"ما إن بلغه النبأ حتى خرج هائجاً إلى أزقة فاس. لم تثره كما مضى، وهو يمخر دروب المدينة المترعة بالقهر والسخط، شبابيك الأرابيسك المهملة (...) ولا تلك الأثواب السوداء التي تتدلى كحمائم مذبوحة لتنبئ العابرين والطامعين أن الموت الأسود حوّل بشراً، كانوا هنا، إلى ماضٍ، حتى تعابير الوجوه المستفزة، والتي أتلفها القحط ولفحتها ريح الشركي، طمرها فيض الإحساس بالقهر والخيانة".
بهذه اللغة الشعرية يبدأ الكاتب المغربي "محسن الوكيلي" روايته الأخيرة "ريح الشركي"، وبهذا النبأ الذي يصل إلى مسامع "أحمد بلانكو" يبدأ السرد الذي يتخذ من مدينة فاس مكاناً وأواسط القرن السابع عشر زماناً، ليحكي عن المغرب في أواخر حكم السعديين والأوضاع العامة آنذاك. أما النبأ الذي وصل إلى "أحمد بلانكو" فهو قرار أخيه "مندوسا" بأن يُخصى ويصبح من غلمان الخليفة، ما دفعه إلى ثورة عارمة من الغضب فجّر فيها كل القهر الذي يسكنه، وعبّر فيها عن الظلم الذي يعاني منه الشعب تحت حكم الخليفة الجائر. أمام هذه الثورة تدافع الجند والعساكر ليعاقبوا العاصي فأمسكوه واقتادوه إلى ربض الطاعون، المكان الذي يرمى فيه المصابون بالمرض منتظرين موتهم، ويرمى فيه أيضاً إلى جوارهم كل آثم تجرأ على التمرد. افتراق مصير الأخوين باختلاف الأفعال التي أتوها هو ما سيشكّل حبكة الرواية الأولى التي ستلتئم في ما بعد مع حبكة أخرى مؤسستين في النهاية لسردية الرواية الكبرى، وبين هاتين الحبكتين وفيهما تنمو شخصيات ثانوية بحكايات فرعية. تجتمع كل هذه الشخصيات في وصف الجو العام الذي تعيشه مدينة فاس أواخر حكم السعديين، حيث الولاء للخليفة مقترن بالولاء لله، ورجاله يفتكون بالشعب، ويعيثون فساداً في البلاد دون قدرة من أحد على ردعهم، لا بل نرى أن "المخزن" وهو المصطلح المستخدم في المغرب للدلالة على السلطة، صار أهم من الأخ لأخيه، في تماهٍ للمظلوم مع الظالم."قرع رئيس الخدم الباب: مندوسا، حبس المخازنية أخاك، أنأمرهم بإخلاء سبيله؟ (...) ارموا الخرا في أي جائحة. من اليوم المخزن هو أخي، هو أمي، لا ولاء لي لغير الخليفة والسلطان".
تبدأ المعركة بين طاغية سيموت ليخلفه طاغية آخر، فيما الناس يعرفون أن الحكم عقيم وأن حلمهم بالعدل لن يتحقق
"من اليوم المخزن هو أخي، هو أمي، لا ولاء لي لغير الخليفة والسلطان" عمى السلطة في رواية "ريح الشركي"في غمرة كل هذا الضرر والأذى الذي يعاني منه الشعب، يشعر "حسن المقري" أن دوره قد حان، وأن كل الهدايا والعطايا التي قدمها للمخزن لن تفيده ولن تبعدهم عنه "ما كان لهم أن يزهدوا في الكل مقابل البعض"، هكذا يغادر مدينة فاس متوجهاً إلى مراكش، ليخبر السلطان بأفعال ابنه الخليفة، وكيف أنه عاث فساداً بالسلطة التي منحها له، علّه يرفع أذاه ويخلص الناس من شروره. لكنه ما إن يصل إلى هناك حتى يبلغه نبأ أن السلطان قد وصلته أخبار ابنه وأنه توجّه فعلاً مع جيشه لمواجهته وردّ ظلمه. يحاصر السلطان المدينة، فتسارع القبائل المتحالفة مع الابن لفكّ ارتباطها معه والإعلان أن طاعتهم له كانت تعبيراً عن طاعتهم للسلطان. يخون "مندوسا بلانكو" سيده الخليفة، بعد أن صار قائد جيشه، إذ نجده قد تخلى عنه وجلس مع الجند في منطقة بعيدة منتظراً نتيجة المعركة بين الأب وابنه، طامعاً بأن ينال منهما معاً. بينما يكون أخوه "أحمد بلانكو" في ربض الطاعون يحتفل بزفافه من "زهرة"، ابنة "حسن المقري"، في إشارة واضحة إلى أن الحب دوماً يعيش رغم الخراب المحيق به، وأن هذا الحب هو من سيعيد رسم خرائط جديدة للحياة التي تحاول الحروب النيل منها وطمسها. هذه واحدة من مقولات الرواية، التي ندركها ونفهمها خلال السرد وتتالي الأحداث، غير أن المقولة الأشد تأثيراً والأكثر وقعاً فهي تلك التي نصل إليها وتصل إلينا بعد أن تبدأ المعركة بين طاغيةٍ سيموت ليخلفه طاغيةٌ آخر، فيما الناس يعرفون من تجاربهم السابقة أن الحكم عقيم، وأن حلمهم بالعدل لن يتحقق، وأنهم مشاركون في لعبة الموت هذه دون أي مصلحة، ودون أي أمل... أنهم مجرد بيادق في الحروب التي تقتات من دمائهم.
"أنا كنت هناك، خلف الأسوار، وفي الخنادق، أرى المدينة الغارقة في الصمت والظلام، وقد قطعت الخلوات آتياً من بعيد، لأطلق النار، في معركة لا تعنيني، على خصم لم يؤذني (...) نعم، وكنت الطفلة التي تبكي في حضن امرأة تخشى على زوج أجبر على خوض لعبة موت. أنا الرجل والابنة، المرأة الشابة والعجوز، أنا الجاني، أنا الضحية. أصنع الرصاص والقضايا الخاسرة، ثم أطلق الرصاص في لعبة تنفلت خيوطها دوماً من بين أصابعي، ليسيل المزيد من دمي".
محسن الوكيلي، كاتب مغربي من مواليد 1978. له مسرحية وعدة مجموعات قصصية حاز عنها عدة جوائز: "حي العابرين"، "تيه"، و"فجر الغضب". وله أيضاً ثلاث روايات: "رياح آب" التي فاز عنها بجائزة الشارقة للإبداع العربي 2013، "الشغوفون" التي فاز عنها بجائزة دبي الثقافية 2013، و"رياح الشركي" التي صدرت بمنحة من برنامج "آفاق لكتابة الرواية" تحت إشراف الروائي "جبور الدويهي". الناشر: دار الساقي/ بيروت عدد الصفحات: 224 الطبعة الأولى: 2017رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...