على الرغم من كراهية المصريين منذ القدم للموت فإن علاقة خاصة ربطتهم به، فقد اعتقدوا بالبعث والخلود والحياة الأخرى فكان للموت عندهم طقوس ظهرت للعالم في تطورهم في بناء مقابرهم التي شيدوها حتى وصلت إلى هرم تعدى عمره سبعة آلاف عام.
في الصعيد، ارتبط أبناء المنطقة عبر العصور بأرضهم وتمسكوا بالعادات والتقاليد الموروثة من آبائهم، وكان للموت نصيب من هذه الموروثات. وعلى الرغم من تدين أهالي الصعيد، مسلمين كانوا أم مسيحيين، فإن الدفن لديهم لا يخضع للشريعة الإسلامية، وما زالت الطقوس الفرعونية في الدفن وتشييع الموتى هي السائدة في قرى صعيد مصر.
المناحة
يحيط أبناء الصعيد بالميت، ويبكونه بحرارة وكتمان. ممنوع إخراج صوت حال حدوث الوفاة في الليل حتى لا يجتمع أهالي القرية. يذهب أحد المقربين لشراء الكفن ويقضون ساعات الليل بجواره ما بين مصدوم وما بين مودع، ويتسرب الخبر إلى أهالي القرية رويداً رويداً حتى يأتي الصباح ويتم الإعلان عن الخبر عبر مكبّر صوت أحد جوامع القرية، والجميع يستعدون لإخراج الجثمان وتشييعه للدفن. يقول الدكتور محمد السيد أبو رحاب، أستاذ الآثار بجامعة أسيوط، إن المناحة حول المتوفي عادة قديمة كانت تمارسها النساء في مصر الفرعونية، كما كانت هناك مهنة تسمى "النواحات" وهنّ سيدات يقمن بإظهار الحزن على وفاة الشخص والبكاء والندب عليه، مشيراً إلى وجود صور للنواحات وما كنّ يقمن به على جدران إحدى المقابر بمدينة الأقصر.الكفن
في الصعيد، يختلف نوع الكفن من شخص لآخر. يختلف كفن الأغنياء عن كفن الفقراء، من حيث الخامة والروائح، التي تأتي معه، إذا تكون فاخرة أكثر من تلك التي يشتريها الفقراء. كما يختلف كفن الرجل عن كفن المرأة، إذ يوضع الرجل في كفن واحد، بينما المرأة تكفن في اثنين، إذ يشتري زوجها كفن والآخر يشتريه أهلها إن كانت متزوجة. بينما الفتاة توضع في أكثر من كفن ويختلف لونه ما بين الأحمر والأخضر، وتكتفي بعض العائلات الفقيرة بكفن واحد أبيض. ويشرح أبو رحاب أنه في مصر القديمة اختلف الكفن وفقاً لمكانة المتوفى إذ كان يُكتفى بغسل جثة الفقراء ووضعها في الملح، أما الموظفون وأبناء الطبقة الوسطى فقد كانت جثثهم تلف بالكتان بينما تُستخدم أغلى المواد في تحنيط جثث الفرعون وأسرته.الموكب
في موكب يحمل المقربون من المتوفّى "النعش"، الذي به جثمانه، وكل موكب يدل على مكانة الفقيد الاجتماعية من حيث عدد المشيعين للجثمان. ومنهم من يحملونه سيراً إلى مدفنه ومنهم من يفضل الركوب بسيارات مختلفة حتى المقابر، وتقف النساء من أقارب المتوفّى وجيرانه بأول طريق القرية ليقيموا ما يسموه "تحية الموتى" وهي عبارة عن "صويت" وعويل وشق الملابس وغيرها من كلمات "العديد" التي تختلف حسب عمر المتوفّى.الدفن لدى سكان صعيد مصر لا يخضع للشريعة الإسلامية أو العادات المسيحية، بل يتم حسب الطقوس الفرعونية
عندما تكون سلطة العادات والتقاليد أقوى من سلطة الدين: الدفن على الطريقة الفرعونية في صعيد مصرويؤكد أبو رحاب أن خروج الميت في موكب يحمله أهالي القرية، تتبعه النساء حافيات وعاريات الرأس يرددن العديد من ضروب الندب. ويتابع: "على الرغم من أن الإسلام نهى عن فعل ذلك، فإن معظم قرى الصعيد ما زالت تمارس هذه الطقوس بجانب الاحتفال بمرور أسبوع على الوفاة، وذكرى مرور خمسة عشر يوماً، وإقامة الأربعين والذكرى السنوية للمتوفّى، وقضاء الأهالي العيد في المقابر، وهي جميعها موروثات من مصر القديمة". ويشير أبو رحاب إلى أن الفراعنة كانوا يقدسون الموت إلى درجة أن اهتمامهم الأول كان بناء المقابر والعالم الآخر أكثر من القصور والدنيا، لذلك نجد ما تركوه للمصريين هو معابد ومقابر وأهرامات.
الدفن
ما زال يخضع صعيد مصر لحكم طبيعة البيئة، رغم تعارض ذلك مع ما جاءت به الشريعة الإسلامية بعملية الدفن، إذ تبنى المقابر حتى الآن بأشكال معينة تم توارثها من مصر الفرعونية:-
الفساقي
-
القباب
-
القبر العائلي
جمع العظام
عند كل حالة وفاة جديدة بالعائلة، يفتح الأهالي المقبرة ويجمعون العظام المتبقية من الجثامين، التي دفنت من قبل ويضعونها في مكان واحد داخل القبر، ثم يرشون طبقة من الرمال فوقها حتى يتسع القبر لمزيد من الجثامين. وتتم هذه العملية كلما امتلأ القبر. ويقول سيف رجب قزام، عميد كلية الشريعة بطنطا لرصيف22 أن الأصل في الإسلام أن يكون الميت بمفرده في قبره دون مشاركة أحد معه، وإن كانت هناك ضرورة كعدم وجود أي مكان لبناء المقابر أو عدم استطاعة العائلة توفير قبر آخر، يجب ألا يدخل أحد القبر إلا بعد أن يبلى الجسم "يتحلل"، وفي هذه الحالة فقط يمكن أن يدفن آخر للضرورة، كما أن الدفن وفقاً للشريعة الإسلامية يجب أن يكون في لحد، وما عدا ذلك فهو مخالف للشريعة.الدفن عند الأقباط
يدفن المسيحيون في الصعيد موتاهم وفق الطقوس نفسها، التي يدفن بها المسلمون أيضاً، فلا تختلف كثيراً سوى في أن المسيحيين يضعون الجثامين في صناديق داخل الحجرات. واختلف الدفن لديهم عن الطقوس الفرعونية من حيث وضع الحلى وأغلى ما يملك المتوفّى معه داخل الصندوق، فهذا كله أقلعوا عنه.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...