراره بمنعه أو الترحيب به.
يقدم البار أسعاراً خاصة مختلفة عن أسعار نظرائه في وسط المدينة، إذ لا يزيد سعر زجاجة البيرة عن 23 جنيهاً بـ"المزة" (نحو دولار واحد)، وهو العرض الذي لم يعد موجوداً إلا في أماكن محدودة بسبب زيادة الجمارك المفروضة على أسعار الكحوليات.
الزمالك: بار الحارة المزنوقة
بينما تزيغ عيونكم على المقاهي الزاهية التى ترص كراسيها فى شارع 26 يوليو، تنعطف قليلاً إلى المنطقة الأقل بريقاً في حي الزمالك، عند شارع بابا شارو، الذي يبدأ بمقهى شعبي ذاع صيته في السنوات الأربع الأخيرة باسم "الحارة المزنوقة"، وهو المصطلح الذي أطلقه الرئيس المعزول محمد مرسي عليه، في وصفه لمجموعة السياسيين والصحافيين الذين يجلسون في المقهى للتخطيط لإزاحته من حكم مصر.بضعة أمتار، هي كل المساحة التي يقام عليها بار "فرحات"، الواقع بين العقارات التاريخية والقصور الفخمة والمحال الأنيقة المتكدسة بأبناء الذوات من حي الزمالك الأرستقراطي، فلا تتعجبوا إذا صادفتم رجلاً ستينياً يجلس أمام ثلاجة مياه غازية، يرحب بكم لاحتساء الجعة.
على بعد أمتار من المقهى، صنع "فرحات" عالماً خاصاً به مكوناً من ثلاجات عرض المياه الغازية والجعة ماركة ستيلا المصرية، و3 أرائك خشبية قديمة تحيطها الكراسي والطاولات المتهالكة. كل هذا يدور تحت السماء المفتوحة، فتحتمي زاوية "فرحات" التي تتجاوز مساحتها 3 أمتار بالعقارين المتلاصقين دون سقف.
البار "المزنوق" تأسس عام 1960 بغرض بيع الكحول لأهالي الزمالك والعابرين، إلى أن صار بشكله الحالي استراحة للباحثين عن زاوية هادئة، تندر فيها الأحاديث، وتخلو من الهمسات وقهقهات البارات، بسبب سكونها وظلامها ووجودها فى منطقة سكنية.
"المكان عمره 50 عاماً، أبيع المياه الغازية والبيرة بأسعار المحلات وأوفّر للزبائن قعدة للشرب والاسترخاء"، يتحدث فرحات عن مشروع عمره، وهو يستند إلى مقره الدائم على الباب الذي لا يحمل لافتة.
يتنوع جمهور البار بين الطبقة العاملة من حراس العقارات الذين يقصدونه خلال فترة النهار، بينما تحتله فئة الشباب مع حلول الظلام، لكن فرحات ينحاز إلى أبناء جيله لأنهم الأكثر تفهماً لطبيعة المكان الهادئ عن الشباب الصاخب.
يفضل فرحات أن يبقى مكانه بعيداً عن اهتمام وسائل الإعلام، لحرصه على استمرار مصدر رزقه. يوضح: "المكان مرخص له البيع فقط، لذا نتعرض للمضايقات من الشرطة وليس من الأهالي، لأنني أحرص دائماً على عدم إزعاجهم بفرض طابع الهدوء على المكان".
بور توفيق: ملاذ "التوفيقيين"
هذه المرة، لن يكلفكم الخروج من قلب المدينة كثيراً، فالأطراف الهادئة دائماً ما تستحق فرصة الاكتشاف، وهو ما بحثنا عنه بين ميدان الألفي وشارع عرابي، الذي يبعد كيلومتراً عن ميدان طلعت حرب، أي 10 دقائق سيراً.
يافطة صغيرة تحمل شعار "ستيلا" هي العلامة الوحيدة التى تدلكم إلى كافتيريا بور توفيق. فرغم احتلال البار ناصية مميزة، فهو يتوارى خلف شجرة كبيرة، ومقهى صغير يزاحمه مدخل شارع عرابي، لكن عيون عمال وتجار سوق التوفيقية لا تخطئه.
أنشئ البار فى الستينيات من القرن الماضي، واتخذ من سوق التوفيقية، أشهر أسواق القاهرة في بيع قطع غيار السيارات، اسماً له "بور توفيق"، ومنذ تاريخه وهو ملاذ تجار ورواد هذا السوق.
البار من الداخل على الطراز القديم، لكنه منظم جداً بين طابق أرضي لا يتجاوز عرضه 3 أمتار، وطابق علوي يوفر لك خصوصية إذا كنت ستزوره فى منتصف يومك، وفي جميع الأوقات سيكون أيمن مجدي البارمان في انتظارك لتلبية طلباتك.
قضى مجدي 20 عاماً، أي نصف حياته تقريباً، في "بور توفيق"، تكونت خلالها صورة ثابتة لديه أنه بار الكادحين، الذي لا يقصده سوى تجار سوق التوفيقية وأصحاب الأعمال الحرة الذين ينتمون للطبقة المتوسطة، فلا يتذكر أنه استقبل فناناً مشهوراً أو كاتباً كبيراً على غرار بارات النخبة.
تختلف طباع جمهور الطبقة العامة نوعاً ما عن طباع النخبة، فالأول لا يميل إلى خلق الأحاديث لأنه "ليس بخير"، فالبار ملاذه للهروب من ضغوط الحياة اليومية، وإذا تحدث فسيكون ساخطاً على حال البلاد والعباد، لكن النوع الآخر يغوص في التأملات أو المجاهرة بالأفكار التي تطرأ على مخيلته.
يحافظ "بور توفيق" على سعر ثابت لاستمرار جذب الطبقة العاملة، فلا تزيد زجاجة البيرة ولوازمها عن 24 جنيهاً (1.3 دولار).
قبرص: مملكة جورج زكي
في شارع عرابي أيضاً، وهو همزة وصل بين وسط البلد ومنطقة رمسيس، تنضم كافتيريا قبرص السياحي إلى لائحة البارات العتيقة التي لم تحظ بالشهرة الإعلامية، فالبار الذي أسسه الخواجات قبل 100 عام لم تزره أقلام الصحافة وكاميرات التلفزيون.
ثمة اختلاف كبير بين الواجهة الزاهية لكافتيريا قبرص وما يدور بداخلها، فاللون البرتقالي الفاقع، رمز الصخب والإثارة، يقابله عالم آخر بالأبيض والأسود، حيث الأضواء الخافتة والجدران القديمة التي تنضح برائحة العبق، وهو ما أضفى طابعاً رتيباً على رواد المكان الذي رسمت الشيخوخة تفاصيلها على أسلوب حياتهم.
جزء من شخصية "كافتيريا قبرص" يعود إلى الرجل القابع خلف البار، وهو ذو هيئة مهندمة وشعر أشيب وملامح هادئة تصلح لشخصية حكيم من بلاد الهند، إنه المدير جورج زكي، الذي لا يبرح مكانه إلا لتبادل تحيات الزبائن الدائمين واقفاً من موقعه أيضاً.
بلغة هادئة، دار حوارنا مع زكي، الذي يدير باره منذ ربع قرن، أمام البار نفسه، موضحاً أن المكان يعود تاريخه إلى قرن من الزمان، وهو يملك رخصة فندقية من فئة النجوم الثلاثة.
يفتح قبرص أبوابه لجميع الفئات والطبقات، فالجالس يجد بجواره محامياً وموظفاً حكومياً وعاملاً يرتدي زيه الرسمي "العفريتة"، ورأسمالياً قادماً من الصعيد بجلبابه الفخم، هؤلاء هم زبائن جورج زكي، المعروف بانتقاء زبائنه.
يقول: "المكان معروف، لا تهمني صفة الزبون، سواء كان فناناً أو عاملاً بسيطاً، لكنني أختار زبائني من خلال المعاملة والانطباع الأول".
يبدي زكي، الذي تخطى عقده السادس، عدم اكتراثه للتناول الإعلامي لعالم البارات، بدعوى أنه ليس من هواة البحث وراء الشهرة في عمره المتأخر، فلا يتذكر أنه أجرى حواراً صحفياً أو تلفزيونياً من قبل.
تزيد أسعار قبرص عن بقية الأماكن، فتقدم زجاجة البيرة مع مازاتها بـ27 جنيهاً (1.5 دولار)، أكثر جنيهين من ثمنها في بار عرابي المجاور له، وبثلاثة عن ثمنها في بور توفيق.
هل تنقرض البارات الشعبية؟
في كتابه "بارات مصر... قيام وانهيار دولة الأنس"، يوثق الصحافي محمود خيرالله اندثار البارات الشعبية في القاهرة والإسكندرية في القرنين الماضيين، إذ يرى أن بقاءها حتى اليوم يعكس قصصَ كفاحٍ كبيرة، عاشتها الروح المصرية المتسامحة على مدى ثلاثة قرون تقريباً، بعدما شكلت البارات نواةً شعبيةً لأفكار التسامح الديني وقيم الاستمتاع بمباهج الحياة. ويشير خيرالله إلى أن عددها في مصر تراجع حتى بلغ 5 % من مجموعها الأساسي، منذ أن ظهرت في فترة الاحتلال البريطاني " 1882- 1952". ويعزو هذا التراجع الكبير إلى إغلاق البارات القديمة لأسباب مختلفة، منها الاقتصادي كما هو الحال في بارات شبرا التي اشتهرت قديماً وعددها 5 بٰنيت في مناطق متجاورة، وأغلقت أخرى لأسباب سياسية – دينية، عندما بيعت أشهر خمارات الإسكندرية بملايين الجنيهات إلى من ينتمون إلى التيار الإسلامي في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك. ويختم خيرالله: "زرت بارات كثيرة خارج وسط البلد. ولا أتذكر الآن أسماءها، لكنها تبقى قبلة الجميع ومحور حياتنا، ففيها قلب القاهرة الخديوية والمصالح الحكومية والسينمات والمقاهي. لذا، كان ضرورياً أن تكون باراتها هي الأساس".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع