كانت عقارب الساعة تشير إلى التاسعة مساء وكان المحامي أحمد بحراوي يجلس قبالة التلفاز في غرفة نومه بعد يوم عمل شاق في المحاكم.
اقتحم هدوء الليل صوت طرقٍ متواصل يصعد من أسفل العقار، فتوجه بصحبة أسرته للبحث عن مصدره، ليجد حفرة كبيرة في منتصف الطابق الأرضي.
نظر حولها فوجد فأس وجاروف ومقطف لرفع مخلفات الحفر. كانت هذه الأدوات التي استخدمها جاره في الدور الأرضي للحفر، وكان هدفه التنقيب عن قطع أثرية، قيل له إنها مدفونة أسفل بيته.
حُرر محضر بالواقعة في قسم المطرية، شرق القاهرة، لكن الحادثة لم تثر دهشة الشرطة.
ضاحية المطرية التي يسكن بها بحراوي ثرية بالكنوز. فهي المنطقة التي احتضنت مركز قيادة مصر الفرعونية،"هليوبوليس" سابقاً. وقد عثرت الأسبوع الماضي وزارة الآثار فيها على تمثال الملك بساتيك الأول المنتمي للأسرة الـ26.
الشباب فيها يتباهون بمنازلهم التي تعوم فوق مقابر أثرية لا حصر لها، ويعتمد الكثير من السكان على زنودهم وأدواتهم للتنقيب عنها.
وهو ما يحصل في مصر بشكل عام. حيث يؤمن قطاع كبير من السكان بأن مقتنيات أجدادهم الثمينة ترقد أسفل منازلهم. يقودهم شغفهم ورغبتهم في تحسين حياتهم للتنقيب عنها بعيداً عن أعين الحكومة.
وهم في بحثهم عن الكنوز هذه يحتاجون لدليل يوصلهم إليها. هنا، يظهر دور "الشيوخ" فيقدمون خدماتهم في البحث مقابل مبالغ مالية طائلة.
اليوم، لا تخلو وقائع التنقيب الفردية من سطوة رجال يعملون بتحضير الأرواح والجن، يسمَون شيوخاً، ويوهمون الباحث عن مخرج من فقره وعوزه أو الطامع بالمال بقدراتهم على كشف أسرار الكنوز، ومخاطبة حراس المقابر من الجن لتبوح بأسرارها.
يجتمع الأمل والإيمان بصدق وعود الشيوخ، لتبدأ رحلة البحث عن الكنز.
من الحلقة الأضعف في عملية النصب؟
يقسم إيهاب محمد، الباحث الأثري والمفتش بمنطقة آثار الهرم، لرصيف22 أنواع التنقيب إلى قسمين. الأول، وهو العشوائي الذي يعتمد على المناطق الغنية بالآثار مثل سقارة ونزلة السمان وقرى الجيزة القريبة من المواقع الأثرية. فالجميع يحفر بناء عن صيت تلك الأماكن العامرة بمقتنيات قدماء المصريين. أما الطريقة الأخرى، فتقوم على عملية "غسيل المخ". يقوم الشيوخ الذين يهابهم الكثير من سكان المناطق الشعبية، ويتعاظم دورهم في المناطق الريفية والصعيد بسبب زيادة معدلات الفقر وانخفاض المستوى التعليمي، بإقناع الراغبين في الثراء بالتنقيب.يؤمن الكثير من المصريين أن بقايا أجساد أجدادهم المحنّطة ومقتنياتهم ترقد أسفل منازلهم. هذه حكاياتهم
"التنقيب عن الآثار عملية نصب كبيرة متعددة الأطراف بين المنقب صاحب المنزل والشيخ والتاجر""هي عملية نصب كبيرة متعددة الأطراف بين المنقب صاحب المنزل أو الأرض وبين الشيخ والتاجر والوسطاء"، يقول محمد لرصيف22. ويرى أن الساعي وراء التنقيب هو الحلقة الأضعف في تلك المنظومة، لأنه أسير الرغبة في الثراء السريع، وهو ما يحتم عليه تتبع إمارات الشيوخ الذين يحفظون عن ظهر قلب ديباجات بلاغية للإيهام بوجود الآثار في مناطق بعينها. يربح الشيخ حصته من الصفقة التي تصل إلى ثلث قيمة الآثار التي يقوم بتقديرها مسبقاً ويقبضها قبل بدء الحفر. إن نجحت الخطة يحظى المنقبون بالثراء السريع وإن فشلت يخسرون المال الذي دفعوه للشيخ والعمال الذين ساعدوهم بالحفر. وهم في الحالتين يعرضون أنفسهم لخطر الحبس، إذ رفع القانون المصري عقوبة تجارة الآثار والتنقيب عنها بشكل غير شرعي من الجنحة إلى الجناية التي تصل إلى حد الحبس المؤبد، أو 25 عاماً.
تحتاج إلى شيخ لفك "الرصد الفرعوني"
على بعد 83 كيلومتراً من القاهرة، وتحديداً في محافظة الشرقية، تبدو عمليات التنقيب أكثر شراسة والآلات أكثر ضخامة بين الجبال والأراضي الزراعية التي يصعب على رجال الشرطة مراقبتها، حسبما يوضح الشاب الثلاثيني محمد شيبة. يحكي شيبة لرصيف22 عن عمليات تنقيب شارك فيها مع أقاربه، قائلاً إن الشيوخ عامل محوري في التنقيب، وبدونهم لا تتم الصفقة. فتكون مهماتهم تحديد منطقة الحفر وعمقها وفك رمز البوابة أو "الرصد الفرعوني". "لابد أن نحفر المساحة المطلوبة، والتي تصل أحياناً إلى 12 متراً، يبدأ الشيخ بتلاوة تمائم ليروض بها الرصد الفرعوني حتى تفتح المقبرة أبوابها"، يقول شيبة. وبحسب دراسة لمركز الأقصر للدراسات والحوار والتنمية، فالرصد الفرعوني هو "جان" من وحي الثقافات المتوارثة التي يستند إليها المنقبون في بحثهم. يتم الإتيان به عن طريق السحر، ليشرب من دم طير أو حيوان ويتشكل بعد ذلك على صورته. وقد شكلت هذه القصص جزءاً كبيراً من معتقدات شيبة عن قدرات الشيوخ.لا تتعجب إذا طرق بابك شيخ ليقنعك بأنك ستصبح غنياً
في مدينة طموه الواقعة على أطراف جنوب الجيزة، ينشط دور الشيوخ فى إغواء الأهالي بالكنوز القابعة أسفل منازلهم. فلا تتعجب إذا طرق بابك شيخ يرتدي جلباباً وشالاً لإقناعك بأنك ستصبح غنياً في قادم الأيام إذا نقبت عن كنزك. "الشيوخ هنا يخدعون الناس بطريقة جاذبة عندما يحدثونهم عن الكنوز وعلامات المقابر التي يرونها في منازلهم والأراضي التابعة لهم، لكنه هراء"، يتحدث سامح الضابط بوزارة الداخلية، والذي يقطن بمنطقة طموه، عن دور الشيوخ في بلدته. يحكي سامح، وهو اسم مستعار، لرصيف22 أنه فوجئ بأحد الشيوخ المعروفين بعلاقتهم بالآثار يأتي إلى منزله ليدعوه إلى البحث عن كنزه. لم يكن الشيخ يعرف هويته أو طبيعة عمله وبدأ يؤكد له أن أرضه ضمن مجموعة من الأراضي المليئة بالآثار. طلب الشيخ منه أن يجلب آلات الحفر ورجالاً لبدء عملية الحفر في حضرته. لم يتجاوب الضابط معه، لكن جيرانه وجدوا في كلامه أملاً. فبعدما رصد الشيخ ميزانية الحفر وأجره لفك رموز الجان الخاص بالمقبرة، ودفع أصحاب المنزل المبلغ كاملاً، لم يجدوا شيئاً.الآثار الغير شرعية...أكثر من السياحة
جرائم الآثار في بلد غني بها، كمصر، كثيرة. رسمياً، لا يوجد إحصاءات عن حجم تجارتها الغير شرعية، إلا أن تقديرات الصحف المصرية تؤكد أن مكاسبها السنوية تزيد عن 20 مليار دولار، وهو ما يعادل ضعف دخل مصر من السياحة، التي تشهد تدهوراً كبيراً منذ ثورة 25 يناير. وقد وثقت الدولة 262 جريمة وقبضت على 956 شخصاً خلال العام الماضي، بحسب التقرير الصادر عن مركز دفتر أحوال للبحث والتوثيق والأرشفة، تنوعت جرائمهم بين تنقيب واتجار وتهريب وشروع فى التنقيب. وبلغ عدد القطع الأثرية المضبوطة خلال نفس العام 11 حوالي قطعة، وفقاً للتقرير ذاته. تباع هذه القطع المهربة في مزادات سياحية في بعض الدول الأوروبية، تحاول وزارة الآثار المصرية الحد منها.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...