يحمل التاريخ مفارقة هامة في تاريخ الدولة العثمانية، ألا وهي الصفحة المجهولة التي نادراً ما تتطرق إليها الأقلام: علاقتهم مع المماليك، خصوصاً أنّ المواجهة مع أوروبا فرضت على الدولتين التحالف والتضامن أكثر من مرة قبل موقعة مرج دابق التي كانت بداية النهاية لدولة المماليك. بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر، كان المماليك يحكمون مصر وسوريا ولبنان وفلسطين والأردن والحجاز واليمن وليبيا وقبرص وأرمينيا وجنوب تركيا اليوم، وإن كانت الدولة في المراسلات الرسمية تعرف اختصاراً بـ"مصر" على أساس ان القاهرة كانت العاصمة. نتيجة لتجاهل هذه الفترة التاريخية الهامة، يظن أبناء جيلنا اليوم أنّ المواجهة بين المماليك والعثمانيين كانت عسكرية فحسب، وأنها جرت عام 1517م فحسب.
بعد دمشق وبغداد، القاهرة عاصمة العالم الإسلامي
وعلى عكس مناهجنا الدراسية والأعمال الفنية والروائية التي تلخص تاريخ المماليك في بيبرس وقطز وموقعة عين جالوت يوم هزموا التتار، ثم يتم وصف عصر مماليك مصر وسوريا باعتباره عصر انكسار الحضارة الإسلامية، كان المماليك رعاة للثقافة والفنون، وكانوا درعاً حامياً للدول الإسلامية حتى آخر أيامهم، وتعددت انجازاتهم العسكرية وانتصاراتهم، وقاوموا التتار، واستردوا مدناً من الصليبيين، وقاتلوا الغزاة البرتغاليين في مياه البحر الأحمر. تحولت مصر تحت حكم المماليك إلى درع يحمي العالم الإسلامي، فلا عجب أن انتقل الثقل الإسلامي من دمشق الأموية وبغداد العباسية إلى القاهرة فأصبحت عاصمة الدولة الإسلامية الفعلية طيلة قرنين ونصف، ما بين انهيار الخلافة العباسية عام 1258م والغزو العثماني لمصر عام 1517م. يشير المؤرخ شفيق مهدي في موسوعة مماليك مصر والشام، أنّ تآكل سلطة سلاجقة الأناضول ساهم في صعود قوى صغيرة في الأناضول، مثل الأسرة العثمانية بالإضافة إلى بعض الإمارات التركمانية جنوب الأناضول على حدود سوريا الشمالية. ضمن المماليك حماية بلادهم من خطر المغول ثم الصليبين، وبعدها بدأوا في رسم الحدود شمالاً مع الأناضول، وفي عام 1375م، تحالف السلطان الأشرف شعبان بن حسن مع أسرة تركمانية بقيادة الشيخ رمضان خان، وقام بإسقاط مملكة أرمينيا الصغرى وأعلن قيام إمارة بنو رمضان.وخلال تلك المرحلة بنى عثمان الأول نواة الدولة العثمانية على ضوء اضمحلال السلاجقة، وكانت البداية في شرق الأناضول، ثم انطلق أبنائه وأحفاده فى حملات عسكرية في قلب الأناضول حتى أصبحت الدولة العثمانية متاخمة لحدود الإمبراطورية البيزنطية وبدأت المواجهة العسكرية بين الطرفين. وفى عام 1453م، صعدت الدولة العثمانية إلى مصاف الدول الكبرى في المنطقة، حينما أسقط السلطان محمد الثاني الإمبراطورية الرومية البيزنطية الأرثوذكسية في موقعة حصار القسطنطينية، حيث أصبح الأناضول في يد العثمانيين، وفتح الباب أمام العثمانيين لبدء الحملات العسكرية على البلقان، كما أن تشكل دولة إسلامية كبرى شمال ووسط الأناضول أقلق الفرس بسبب الحدود المشتركة، وأصبح واضحاً في منتصف القرن الخامس عشر أن العالم الإسلامي سوف يشهد صراع ثلاثي لزعامته ما بين المماليك والعثمانيين والفرس. ولكن الصراع لم يبدأ في الحال، بل احتفلت القاهرة بسقوط القسطنطينية، وطرب السلطان الظاهر سيف الدين جمقمق بالانتصار العثماني، وتزوج من إحدى بنات آل عثمان، فكانت المصاهرة الوحيدة بين العثمانيين ومماليك مصر.
التنافس التجاري بين المماليك والعثمانيين
سيطرة العثمانيين على الأناضول خلقت تنافساً تجارياً بين العثمانيين والمماليك، حيث كانت التجارة تمر من الشرق إلى الغرب والعكس عبر طريقين، الطريق الأول خط تجاري من الهند والصين مروراً بشبه الجزيرة العربية الخاضعة لنفوذ وحماية مصر، وصولاً إلى الشام ومصر ومن ثم إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، في حين تدير الدولة العثمانية الخط التجاري الثاني من الهند والصين مروراً بآسيا الوسطى ثم الأناضول ثم أوروبا. بنجاح الخط التجاري المصري واستمراريته، لم ينل الخط العثماني فرصته كاملة، أي أنّ الغزو العثماني لمصر، وإن كان ذا صبغة سياسية وعسكرية، اعتمد على العامل التجاري والتنافس على نقل بضاعة المشرق إلى الغرب الأوروبي، حيث أراد العثمانيون السيطرة على هذا الطريق. وقد أدت سيطرة مصر والأناضول على حركة التجارة العالمية من الشرق للغرب إلى نهضة إقتصادية لكلا البلدين، حيث انفتح العثمانيون على جيرانهم في صربيا وجرت مصاهرة عائلية بين الأسر الملكية، كما حصر العثمانيين على مصاهرة آخر الأسر التتارية التي تحكم في روسيا بعد أن تحولت إلى الإسلام، فكانت الحركة التجارية عبر الأناضول بمثابة جواز سفر دبلوماسي للبلاط العثماني، بينما استثمرت مصر هذه الطفرة التجارية في تنمية انتاجها من المنسوجات وتقديمه للسوق العالمي.إذا كانت مصر في منتصف القرن الخامس عشر قد اطمأنت للجبهة الشرقية باضمحلال التتار، وتواصل مماليك مصر مع حكام فارس الجدد، فإن الموقف في الجبهة الشمالية استدعى تحركاً مصرياً عسكرياً من أجل السيطرة الدول التركمانية جنوب الأناضول وشمال سوريا، في ضوء بدء إغارة هذه الدول على دولة المماليك. وبالفعل في عصر السلطان المؤيد أبو النصر شيخ بن عبد الله المحمودي والسلطان الأشرف أبو النصر سيف الدين إينال العلائي الظاهري، خاض الجيش المصري جنوب الأناضول معارك حربية حاسمة حيث جرت السيطرة على هذه الدول التركمانية وردّها نهائياً عن الإغارة على الشام المصري. وصول الجيش المصري إلى قلب الأناضول، في بعض معاركه مع الدول التركمانية، دق جرس الإنذار لدى العثمانيين، التي زاد نفوذها، على حساب العثمانيين، في الدول التركمانية والتي كانت تشمل: إمارة قرمان ومملكة آق قويونلو وإمارة بنو رمضان وإمارة ذو القدر. وفي عام 1468م، تولى السلطان الملك الأشرف أبو النصر سيف الدين قايتباي، حيث شهد عصره أولى الحروب المصرية العثمانية. قايتباي الذي اشتهر الجانب العسكري من حكمه، كان من أهم رعاة الفن والثقافة، وترك بصمته على مشاريع معمارية في المدينة، ومكة، والقدس ودمشق وحلب، والإسكندرية، وفي كل حيّ من أحياء القاهرة.شهد منتصف القرن الخامس عشر تنافساً بين ثلاثة قوى في العالم الإسلامي: المماليك والعثمانيين والفرس
ازدهرت التجارة في عصرهم، حققوا نجاجات عسكرية، وكانوا رعاة أسخياء للفن والثقافة: المماليك في مصر
نجحت التحالفات بين المماليك والعثمانيين، قبل أن يتواجه الإثنان في معارك حاسمة
مع نهاية حكم المماليك، في 26 يناير 1517، انتقلت عاصمة الحكم الإسلامي لأول مرة إلى خارج العالم العربي
الحروب المصرية العثمانية في زمن المماليك
مع صيف عام 1485م، بدأ العثمانيون في الإغارة على سوريا، وأرسل السلطان قايتباي حملة عسكرية إلى الشام بقيادة سيف الدين أزبك. وتلقى العثمانيين الهزيمة العسكرية الأولى أمام المصريين في الشام في موقعة أضنة، يوم 9 فبراير/شباط، عام 1486م، ولما أرسل السلطان بايزيد الثاني تعزيزات جديدة، هزم العثمانيين مجدداً في موقعة أضنة الثانية، يوم 15 مارس/آذار، عام 1486م، لتنتهي الحرب المصرية العثمانية الأولى. وكان وقع الانتصار المصري عظمياً وتم أسر عدد من القادة العثمانيين الكبار على رأسهم أحمد بك بن الهرسك، الذي شغل عقب عودته من الأسر منصب الصدر الأعظم في الدولة العثمانية خمس مرات متفرقة. وعاد الجيش إلى القاهرة وسط تهليل الشعب المصري حيث كان الأسرى من الأمراء العثمانيين والإنكشارية مربوطين بحبال من رقابهم. لم ييأس العثمانيون، وأشعل بايزيد الحرب الثانية عام 1487م، ولكن هذه المرة إلى الإمارات التركمانية المتحالفة مع مصر من أجل تقليم أظافرها والحد من النفوذ المصري في الأناضول وتعمد الجيش العثماني تجنّب خوض أي معارك عسكرية مع الجيش المصري وانتهت الحرب دون نتيجة حاسمة. ثم أتت بداية عام 1488م، حيث وصل للقاهرة أخبار أنّ العثمانيين أرسلوا جيشاً إلى حلب بقيادة بايزيد الثاني، وجرت معركة أضنة الثالثة وكان النصر للجيش المصري في أغسطس/آب، عام 1488م، بعد أن حاصر الجيش المصري نظيره العثماني في أضنة، ثلاثة شهور قبل أن يستسلم ويتفاوض على الانسحاب ويظفر به ويتم أسر العديد منهم إلى القاهرة.وفي عام 1490م، أشعل بايزيد الحرب المصرية العثمانية الرابعة، ورغم أنّ العثمانيين هم من بدأ المعارك إلا أنّ تخوفهم من شنّ القوى الأوروبية حملة صليبية على الأناضول على ضوء انشغال الجيش بمحاربة مصر وسوريا قد أدى إلى المبادرة العثمانية بسرعة عقد معاهدة سياسية بين البلدين وبالفعل أبرمت في مايو/أيّار، عام 1491م. ولم تكن مخاوف العثمانيين من أوروبا مبالغاً بها، حيث اعتبرت أوروبا اسقاط العثمانيين للإمبراطورية البيزنطية وتقدم الجيوش العثمانية في البلقان بمثابة جرس إنذار لمحاولات العثمانيين اجتياح شرق ووسط أوروبا، وهو ما فعله العثمانيين بالفعل عقب احتلالهم لمصر. ويعود الفضل الأول لصمود مصر في تلك الجولات الأربع إلى السلطان الأشرف قايتباي، الذي بنى القلاع في الإسكندرية ودمشق والحجاز والقدس ولا تزال قلعة قايتباي من أهم معالم الإسكندرية، كما شيد المدرسة الأشرفية بالمسجد الأقصى وأعاد بناء المسجد النبوي مرتين. هكذا فشل السلطان بايزيد الثاني، خان الدولة العثمانية، في غزو سوريا أربع مرات أمام جيوش مصر وسوريا بقيادة السلطان قايتباي. كانت نتيجة التنافس كارثية بالنسبة للأندلس، التي كانت وقتذاك تخوض معاركها الأخيرة، وترسل الاستغاثة الواحدة تلو الأخرى لمصر والدولة العثمانية، دون جدوى.
التحالف المصري العثماني ضد البرتغال
بدأت البرتغال، التي نهضت على أنقاض الأندلس، بغارات بحرية على سواحل شمال إفريقيا، ولم تتنبه القاهرة للحملات الصليبية البحرية البرتغالية إلا عام 1502م، حينما بدأت البرتغال تدخل عبر مضيق باب المندب إلى البحر الأحمر، فاستولوا على الحبشة ثم هاجمت سفنهم سواحل مصر والحجاز وحاولوا كسب تعاطف باقي أوروبا معهم بإكساب حملتهم على دولة المماليك بعداً صليبياً، حيث أعلنوا أن هدفهم الرئيسي هو الأراضي المقدسة في مكة والمدينة. تصدّى السلطان قانصوه الغوري للإمبراطورية البرتغالية في سعيها للسيطرة على البحر الأحمر، لتبدأ الحرب المصرية البرتغالية (1505م – 1517م)، نجحت فيها البحرية المصرية في طرد السفن البرتغالية من البحر الأحمر والاحتفاظ به كبحيرة مصرية مغلقة، ونجح المماليك بحماية مصر والحجاز خاصة مكة والمدينة المنورة وجدة، من خطر الاستعمار البرتغالي. ولم يكن موقفهم دفاعياً فحسب، بل تقدمت سفن البحرية المصرية وهاجمت القلاع البرتغالية على سواحل اليمن وعمان وإيران وشرق أفريقيا عبر مضيق باب المندب وخليج عدن وبحر العرب وخليج عمان، وصولاً إلى المحيط الهندي أمام السواحل الهندية، ثم طورت هجومها باتجاه المستعمرات البرتغالية في الهند وهزموا البرتغاليين بالفعل في معركة شاول (معركة شاول الأولى) في مارس/آذار، عام 1508م، مصر وسلطنة كجرات المسلمة (1407 – 1573) في الهند، هزما الأسطول البرتغالي في المحيط الهندي على سواحل الهند.الانتصار المصري على البرتغال يفنّد المزاعم العثمانية التي يرددها المؤرخين دون تدقيق بأن سلطات المماليك في سنواتهم الأخيرة كانت ضعيفة، لأن أحداث التاريخ تثبت عكس ذلك، حيث كانوا حتى يومهم الأخير خطّ الدفاع الأول. ويلاحظ أنّ مستعمرة الهند البرتغالية قد تأسست عام 1505م، وفور تأسيسها اندلعت الحرب المصرية البرتغالية، ورغم الانتصار المصري التاريخي على البرتغال قبالة سواحل الهند في المحيط الهندي، إلا أن قوة البرتغال في الهند ظلت قائمة. فهم السلطان قانصوه الغوري هذه الحقيقة، فطالب بإمدادات ومساعدات بحرية وعسكرية من الدولة العثمانية وجمهورية البندقية الإيطالية وجمهورية راجوزا (جزء من كرواتيا اليوم)، وسلطنة كاليكوت الهندية، وبالإضافة إلى سلطنة كجرات المسلمة الهندية، وخاض فريق التحالف هذا معركة ديو (معركة شاول الثانية) في 3 فبراير/شباط عام 1509م، إلا أن مصر وحلفاءها هزموا في هذه المعركة التي فتحت الباب أمام الاستعمار البرتغالي للتمدد في افريقيا والهند لسنوات طويلة. خسرت مصر في هذه الحرب أسطولاها البحري كاملاً، حيث غرق في المحيط الهندي. وعلى ضوء هزيمة مصر في الهند طمع إسماعيل شاه الصفوي حاكم الدولة الفارسية وسليم الأول حاكم الدولة العثمانية في مصر، وتقابل شاه الفرس وخان العثمانيين في معركة عسكرية، وتلقى الفرس هزيمة قاسية من العثمانيين الذين سارعوا بجيوشهم إلى حلب.
وفي مدينة مرج دابق السورية في 24 أغسطس/آب، عام 1516م، تلقت دولة المماليك الهزيمة الأولى أمام العثمانيين حيث خسروا سوريا، ثم موقعة خان يونس يوم 28 أكتوبر/تشرين الثاني، 1516م في فلسطين، ودخل العثمانيون القدس في 30 ديسمبر/كانون الأول، عام 1516م. وفي 22 يناير/كانون الثاني، عام 1517م، وقعت معركة الريدانية بالقرب من منطقة العباسية اليوم وكانت هذه المنطقة خارج العاصمة المصرية القاهرة، وهزم الجيش المصري أمام الجيش العثماني قبل أن يدخل سليم الأول القاهرة في 26 يناير 1517 لتسقط دولة المماليك، وانتقلت لأول مرة عاصمة العالم الإسلامي خارج العالم العربي. هكذا طوى التاريخ صفحة هامة شهدت سلسلة من السلاطين المماليك العظماء الذين دافعوا عن المنطقة بأكملها أمام غزوات التتار والصليبين ثم البرتغاليين، ما بين القرن الثالث عشر والسادس عشر، وظلت المنطقة عصية على الاستعمار الغربي حتى مجيء القرن التاسع عشر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...