في الخامس والعشرين من أكتوبر 2017، بدأت قناة TRT التركية في عرض حلقات الجزء الرابع من المسلسل التاريخي قيامة أرطغل، وفي أكتوبر 2018 ستبدأ في عرض حلقات الجزء الخامس منه.
المسلسل لاقى نجاحاً كبيراً داخل تركيا وخارجها، ما حدا ببعض القنوات الفضائية العربية لدبلجته أو ترجمته، وإذاعته على شاشاتها، بحيث تابعه الكثير من المشاهدين العرب بشغف وترقب.
ورغم أنه، ومما يُحسب لهذا المسلسل، تناوله لفترة مجهولة ومنسية عند أغلب المشاهدين، وهي تلك الفترة التي توسطت انتصاري المسلمين في معركتي حطين 583هـ/ 1187م وعين جالوت 658هـ/ 1260م، فإن السياق الدرامي للمسلسل مع ذلك قد وقع في شباك عدد من الأخطاء التاريخية المتعمدة.
تبحث المقالة في خلفية هذه الأخطاء، وعلاقتها بالسياسات التركية الحالية.
وهكذا حاول المسلسل، تحييد دور جميع العرقيات المسلمة التي تواجدت في المنطقة في تلك الفترة التاريخية العصيبة، وتم التركيز على العنصر التركي، وقبيلة قايي تحديداً، بهدف إظهارها على كونها المدافعة الحقيقية عن الإسلام القويم، وأنها هي التي حملت راية الجهاد ضد الصليبيين، وذلك رغم أن أغلبية المصادر التاريخية تكاد تجتمع على أن تلك القبيلة لم تدخل في الدين الإسلامي إلا بعد وصولها لأسيا الصغرى، وأنها كانت في موطنها الأصلي في أسيا الوسطى، تعتنق مجموعة من العقائد والأديان الوثنية المنتشرة ما بين الشعوب التركية في ذلك الوقت.
هل حقاً كان فرسان الهيكل بهذا الضعف؟
اعتاد صناع المسلسل في معظم الحلقات، على إظهار التفوق المستمر من جانب الأتراك، على أعدائهم من الفرسان الصليبيين، وعلى الأخص فرسان الهيكل، ففي كل حلقة يقوم أرطغل ومعه أصدقاؤه الثلاثة بالانتصار على مجموعات متتالية من الفرسان الصليبيين، الذين يفوقونهم عدداً وعدة. هذا الخط الدرامي، المتكرر في المسلسل، يطرح سؤالاً تاريخياً هاماً، وهو هل حقاً كان فرسان الهيكل بهذا الضعف أمام أقرانهم من الأتراك؟ في الحقيقة، فإن المصادر التاريخية الإسلامية والصليبية، تكاد تجمع على التأكيد على قوة وحنكة فرسان الهيكل، فقد لعب هؤلاء الفرسان دوراً رئيساً في الانتصارات التي حققها الصليبيون في الحملات الصليبية الأولى، وكانوا يشكلون رأس حربة الجيوش الأوروبية في ذلك الوقت، إلى الدرجة التي جعلت الجميع ينظر إليهم على كونهم يمثلون القوة الفدائية والانتحارية القادرة على إلحاق أكبر الهزائم والخسائر بالأعداء. ومن بين الأمور التي صعبت من قتالهم، أن عقائدهم الدينية كانت تحرم عليهم الانسحاب أو التراجع، وبالتالي لم يُعرف عنهم الاستسلام في الحروب مهما كانت الظروف المحيطة بهم. في كتابه المهم (فرسان الهيكل)، وصف المؤرخ البريطاني ستيفن هوارث، قوة وشجاعة فرسان الهيكل، واستعدادهم الدائم لقتال من اعتبروهم أعداء للمسيح، بقوله "كان فرسان الهيكل مستعدين ومسلحين في أي وقت من النهار أو الليل قد يُطلبون فيه، سواء للقتال أو لمصاحبة المسافرين، وحين يطاردون العدو، لا يسألون كم عددهم، ولكن فقط يسألون أين هم". التأكيد على شجاعة هؤلاء الفرسان، لم يقتصر على المؤرخين الغربيين، بل إن أحد الأمراء المسلمين الذين شاركوا مراراً في قتال الصليبيين، قد اعترف أكثر من مرة بقوة وبسالة أعدائه، ففي كتابه الاعتبار، اعترف الأمير المسلم أسامة بن منقذ (ت. 584هـ)، بتفوق الفرسان الصليبيين عليه في بعض المرات، وكيف أن شجاعتهم ومهاراتهم القتالية كانت مضرباً للأمثال وسط الجنود المسلمين.كيف يقدم مسلسل سرد البدايات التاريخية لظهور الدولة العثمانية شرعنة لسرديات تركيا الرسمية اليوم
فترة الحروب الصليبية التي شارك فيها الأتراك والعرب والأكراد والفرس، تقدم في قيامة أرطغل على أنها شأن تركي
"قيامة أرطغل" محاولة لإضفاء الشرعية الدينية والروحية على أرطغل، ومنه على بداية العثمانيين
النزعة العرقية: التركيز على الأتراك، تجاهل المغول وتهميش الأكراد والعرب
من الأمور التي ينبغي الالتفات إليها في المسلسل، تركيز صانعيه على تمجيد العرق التركي، ومحاولة تهميش بقية الأعراق التي كانت متواجدة على مسرح الأحداث حينذاك. المسلسل الذي استهدف في المقام الأول، سرد البدايات والإرهاصات التاريخية لظهور وتأسيس الدولة العثمانية، ابتدأ قصته بالتعرض لقبيلة قايي التركية، وهي القبيلة التي تزعمها أرطغل بن سليمان شاه، وانحدر من نسله بعد ذلك باقي سلاطين الدولة العثمانية. بحسب المصادر التاريخية، فإن قبيلة قايي كانت واحدة من ضمن أربع وعشرين قبيلة تركية أخرى، شكلت فيما بينهما ما عُرف تاريخياً باسم شعب الأوغوز، وهو بدوره شعب تركي العرق. المسلسل حاول بقدر الإمكان، التأكيد على الدور الذي لعبته الشعوب التركية في المنطقة، ولذلك جعل من قبيلة قايي، محور الاهتمام الأكبر في المسلسل، كما أنه وفي الوقت نفسه، قد حرص على إظهار العلاقات الممتازة التي ربطت ما بين تلك القبيلة الصغيرة من جهة والإمبراطورية السلجوقية من جهة أخرى، والسبب في ذلك أن السلاجقة، هم في حقيقة الأمر من الشعوب التركية، التي ترتبط بصلات الدم والعرق بقبيلة أرطغل. من هنا، نستطيع أن نفهم السبب الذي جعل صانعي المسلسل، يتجهون لتزويج أرطغل، من حليمة خاتون، والتي أظهرها المسلسل في صورة أميرة سلجوقية عالية المقام، ترتبط بقرابة مباشرة بالسلطان علاء الدين كيقباد، وهو الأمر الذي لم تذكره المصادر التاريخية من قريب أو بعيد. تلك القرابة المزعومة التي اختلقها مؤلفو المسلسل، سوف تكون –فيما بعد-أحد مصادر التأكيد على شرعية الدولة العثمانية، لأن عثمان الذي كان ابن كلّ من أرطغل وحليمة، سوف يُصور على كونه الوريث الشرعي للدولة السلجوقية المتداعية، وفي نفس الوقت على كونه القائد الذي اختلطت في عروقه دماء النبل السلجوقي الملكي مع دماء الفتوة التركية القبلية. في السياق نفسه، فإن المسلسل قد حاول بشتى الطرق، اجتناب الحديث عن المغول، وذلك رغم أن السبب الرئيس في تهجير قبيلة قايي، ومغادرتها لوطنها الرئيس في أسيا الوسطى، وتوجهها للبحث عن وطن جديد في أسيا الصغرى، كان بسبب الغزوات المغولية الكبرى التي وقعت في أوقات مختلفة ما بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر الميلاديين. السبب في تجاهل الدور المغولي في أحداث المسلسل، يكمن في العلاقات التاريخية والعرقية الوطيدة التي تجمع ما بين الأتراك والمغول، حيث تذهب الأدبيات التاريخية، إلى اعتبار أن الفريقين ينحدران في الأساس من عرق واحد، حتى قيل إن الترك لم يسموا بذلك الاسم، إلا لكونهم قد تركوا قبائل يأجوج ومأجوج المغولية وحدها وذهبوا للصيد، في الوقت الذي قام فيه ذو القرنين ببناء سور حولهم، وذلك بحسب ما يذكر ابن إياس الحنفي في كتابه بدائع الزهور في وقائع الدهور. من النقاط التي ينبغي الإشارة إليها أيضاً، أن المسلسل قد اختار –عن عمد-أن يتجاهل دور ورثة صلاح الدين الأيوبي في بلاد الشام، فلم يتطرق إلى دورهم في الأحداث، واكتفى المسلسل بالحديث عن دور حلب وحدها، لأن حاكمها في تلك الفترة التاريخية كان من التركمان. تجاهل المسلسل للأيوبيين الذين ينحدرون من أصول عرقية كردية، يمكن تفسيره بالعداء القائم حالياً ما بين السلطة التركية من جهة والأحزاب والجماعات السياسية الكردية من جهة أخرى، وهو العداء الذي استتبعه محاولة لتقزيم دور الأيوبيين التاريخي في الحروب الصليبية، وتوجيه دفة السردية الدرامية لتتركز على الأتراك وحدهم. وكما حاول المسلسل تهميش الأكراد، فإن صانعيه قد عملوا أيضاً على تهميش العنصر العربي بشكل شبه كامل، فلم يُظهروا المكون السكاني العربي في المدن التي ظهرت في المسلسل، وابتعدوا عن تبيان أي دور للعرب في الصراع السياسي الذي دار في المنطقة. "قيامة أرطغل" يحيّد دور جميع العرقيات المسلمة، ليقدم العنصر التركي في دور المدافع الحقيقي عن الإسلام ضد الصليبيين
وهكذا حاول المسلسل، تحييد دور جميع العرقيات المسلمة التي تواجدت في المنطقة في تلك الفترة التاريخية العصيبة، وتم التركيز على العنصر التركي، وقبيلة قايي تحديداً، بهدف إظهارها على كونها المدافعة الحقيقية عن الإسلام القويم، وأنها هي التي حملت راية الجهاد ضد الصليبيين، وذلك رغم أن أغلبية المصادر التاريخية تكاد تجتمع على أن تلك القبيلة لم تدخل في الدين الإسلامي إلا بعد وصولها لأسيا الصغرى، وأنها كانت في موطنها الأصلي في أسيا الوسطى، تعتنق مجموعة من العقائد والأديان الوثنية المنتشرة ما بين الشعوب التركية في ذلك الوقت.
هل وقع اللقاء ما بين أرطغل وابن عربي؟
واحدة من أهم وأكبر المغالطات التاريخية التي ظهرت في مسلسل قيامة أرطغل، كانت قصة لقاء القائد التركي بشيخ الصوفية الأكبر محي الدين بن عربي. المسلسل أكد على وقوع اللقاء ما بين الرجلين في بلاد الشام، وذلك أثناء ترحال أرطغل للبحث عن موطن جديد لقبيلته، ولم يتم الاكتفاء بذلك، بل ظهر ابن عربي وكأنه المرشد الروحي لأرطغل، بحيث رجع إليه الأخير قبل كل تصرف مهم، واستشاره كذلك في العديد من المواقف والصراعات، كما أن الشيخ الصوفي قد ظهر دائماً في صف الأتراك ضد أعدائهم. تؤكد المصادر التاريخية الكثيرة التي ترجمت للشيخ الأكبر، على أن ابن عربي قد ترك الأندلس في نهاية القرن السادس الهجري، راحلاً إلى المشرق، ابتغاء للحج وزيارة البقاع المقدسة، وأنه استمر في رحلته تلك لمدة تزيد عن العشرين عاماً، زار فيها بلاد الشام والحجاز ومصر وبلاد المغرب وأجزاء من الأناضول. في عام 606هـ/ 1210م تحديداً، تحدثنا المصادر التاريخية، بأن ابن عربي قد توغل في منطقة الأناضول، وذهب إلى مدينة قونية، حيث التقى فيها بالصوفي الشهير جلال الدين الرومي، وعاش هناك في ضيافة السلاجقة الذين رحبوا به وأكرموا وفادته، ثم ما لبث أن قفل راجعاً إل بلاد الشام مرة أخرى، بعد أن مر بأرمينيا وبغداد وبلاد الحجاز، ثم زار حلب لبعض الوقت، قبل أن يستقر في مدينة دمشق حيث قضى بها ما يقرب سبعة عشر عاماً، وتوفى بها في عام 637هـ/ 1240م. السؤال هنا، ما هو المكان الذي يمكن أن يتصادف فيه وقوع اللقاء ما بين الرجلين، خصوصاً أن المصادر التاريخية التي تناولت سيرة كل منهما، لم تذكر قصة ذلك اللقاء على الإطلاق. المسلسل أظهر أن اللقاء وقع في حلب، في بداية رحلة أرطغل للبحث عن مأوى، وهو ما تذكر المصادر التركية حدوثه، في الأعوام الأولى من ثلاثينيات القرن الثالث عشر الميلادي، ولكن إذ ما رجعنا لسيرة ابن عربي لتأكدنا أنه في تلك الفترة تحديداً، قد كان مستقراً في دمشق وليس حلب، وأنه لم يخرج منها بعد أن دخلها للمرة الأخيرة، فإذا ما أضفنا لذلك أن أرطغل لم يصل إلى دمشق نفسها، فيتأكد لنا استحالة حدوث مثل هذا اللقاء ما بين القائد التركي والشيخ الأندلسي. وقد يثار سؤال هنا، عن السبب الذي حدا بصانعي المسلسل لاختلاق قصة ذلك اللقاء، وحشرها حشراً داخل السياق الدرامي للمسلسل، طالما أنه لا يوجد تأكيد على وقوعها؟ الإجابة على ذلك السؤال، تستلزم مراجعة الأنماط الدينية المنتشرة في تركيا، فالباحث في تاريخ الأتراك، سيجد أنهم قد تأثروا كثيراً بالأفكار الصوفية التي طرأت عليهم من الشرق والغرب الإسلاميين، ومن ثم فقد كانت محاولة صانعي المسلسل لربط خُطى أرطغل الأولى بتوجيهات ابن عربي، هي في حقيقة الأمر محاولة لإضفاء الشرعية الدينية والروحية على تاريخ أرطغل، وتاريخ خلفائه من السلاطين العثمانيين، وهو ما يصب في النهاية لتمجيد الخلافة العثمانية ورفع مقامها.ما علاقة قصر أردوغان؟
قد يقودنا البحث في هذه التساؤلات إلى قصر أردوغان، وبشكل أدق، إلى توافق السرديات الذي يكرسها المسلسل مع سعي الرئيس التركي لتقديم تركيا على أنها زعيمة العالم الإسلامي اليوم، مما يقدم أردوغان نفسه في هيئة المعادل الموضوعي للخليفة العثماني. ومع أن الدراما هي تفسير فنيّ للتاريخ، ولها هامش الحرية في التركيز على تفاصيل وشخصيات دون أخرى، إلا أن المغالطات الصارخة لا تترك مجالاً لتجاهل الطابع السياسي الأعمق من وراء هذه الخيارات. &app=desktop فلا يخفى أن إنتاج المسلسل، وتوقيت إذاعته، يتفقان بكل تأكيد مع النزعة التاريخية العثمانية التي يحاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الإشارة إليها في كل وقت ومناسبة. تلك النزعة التي ظهرت في العملية العسكرية التي قامت بها فرقة تركية في شباط/فبراير عام 2015، لنقل رفات سليمان شاه والد أرطغل من سوريا للحدود التركية. كما تبدت في إشادة الرئيس التركي بأمجاد أسلافه القدامى من سلاطين بني عثمان في كل مناسبة ممكنة، إلى الحد الذي جعل اللباس العثماني يعتمد كزي رسمي للجنود الأتراك خلال استقبالهم الوفود الدبلوماسية الأجنبية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومينحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com