شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
التدين التركي: كيف اصطبغت تركيا بالصبغة الصوفية؟

التدين التركي: كيف اصطبغت تركيا بالصبغة الصوفية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 1 نوفمبر 201807:12 م
من المعروف أن بعض المذاهب الفكرية والروحية تلقى انتشاراً كبيراً في بلد معين دون غيره، فيقال مثلاً إن بلاد المغرب مالكية الهوى، وأن الحجاز سلفية الطابع، بينما كانت بلاد فارس دائماً موطن للمذاهب الشيعية المختلفة. الباحث في تاريخ الأتراك، سيجد أنهم قد تأثروا كثيراً بالأفكار الصوفية التي طرأت عليهم من الشرق والغرب الإسلاميين. فما هي أسباب انتشار التصوف في تركيا؟ وما هي أهم الطرق الصوفية التركية؟ وكيف لعب التصوف أدواراً مهمة في التاريخ الاجتماعي والسياسي لتركيا؟

قونية: المدينة التركية التي جمعت أقطاب التصوف الإسلامي

في وسط جنوب الأناضول، تقع مدينة قونية، التي تُعتبر أحد أهم المراكز الروحية للصوفية في تركيا. المدينة التي عرفت الإسلام على يد الفاتحين العرب في أواخر عهد الدولة الأموية، ارتبطت بشكل وثيق بثلاثة من كبار الصوفية عبر التاريخ الإسلامي، مما أسهم بشكل فعال ومؤثر في شيوع المد الروحاني الصوفي في شتى المدن التركية المجاورة فيما بعد. ففي بديات القرن السابع الهجري، شاءت الأقدار أن تحتضن تلك المدينة كلاً من محي الدين بن عربي، جلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي. Muhammad_ibn_al-`Arabi ابن عربي، المولود في مُرسية ببلاد الأندلس، والذي يلقبه أتباعه باسم الشيخ الأكبر، تجول كثيراً في بلاد المشرق الإسلامي، حتى حطت ركائبه في قونية، بعدما لمس الحفاوة البالغة التي عامله بها سلاطين السلاجقة في الأناضول، حيث سمحوا له بنشر أفكاره التي لطالما لاقت معارضة في مصر وبلاد الشام. وفي قونية، قام ابن عربي بإعادة تدوين كتابه الأشهر، الفتوحات المكية، كما قام بنشر أفكاره بين طبقة من الشباب التركي المحب للتصوف، وكان من بين هؤلاء تلميذه النجيب صدر الدين القونوي.
ما سر تماهي التصوف والسياسة في تركيا؟ وما الذي جعل تركيا صوفية الهوى؟
ماذا حلّ بالتصوف في تركيا بعد اسقاط الخلافة العثمانية على يد أتاتورك قبل قرابة قرن من الزمن؟
عن المدينة التركية التي احتضنت محي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي وشمس الدين التبريزي
وفي الوقت الذي كان فيه الصوفي الأندلسي يُعد العدة للعودة لبلاد الشام، كانت تلك المدينة الهادئة تشهد ميلاد قطب آخر من أقطاب التصوف، ألا وهو جلال الدين الرومي. جلال-الدين-الرومي جلال الدين، الذي اعتاد الصوفية على تسميته بمولانا، ولد في بلخ في مطلع القرن السابع الهجري، وتنقل مع أبيه في عدد من البلدان الإسلامية، حتى استقر به المقام في قونية. لم يبتدأ جلال الدين حياته الفكرية بالتصوف، بل كان فقيهاً حنفياً معروفاً، حتى وقع اللقاء ما بينه وبين الصوفي الشهير شمس الدين التبريزي. شمس-الدين-التبريزي تمكن التبريزي من أن يؤثر كثيراً في نفس جلال الدين، حتى حوله إلى شاعر صوفي مبدع، واستطاع الصديقان أن يؤلفا معاً كتابهما الشهير "قواعد العشق الأربعون"، والذي استلهمت منه الكاتبة التركية إليف شافاق روايتها المعنونة بنفس الاسم في عصرنا الحاضر. وفي ظروف غامضة، خرج التبريزي من قونية، أما صديقه الرومي، فقد استمر في تأليف كتابه الشهير المثنوي، والذي تحولت أشعاره وقصائده إلى أناشيد وأهازيج يتغنى بها الصوفية على مر الأزمان والعصور، وفي 672هـ، توفى جلال الدين الرومي ليصبح ضريحه مقصداً للصوفية حول العالم. [caption id="attachment_120543" align="alignnone" width="350"]حاج-بكتاش حاج بكتاش[/caption]

البكتاشية والنقشبندية: أشهر الطرق الصوفية التركية

إذا كان القرن السابع الهجري، قد شهد احتضان الأناضول لبعض من الرموز الصوفية المغربية والمشرقية؛ فإن ذلك وحده لم يكن كافياً لشيوع الصبغة الصوفية على جموع الأتراك بالشكل الذي حدث فعلاً في العصور التالية. حيث يمكن القول إن انتشار نمط التدين الصوفي وسط الأتراك، قد وقع نتيجة ظهور الطرق الصوفية المنظمة التي وجدت في بلاد الأناضول ميداناً مناسباً وأرضاً خصبة للتوسع والتمدد والانتشار. ورغم كثرة الطرق الصوفية التي ارتبطت بالأتراك، إلا أنه يمكن أن نحدد طريقتين مميزتين كان لهما السبق في ذلك، وهما الطريقة البكتاشية والطريقة النقشبندية. [caption id="attachment_120545" align="alignnone" width="700"]ضريح-الشيخ-بهاء-الدين-النقشبندي-في-بخارى-ـ-أوزبكستان ضريح الشيخ بهاء الدين النقشبندي في بخارى أوزبكستان[/caption] يعود تأسيس الطريقة البكتاشية إلى حاج بكتاش ولي، الذي ولد في خراسان في عام 646هـ. وكان بكتاش قد غادر إلى الأناضول في شبابه، حيث نصحه عدد من شيوخه بالهجرة إلى سلاطين السلاجقة الذين يرحبون بالصوفية. ورغم أن تلك الطريقة في بدايتها، كانت تنتهج الخط الشيعي؛ إلا أن زعماء الطريقة سرعان ما غيروا من ذلك النهج، فحولوها إلى الشكل السني الذي يتوافق مع أفكار الشعوب التركية، فأدعوا وأشاعوا أنهم سنيي المذهب. وفي بحثه المعنون بـ"التصوف في تركيا: من التاريخ إلى السياسة"، يحاول الباحث خالد محمد عبده، أن يفسر سبب انتشار الطريقة البكتاشية بين الأتراك، بطابعها الباطني المتقبل للأخر المذهبي والديني، حيث استطاعت تلك الطريقة أن تستوعب وتهضم جميع الحركات والأفكار الباطنية والصوفية المنتشرة قبلها. ويظهر ذلك بشكل واضح، في القول المنسوب إلى حاج بكتاش في كتابه ولاية نامة (يجب عدم التفريق بين الأديان، لأن التفرقة تؤدي إلى الخصومة بين أهلها، في حين أن جميع الأديان تسعى لتحقيق السلام والإخاء بين البشر أجمعين). أما الطريقة الصوفية الأخرى، التي انتشرت بشكل كبير بين الأتراك، فهي الطريقة النقشبندية، وتُنسب هذه الطريقة إلى محمد بهاء الدين نقشبند، والذي ولد في بُخارى بأسيا الوسطى في النصف الأول من القرن الثامن الهجري، وتوفى في عام 791هـ. وقد قيل إنه عُرف بالنقشبند، لأن اسم الله قد انطبع على قلبه من كثرة ذكره تبارك وتعالى، أو لأن الرسول الكريم قد وضع يده على قلب محمد بهاء الدين، فصار نقشاً في قلبه. وبخلاف الطريقة البكتاشية، فإن النقشبندية في بدايتها لم يكن لها صلة بالتشيع، حتى إنها قد استمدت إرثها الروحي والديني من أبي بكر الصديق، الذي اعتبره زعماء الطريقة المؤسس الأول لها. وبحسب ما تذكره الباحثة بديعة عبد العال، في كتابها "النقشبندية: نشأتها وتطورها لدى الترك"، فإن انتشار الطريقة النقشبندية بين التركمان كان بسبب بساطة معتقداتها وبعدها عن التعقيد، وميلها للتسامح وتشجيعها على الاندماج المجتمعي.

المجتمع والسياسة: كيف أثرت الصوفية في التاريخ التركي؟

إذا كان نمط التدين الصوفي قد لاقى شيوعاً وانتشاراً في بلاد الأتراك منذ بداية معرفتهم بالإسلام، وحتى اللحظة الراهنة؛ فإن ذلك قد ظهر جلياً واضحاً في ميداني المجتمع والسياسة. فبالنسبة للمجتمع التركي، توجد به العديد من الظواهر المرتبطة بالفكر الروحاني الصوفي، فمثلاً تنتشر في تركيا المساجد التي تحتوي على الأضرحة والقبور والمقامات، وهي إحدى سمات الصوفية المميزة. كما أن بعض الأشكال الفنية قد تأثرت بالتقاليد الصوفية، كرقصة التنورة، التي تعتمد على تكرار الحركات الدائرية المستلهمة من النظرة المولوية للكون، والتي تعتبر أن الكون دائري الشكل، مما يجعل من نقطة بداية الرقصة هي نفسها نقطة نهايتها. وكذلك فقد أثرت الأفكار الصوفية في ظهور بعض الأبنية العمرانية، مثل التكايا، والتي بدأت كمقرات لشيوخ الصوفية ثم تطورت لتمارس دوراً اجتماعياً مهماً بعد أن استقبلت الفقراء والمحتاجين لإطعامهم وإيوائهم وتقديم المساعدات لهم. الصوفية أيضاً لعبت أدواراً مهمة، في بعض اللحظات الحرجة في التاريخ السياسي التركي، حتى أضحى من الصعوبة بمكان، أن يتم دراسة تاريخ تركيا السياسي دون النظر في تأثيرات القوى الصوفية به. تؤكد الدكتورة بديعة عبد العال، في كتابها سابق الذكر، على التداخل بين الصوفية والسياسة في تركيا بقولها إن عادة سلاطين الأتراك كانت اللجوء لشيوخ التصوف لأخذ مشورتهم وطلب المدد منهم، فلم يكن السلطان العثماني ليقدم على حرب أو فتح بلد من البلدان دون أن يرجع للشيوخ المتصوفة أولاً.  ومن الملاحظ أن الكثير من المصادر التاريخية قد حاولت أن تبين تأثيرات بعض المتصوفة في اتخاذ بعض القرارات السياسية المهمة، ومن ذلك الأخبار التي زعمت أن لقاء قد وقع ما بين حاجي بكتاش ولي والسلطان العثماني أورخان، وأن الأول قد حض الثاني على تأسيس قوة عسكرية تمكنه من توحيد البلاد التركية تحت زعامته، وهو الأمر الذي استجاب له الثاني بتأسيسه للجيش الإنكشاري. [caption id="attachment_120541" align="alignnone" width="700"]الجيش-الإنكشاري2 الجيش الإنكشاري[/caption] ويوضح الباحث خالد محمد عبده، أن تلك الروايات قد حاولت أن تنسب لحاجي بكتاش مهمة تأسيس الجيش الإنكشاري، وهو أمر مستحيل تاريخياً لأن مؤسس الطريقة البكتاشية قد توفي قبل حكم السلطان أورخان بنحو نصف قرن من الزمان.

الصوفية والسياسة التركية

وقد لعب الصوفيون دوراً مهماً في وقت فتح القسطنطينية، فبحسب ما يذكر محمد فريد بك المحامي في كتابه تاريخ الدولة العلية العثمانية، فإن السلطان محمد الفاتح قد هم بفك الحصار عن القسطنطينية وبالانسحاب، إلا أن الشيخ آق شمس الدين والذي كان أحد أعلام الصوفية النقشبندية في عصره، قد رفض ذلك وشجعه على مواصلة القتال، حتى تم الفتح وسقطت المدينة المنيعة في قبضة المسلمين. العلاقة ما بين التصوف والسياسة في تركيا، قد وصلت إلى أوجها بداية من القرن السادس عشر الميلادي، وذلك حينما صار من المتعارف عليه أن يقيم مجموعة من الشيوخ البكتاشية في ثكنات الجند الإنكشارية، حيث كان هؤلاء الشيوخ يلقنون الجند القرآن والتعاليم الدينية، ومن هنا صار هناك تلازماً وتماهياً ما بين البكتاشية والإنكشارية، حتى أن زعماء الطريقة الصوفية قد انساقوا وراء قادة الجيش عندما بدأوا في تدخلاتهم السياسية فقاموا بعزل بعض السلاطين وتنصيب سلاطين آخرين. وبحسب الدكتورة بديعة عبد العال في كتابها "الفكر الباطني في الأناضول"، فقد استمر هذا التلازم قائماً، حتى قام السلطان محمود الثاني في عام 1826م بالقضاء على الجيش الإنكشاري وإلغاء الحركة البكتاشية واغلاق تكاياها ومراكزها. ولكن حتى بعد ذلك، فقد استمر السلاطين العثمانيين محافظين على احترامهم وتبجيلهم لشيوخ الصوفية، وليس أدل على ذلك من الرسالة التي بعث بها السلطان عبد الحميد الثاني عقب عزله عن منصبه، إلى شيخ الطريقة الشاذلية، حيث تُظهر ألقاب التفخيم والإطراء التي أسبغها عبد الحميد على الشيخ في رسالته، المقام الرفيع الذي كان يشغله المتصوفة في هذا الوقت. ورغم اسقاط الخلافة العثمانية على يد كمال أتاتورك في عشرينيات القرن العشرين، إلا أن الصوفية قد استمرت محافظة على مكانها في الساحة السياسية بتركيا، حتى أن واحداً من رجالاتها وهو بديع الزمان سعيد النورسي، قد لعب أدواراً سياسية واجتماعية معارضة لقوى العلمانية الكمالية، من خلال نشره لرسائل النور، والتي دعا فيها لضرورة ايقاظ المجتمع التركي من غفوته وحفاظه على هويته الإسلامية.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard