عام 1986، عُرض فيلم مصري حمل اسم "مدافن مفروشة للإيجار"، بطولة محمود ياسين ونجلاء فتحي، يحكي معاناة أسرة مصرية اضطرت للانتقال والعيش بين المقابر.
كان اسمه غريباً وقتذاك، لكنه يبدو عادياً جداً هذه الأيام، ليس فقط لأن هناك من يسكنون المدافن لنقص الشقق وأزمة السكن، بل لأن إعلانات القبور صارت عادية في مصر.
تخيلوا، وأنتم تتابعون برنامجكم على التلفاز أو يوتيوب، فقرة إعلانية عن إنشاء وبيع أحد أكثر الأشياء التي لا ترغبون في استخدامها: "جبّانات" أو مقابر "كاملة التشطيبات".
تطورت الإعلانات مع الوقت، واتجهت لإغراء الزبائن بنشر صور تبرز فخامة هذه "التشطيبات" والكماليات التي تميزها من المقابر القديمة في مصر.
فمَن أول من بدأ تجربة الإعلان عن المقابر، وكيف كانت الأساليب وردود الأفعال؟
جدال ديني يلازم الدعاية عن القبور
يعتبر محمد توفيق، والذي يمتلك واحدة من أبرز شركات بناء المقابر للمسلمين في مصر، نفسه أول من بدأ فكرة هذه الإعلانات بهدف البيع والاستثمار. "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً"، هذا الشعار الذي استخدمه للترويج لشركته "القاهرة الكبرى للمقابر"، وهو حديث شريف يقول الشق الثاني منه: "ولآخرتك كأنك تموت غداً". كانت البداية من طريق صفحة على فيسبوك خلال الرُبع الأول من عام 2011. عندما دخل توفيق هذا المجال عام 2011، وجد نفسه أمام أسلوب تقليدي في عمليات البيع وهو الوقوف على الطُرق بجوار أماكن المقابر، لعرض ما لديه أو من خلال تواصله مع معارفه ليمكنه بيع ما يملك. لكنه قرر ألا يتخذ الأساليب القديمة نفسها، واتجه إلى العالم الافتراضي للإعلان عن مساكن العالم الآخر. "واجهت سخرية وانتقادات واعتراضات"، يقول توفيق لرصيف22 عن ردود الأفعال الأولى التي وصلت إليه عقب إنشاء صفحة الدعاية للمقابر التي يتاجر بها. رأى البعض في فكرته "حرمانية" من الناحية الإسلامية، وهي في العادة رد الفعل السريع لابتكارات جديدة كثيرة. وجهة نظر المحرّمين أنه لا يجوز بيع القبور التي يبنيها وشراؤها، إذ إن هناك تفاسير دينية ترى عدم شرعية البذخ على القبر، وأنه يجب أن يكون حفرة بسيطة فوقها شاهدٌ عليه اسم المتوفى. [caption id="attachment_116052" align="alignnone" width="700"] الصور من صفحة "مدافن ومقابر إسلامية مرخصة - القاهرة الكبرى" على فيسبوك[/caption] كان على توفيق أن يرد على تلك التعليقات ضمن حملة الدعاية، فزار الأزهر ليحسم الجدال وحصل على فتوى تُجيز عمله. إلا أنه غيّر شعاره، وأزال الحديث بعد اقتناعه بأن استغلال النصوص الدينية، قرآناً أو حديثاً، هو تجارة بالمقدسات. لكن تهمة جديدة لاحقته حين عمل على بناء قبر العالم المصري الأميركي أحمد زويل قبل وفاته بعام على أرض مساحتها 40 متراً، وصوّر وعرض مقطعاً لأعمال التنفيذ، كما اعتاد مع كثرٍ من زبائنه. اتهمه البعض بأنه يتاجر بزويل للربح من ورائه."السوق واقفة" هذه الأيام
تجارة المقابر قديمة وموجودة حول العالم، فليس مستهجناً أن يشتري الناس أرضاً ليدفنوا مع عائلاتهم فيها. لكنها ازدادت، وبدأ العاملون فيها إضافة امتيازات وتفاصيل هندسية، خصوصاً بعدما كثرت إعلاناتها في السنوات الأخيرة. القبر الذي يُباع ليس الحفرة فقط، بل مساحة مسوّرة، يختلف حجمها بحسب السعر المدفوع، تعطي الزوار خصوصية وإحساساً بأنهم في غرفة خاصة. أحياناً تكون المساحة كبيرة تكفي لضم مقابر أسرة بكاملها. يبدأ سعره من 55 ألف جنيه، ويصل في بعض الأماكن، كمدينة نصر بجوار مقابر عائلة الرئيس السابق حسني مبارك، إلى مليون جنيه، وهو السعر الأغلى في مصر، على حد قول بعض العاملين في المجال. [caption id="attachment_116038" align="alignnone" width="700"] الصور من صفحة "مدافن ومقابر إسلامية مرخصة - القاهرة الكبرى" على فيسبوك[/caption] بعد شراء القبر، يحصل المشتري على تنازل ملكية رسمي من البائع وعلى التراخيص الصادرة من الدولة. يقول توفيق أن تجارة المقابر ليست في أحسن حالها هذه الأيام، مع زيادة الضغوط الاقتصادية على المواطنين. "الناس يبحثون الآن عن شقة للزواج، فيكف يشترون مقابر وهم لا يمكنهم شراء شقة صغيرة؟"، يضيف لرصيف22.مخرجون يريدون صنع إعلانات للتلفزيون
لم يتجه توفيق في البداية إلى الإعلان عبر ملصقات الجدران أو التلفزيون، كما يفعل آخرون واكتفى بالإنترنت. إلا أن عدداً من مخرجي الإعلانات بادر إلى عرض "خدماته" عليه لنقل دعايات المقابر التي يستثمرها إلى التلفزيون. هو لا يرى أي غرابة في اهتمامهم، فعمله في رأيه تجارة لها مكانتها، بخاصة بعدما دخلت الدولة هذه التجارة من طريق عرض مقابر بالتقسيط للجمهور. يقول أنه علم أن تكلفة إعلان وإذاعته عبر بعض "القنوات الرخيصة" بسيطة. يُفضل هو وزملاؤه في المصلحة الفضائيات غير الشهيرة، نظراً إلى رخص الإعلان فيها. ففي مصر، قنوات كثيرة، تتفاوت بمستوياتها، بعضها صغير هدفه تجاري فقط، يبث أفلاماً وبرامج ومسلسلات قديمة وغير مكلفة، أو أحياناً مقرصنة، ويبيع مساحات للدعاية بأسعار رخيصة مقارنة بالفضائيات الشهيرة. يقول إمام (رفض ذكر اسمه الكامل) وهو المسؤول عن الدعاية والإعلان على قناة طلقة، إحدى الفضائيات الصغيرة، أن تكلفة إعلان المقابر المكون من "35 كلمة" على الشريط أسفل الشاشة على مدار 24 يوماً في الشهر، ثلاثة آلاف جنيه فقط (170 دولاراً). وتصل تكلفة تصوير الإعلان الذي يعرض المنشآت ومميزاتها إلى أربعة آلاف جنيه، بينما تصل تكلفة إذاعتها لمدة 60 دقيقة على القناة، إلى ثلاثة آلاف جنيه، ويمكن إذاعتها على أكثر من يوم، بحسب إمام.احترسوا من الخداع…
يرى توفيق أن شركات كثيرة تُعلن عن بيع مقابر فاخرة التشطيبات، تضم دورات مياه واستراحات، هي شركات هدفها الربح السريع وتضليل المشاهدين عبر إعلاناتها. يؤكد أنه لا توجد تصاريح تصدر من الحكومة بإنشاء دورات مياه في حرم المقابر، كما ينصح مشاهدي تلك الإعلانات بالتأكد من شرعية هذه الشركات وقانونيتها، وحصولها على التصريحات اللازمة.ابتسم للكاميرا فأنت أمام مثواك الأخير...
حفرة في الأرض ورجل يتحرك فيها في وضح النهار، يلتف وهو يشرح للكاميرا مميزات المدفن وكيفية الدفن بطريقة صحيحة. إنه فيديو للدعاية على أحد صفحات فيسبوك ويوتيوب. وفي مقاطع أخرى تظهر نساء منقبات يحملن مصاحف في أيديهن، يتحدثن عمّا شاهدنه في زيارتهن المقابر الجديدة، وكيف تظهر بشكل مميز. اليوتيوب، بحسب إمام وتوفيق، هو أبرز منصات إعلان القبور بعد فيسبوك. تجده يعج بفيديوات تتحدث عن أحدث صيحات وأفكار بناء المدافن، معظمها يخص شركات مصرية. بعض الفيديوات يستخدم تقنية الرسوم المتحركة "الغرافيكس" لشرح مميزات القبر وإظهارها وكيفية الدفن، مع التشديد دائماً على شرعية البناء "وفقاً للقواعد الإسلامية". فإعلانات كثيرة تهتم أكثر بالمقابر الإسلامية نظراً إلى ارتفاع نسبة المسلمين في مصر، حيث يشكل المسيحيين في مصر حوالى 10% من السكان، وهي نسبة تقريبية لعدم وجود إحصاءات دقيقة، وقد وصل تعداد السكان في مصر في آخر إحصاء إلى 100 مليون في "الداخل والخارج"، بحسب ما نقله موقع اليوم السابع عن مستشار الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. مؤخراً، بدأ توفيق أسلوب دعاية جديد. يلتقط صورة للزبون يوم استلامه "مثواه الأخير المستقبلي"، والذي يحمل اسمه، كأنه يقف أمام منزل جديد اشتراه، وينشرها على فيسبوك. يعتبر توفيق أن موافقة الناس على التقاط صورهم "يعبر عن قوة إيمانهم وشجاعتهم"، أما الرافضون الصورَ فهم في الغالب، بحسب توفيق، مشاهير من الفنانين أو السياسيين. [caption id="attachment_116042" align="alignnone" width="700"] الصور من صفحة "مدافن ومقابر إسلامية مرخصة - القاهرة الكبرى" على فيسبوك[/caption]رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...