وضحكتُ لأنه جاء من بعيد ليأخذ بوسته. وضحكتُ لأنها أعطته بوسته. وضحكتُ لأنني فرحت". بهذه العبارات، على لسان طفلة في الثامنة، ينهي طائر "يوسف فاضل" الأزرق رحلته، فيحطّ في بار "اللقلاق"، بعد أن اكتفى من التحليق وأتى ليرد دينه القديم: "قبلة" استلفها قبل ستة وعشرين عاماً.
البار الذي انتهت فيه الرواية، هو نفسه الذي شهد بدايتها حين أتى رجلٌ غريب وسلّم "زينة" رسالة، فتحتها ففوجئت بخط "عزيز" زوجها المختفي منذ ثمانية عشر عاماً. أوضح لها الرجل ما عليها فعله: "في رأس الجبل المطل على القرية التي تستقبل حفل الزواج الصاخب، هناك قصبة تذهب إليها الأرامل والمتزوجات اللواتي فقدن أزواجهن في الانقلابات". تنهض زينة فوراً، منطلقة إلى المكان المحدد، يحدوها الأمل في أن تجد من ظلت تبحث عنه كل تلك السنوات الطويلة.
تستمر رحلة زينة أربعاً وعشرين ساعة فقط، من الثامنة مساء الإثنين 21 مايو 1990 إلى الثامنة من مساء اليوم التالي، وهي المدة التي تعيد إلى ذاكرة الأبطال أحداث أكثر من ثلاثين سنة خلت، تلك الأحداث تُحكى بتناوب الرواة، إذ كل شخصية تحكي روايتها لتضيء جانباً من المشهد العام، وببطء شديد حافل بالتفاصيل الغنية والمدهشة، تتكشف لنا الوقائع الماضية.
زينة وأختها ختمية تسردان كيف هجرا بيت العائلة بعد وفاة الأم، عملا في بار، ثم ورثتاه عن "مدام جانو". بينما عزيز القابع في سجنه المظلم إثر انضمامه لمعارضي النظام السياسي في المغرب، واشتراكه في عملية قصف القصر الملكي، يروي طفولته المعذبة، وكيف دخل مدرسة الطيران، ليصبح طياراً يهوى التحليق، يحلق ويطير دون أن يرغب بالهبوط، "بالنهار أطير وبالليل أحلم أنني الطيار والطائرة (...) أسعد أوقاتي عندما أجدني محلقاً في السماء"، "أصحابي يسخرون مني في القاعدة الجوية: كيفاش كتدير أعزيز؟ تحسن الصعود ولا تحسن الهبوط؟".
ترد أيضاً فصول على لسان "بابا علي" و"بنغازي" الحارسين اللذين يحرسان المعتقلين في "القصبة"، ومن خلالهما يسلط الكاتب الضوء على كيفية تعاطي النظام الاستبدادي مع معارضيه وسجنائه السياسيين ومدى العذاب والتنكيل الذي يمارسه عليهم.
يتعدد الرواة ويتناوبون. لا يكتفي "يوسف فاضل" بالآدميين في روايته، فهو يجعل من الحيوان شريكاً أيضاً! تسرد الكلبة "هندة" روايتها هي الأخرى: كيف وصلت إلى القصبة، ماذا شاهدت، وماذا فعلت، وكيف تألمت لمصير السجناء الذين ماتوا ودفنوا في تراب القصبة، دون أن يعرف أحد بهم، وأيضاً كيف شاهدت البعض يدفن وهو حيّ. "لا أرغب في الموت هنا ودفني مع الآخرين في حفرة موبوءة ورشّي بالجير كالمئات من الجثث التي رأيت. رغم سني المتقدمة ما زلت طامعة في حياة أكثر بهجة، وفي أولاد، ولم لا إذا وجدت كلباً متفهماً؟". ربما أراد الكاتب من إشراك الكلبة في السرد الإيحاء أن الحيوان يمكن أن يكون رحيماً أكثر من الإنسان نفسه في بعض الأحيان.
تمضي الرواية بإيقاعها البطيء ولغة صاحبها الجذابة، متنقلة بسلاسة بين أزمان مختلفة، وأمكنة مختلفة. يزيّن الكاتب بعض المقاطع السردية بالحوارات التي يوردها باللهجة المغربية، التي قد تكون صعبة الفهم على القراء خارج المغرب، لكنه يعرف كيف يجعلهم يحبونها ويتذوقون جمالياتها، حتى وإن لم تكن كل مفرداتها مفهومة.
لا يستسلم الكاتب للسوداوية التي تنضح من النص، فرغم المكان الضيق الذي يقبع فيه عزيز، يجد ما يبعث السرور إلى قلبه. يتسلل طائر إلى الزنزانة ويبني عشه فيها "هذا الطائر ملأ المكان بتساؤلات لم تكن، وبجو جديد. ملأ المكان بحياة كاملة لم تكن، في وقت يكون فيه المرء بحاجة إلى قشة يتشبث بها".
فاضل يوسف روائي ومسرحي وسيناريست مغربيّ، من مواليد الدار البيضاء 1949. قضى فترة في أحد معتقلات سنوات الرصاص (1974-1975)، نشر العديد من المسرحيات والروايات. تحوّلت مسرحيته الأولى "حلاق درب الفقراء" إلى شريط سينمائي 1982. من مسرحياته الأخرى: "سفر السي محمد"، "جرب حظك مع سمك القرش"، "أيام العز"، "خبز وحجر"، و"الباب مسدود".
كتب العشرات من سيناريوهات الأفلام التلفزيونية والسينمائية، وحصل على جوائز عن بعضها، مثل: جائزة أفضل سيناريو عن فيلم "باي باي السويرتي" سنة 1998 في المهرجان الوطني للفيلم في الدار البيضاء، وجائزة أفضل سيناريو عن فيلم "في انتظار بازوليني" في مهرجان السينما الأفريقية سنة 2008.
له تسع روايات مطبوعة هي: "الخنازير"، "أغمات"، "سلستينا"، "ملك اليهود"، "حشيش" التي فازت بجائزة الأطلس الكبير في المغرب عام 2001، "ميترو محال"، "قصة حديقة الحيوان"، ثم بدأ مشروع ثلاثية روائية عن ما يعرف بسنوات الرصاص في المغرب، صدر منها الجزء الأول بعنوان: "قط أبيض جميل يسير معي"، والجزء الثاني هو "طائر أزرق نادر يحلق معي"، التي فازت بجائزة المغرب للكتاب، فرع السرد والمحكيات، عام 2014، كما رشحت ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2014.
يا ترى من هو الحيوان الذي سيرافق "فاضل" في رحلته القادمة؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع