على بعد 12 كم من مركز محافظة المنيا في جنوب مصر تقبع قرية زاوية سلطان.
هناك، وفي المحافظة الصعيدية التي عانت لعقود طويلة من التهميش والفقر وسوء البنية التحتية، تتراص مجموعة من المنازل وترتفع خلفها ظلال مقابر قديمة، تخالاها أشباحاً عند الغروب.
يمنحها النيل الذي يمر في أحد جانبيها "بهجة" عابرة، تتلاشى مع أصوات المشيعين الداخلين إليها، والذين يكادون يكونون ضيوفاً دائمين على القرية "المنحوسة".
كان من الممكن أن تكون زاوية سلطان، أو كما عرفت بـ "زاوية الموتى" واحدة من أجمل قرى محافظة المنيا في صعيد مصر بسبب الطبيعة المحيطة بها، لكن الاستهتار حولها إلى مقصد من يبحث عن مثوى أخير لقريب أو صديق، و"مقبرة" تضم جثث أبناء القرى المجاورة.
يبلغ عدد سكان المنية بحسب تعداد الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء المصري، 5.586.409، وتضم بين حدودها ما يزيد على 50 قرية، وهي تعاني من قلة عدد الجبانات وحصرها في مكان واحد داخل قرية زاوية سلطان، والتي تحولت بسبب زحف الجبانات، قرية للموتى بحسب وصف أهل المنطقة.
يقول المحامي إبراهيم بولس، 33 سنة، لرصيف22: "صادقنا الموتى ونحن شباب... كنا نلعب بالجماجم، بخاصة أن هناك أبواباً للمدافن فتحتها على مصاريعها الحيوانات الضالة التي كانت تعبث بها ليلاً، وكنت وأصدقائي نذهب إلى أعلى الجبل حيث كثافة المقابر، وهناك كانت تحلو جلسات السمر، وتتعالى الضحكات".
قرية زاوية سلطان، ليست وحدها المليئة بالمدافن، حيث يدفن جميع مسلمي مدينة المنيا موتاهم، بل هناك قرية أخرى تدعى سوادة، ملاصقة لزاوية سلطان تماماً، وتتسم أيضاً بالصفات نفسها، لكنها مخصّصة لموتى المسيحيين.
يقول بولس: "عشت أجمل أيام عمري في قرية زاوية سلطان، مُذ كنت طفلاً حتى تخرجت في كلية الحقوق بجامعة أسيوط... لكن الجنازات التي كان يؤتى بها يومياً إلى القرية من كل حدب وصوب، كانت تنغّصها، فلم يكن أمام والدتي سوى أن تخبئني حتى لا ينتابني الرعب".
هنا الموت…
"مرحباً بك في زاوية سلطان"، لافتة كبيرة تراها حين تقترب من حدود القرية. إلى اليمين تسهل مشاهدة النيل الذي على ضفته المتاخمة القرية، قطعة خضراء مزروعة، وإلى اليسار منازل متراصة جنباً إلى جنب، يسكنها حوالى 12 ألف نسمة، خلفها مقابر ملاصقة للمنازل، وبين النيل والمنازل طريق سريع يقود إلى مدينة "المنيا" شمالاً، ومركز "أبوقرقاص" جنوباً. القبور في القرية قديمة. يقول العمدة يوسف أن تاريخ إنشاء القبور في القرية، يرجع إلى العصر الفاطمي، وكانت في وقت من الأوقات مقصداً سياحياً للأجانب. ففي القرية، بحسب يوسف، ما يقرب من 26 ضريحاً يقال أنها لأولياء الله الصالحين، من بينها أضرحة الإمام القرطبي والشيخ أبي العزايم والشيخ علي النحاس، لذا كانت زاوية سلطان مقصداً للعائلات الكبيرة لدفن موتاها تبركاً بالأضرحة. لكن حال مقابر اليوم مختلف. بولس، وهو إبن القرية، شاب وسيم قوي البنية، تضفي نظارته عليه المزيد من الوقار. سعى كثيراً إلى إيجاد زوجة تشاركه حياته في القرية التي اعتقد أنها الأجمل بين قرى المحافظة، إلا أن جميع محاولاته باءت بالفشل. يقول: "اللواتي تقدمت لخطبتهن رفضن العيش معي في قريتي، بدعوى وجود عفاريت وأشباح، وقالت إحداهن مش هعيش وسط الأموات". أُجبر بولس على شراء شقة في مدينة المنيا، وكان يريد فتاة لديها مؤهل علمي، وهذا أمر صعب في قريته البسيطة، لذا اضطر إلى الارتباط بفتاة من خارج القرية، الأمر الذي زاد الأعباء عليه. يضيف: "رغم إني عايش في بيت والدي، وليَ شقة هناك متشطبة كويس، لكن اضطريت أشتري شقة في المدينة، عشان أرتبط بالإنسانة المناسبة".تحركات حكومية لوقف إنشاء المقابر
تقول المهندسة ميرفت عبدالوهاب، مديرة التخطيط العمراني في محافظة المنيا، أن الأزمة تكمن في عدم تخصيص أراض لإنشاء مقابر فيها، ما أدى إلى تفاقم الأزمة الخاصة بزاوية سلطان وتخطت نسبة الأراضي التي أنشئت فيها مقابر الـ70%. كما تشير إلى أنها تقدمت ومَن معها بأكثر من طلب إلى ديوان عام محافظة المنيا، وإلى وزارة الإسكان أيضاً لتخصيص قطعة أرض فضاء في القريب العاجل لإنشاء مقابر فيها لحل جزء من أزمة ازدياد المقابر في بعض القرى وانعدامها في قرى أخرى. يقول العمدة يوسف أن أرض المدافن الموجودة في القرية تقدر بنحو 1500 فدان، وهي تمثل ما يزيد على 80% من مساحة القرية بأكملها، موضحاً أن هناك ما يزيد على 20 قرية مجاورة لا مقابر لها، وفي حالات وفاة فيها تتمّ مراسم الدفن في مقابر الزاوية. "الناس هجرت بيوتها وفيه ناس تانية حولت بيوتها لمقابر"، هكذا أضاف عمدة زاوية سلطان، موضحاً أن هناك اشمئزازاً بين الأهالي بسبب ازدياد المقابر وكثرة حالات الدفن ليلاً ونهاراً وانتشار الروائح الكريهة التي من شأنها أن تؤثر في الهواء داخل القرية، وتنتج منها أمراض. ويتابع: "هناك نحو 7000 مقبرة في القرية، و2500 منزل فقط، وهناك عائلات تدفن موتاها داخل المنازل لعدم وجود مقابر كافية". وأوضح أنه تواصل مع رئيس المجلس المحلي لحل تلك الأزمة، لكن من دون فائدة. وعللت المحافظة الأمر بأن التقسيم العمراني الجديد لم يأخذ في الحسبان الجبانات، واكتفى بإنشاء البنية التحتية، مهملاً مواقع لها.لننقل الجثمان…
في أحد الأيام، تلقى الرجل الخمسيني عاصم هارون المقيم في قرية أبو فيليو، والتي تبعد من زاوية سلطان 10 كيلومترات، اتصالاً هاتفياً من زوجته تبلغه بأن أحد أقاربه توفي، وعليه العودة للمشاركة في مراسم الدفن. بعد عودته وتجهيز المتوفى وإتمام عملية الغسل، بدأت الرحلة الشاقة لدفنه من طريق نقل جثمانه إلى جبانة زاوية سلطان بسيارة مع حشد من الأهالي والأقارب. "دائماً، نواجه أزمة في حالة وفاة داخل قريتنا، لا مدافن على الإطلاق وأقرب مدفن يبعد نحو 10 كيلومترات"، يقول رضا رسمي الموظف في وزارة التربية والتعليم، وهو من أهالي قرية دماريس القريبة من قرية زاوية سلطان. ويضيف: "في بعض الأحيان، نمشي إلى المدافن، ما يسبّب إجهاداً كبيراً، خصوصاً لكبار السّن والنساء الذين يشاركون في التشييع. تواصلنا مراراً مع المسؤولين وطالبناهم بضرورة تخصيص قطعة أرض لنا لننشئ فيها مدافن خاصة بأهل القرية، لأن المسافة متعبة ومنهكة، فضلاً عن زيارة المدافن في المناسبات، فلم نلقَ آذاناً مصغية". أما عبدالرحمن خلف، فتحدّث عن مشكلة أخرى ناتجة من أزمة المقابر وهي الحفائر المتعددة خلسة للبحث عن الآثار تحت القبور، ما يؤدي إلى نبشها وخروج هياكل الموتى، موضحاً أن أهل القرية تواصلوا مع مسؤولي الأمن وعدد من مسؤولي ديوان عام المحافظة وأبلغوهم بذلك، ولم يتم تحريك ساكن. يقول خلف لرصيف22، أن الجهات المسؤولة تصم آذانها عن الشكاوى، وتركت الأمر لتحركات الأهالي. "المسؤولين عاملين ودن من طين وودن من عجين لا بيقدموا ولا بيأخروا". البحث عن مأوى جديد يقول عبدالخالق، أحد سكان القرية الذي فضل عدم ذكر اسمه كاملاً، أن زحف المقابر مستمر وتنشأ بين ليلة وضحاها مقابر جديدة في أرض القرية، ما اضطر عدداً كبيراً من الأهالي في المنطقة الشرقية من القرية، للانتقال إلى المنطقة الغربية بعدما تقلصت المساحة السكنية من 80 فداناً إلى نحو 40. ويوضح أن هناك شكاوى من أهالي الزاوية تم تحريرها في الوحدة المحلية الخاصة بالزاوية، وحين تم إرسال قوات أمن لإزالة المقابر الجديدة المخالفة، كان مصير موظفي الوحدة المحلية التعدي عليهم من الأهالي لرفضهم هدم الجبانات لوجود موتاهم فيها. يضيف عبدالخالق لرصيف22، أن سكان الزاوية بدأوا منذ سنوات البحث عن مكان جديد يؤويهم وأولادهم، بخاصة أن الروائح الكريهة تفوح منها بشكل مستمر، وباتت ملجأ للكلاب الضالة والحيوانات المفترسة. ويشير إلى أن إنشاء القبور بات ظاهرة تستدعي التدخل من المسؤولين حتى لا يزداد خطرها الذي يتمثل في الأوبئة والبكتيريا التي من الممكن أن تنتشر في ربوع المنطقة وتؤدي إلى أمراض خطيرة. أما حسين أنور العامل في أحد مساجد قرية أبو فيليو بمحافظة المنيا، فيقول لرصيف22، أن عدم وجود مدافن لأهل القرية يدفنون موتاهم فيها، وغلاء أسعار المدافن في القرى المجاورة، اضطرا عائلات لإنشاء جبانات فوقية للتي تمتلكها داخل قرية زاوية سلطان. وعمدت عائلات أخرى إلى دفن موتاها تحت سطح الأرض بقليل دون دفنهم على عمق كبير، مشيراً إلى أن مساحات الأراضي الزراعية في قرية زاوية سلطان تقلصت كثيراً وباتت المقابر عنواناً للقرية.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين