بينما يعود الكثير من الأطفال هذه الأيام إلى المدرسة، بعد موسم الإجازة الصيفية، وما يحفل به من لعب ومرح وممارسة الرياضة أو السفر رفقة الأهل، يعود بعض من أقرانهم إلى مقاعد الدرس تاركين المهن والورش والمحال العاملين بها. هؤلاء ينتمي ذووهم إلى ثقافة أخرى تؤمن بأهمية عمل الطفل في فترات الإجازة الصيفية، كأسلوب أصيل ومتوارث لتربية الأبناء على نحو قويم، في الوقت الذي تشغل فيه قضية عمالة الأطفال حيزاً من اهتمام وسائل الإعلام والمؤسسات الحقوقية.
رصيف22 يلقي الضوء على جانب من ثقافة بعض شرائح أسر الطبقة الوسطى المصرية، لنتفهم الدوافع ووجهات النظر غير المطروحة إعلامياً. التقينا بضعة أشخاص عملوا في الصغر أو من الأطفال العاملين وذويهم، لنعرف أكثر عن تلك الثفاقة.
السن تفرّق
تقول السيدة فاطمة، ربة المنزل الخمسينية، التي تعيش في القاهرة ولديها 3 صبيان وبنت: "عمل الطفل في الإجازات الصيفية وغيرها، مهم وضروري لمن هم في مثل ظروفنا، إذ يصعب الاشتراك في الأندية الرياضية مثلاً، أو فتح فضاء لتواصل الأطفال بأقرانهم غير الشارع"، لكنها ترى أن ذلك يتوقف على عدة عوامل. يأتي العمر كعامل أساسي، وترى فاطمة أن العمل في سن مبكرة خطر، لأن "العيل ممكن يستحلي القرش ويحسبها غلط. الشغل بيتعب فيه لكن بيكسبه فلوس عكس المدرسة"، مؤكدةً أن الطفل لا يدرك أن المدرسة تعده للمستقبل، بينما العمل في سن المراهقة مهم جداً، إذ يدرك أنه يتعلم من المدرسة ما لن يتعلمه في الورشة والعكس صحيح، وهذا يتوقف على توجيه الوالدين في مرحلة يمكن أن يخسر فيها الطفل مستقبله إذا ترك للشارع.تدريب على الصنعة والمسؤولية "علشان يبقى راجل"
يقول الحاج راغب، مقاول تشطيبات، إن العمل جزء من التربية: "علشان يتعلم يبقى راجل ويتحمل المسؤولية، ويتعلم إن القرش (المال) ما بيجيش بالراحة والكسل"، أبناؤه الأربعة عملوا معه، واحد منهم فقط استمر حتى أصبح مقاولاً لأعمال الديكور. وهذا هو المغزى من عمل الأطفال في اعتقاد الحاج، إذ يؤّمن تدريباً لصنعة تحمي الطفل من الضياع مستقبلاً إذا فشل في التعليم. على الرغم من نجاح نجله في دراسة الآداب، فإنه تميز في مهنة والده واستطاع تطويرها، ولكن القاعدة تظل هي القاعدة في وجهة نظر الرجل الستيني: "لو مش غاوي تعليم يبقى في إيده صنعة يفتح بيها بيت"، وعكس ذلك هو "الصياعة" أي "لا شهادة ولا صنعة. يبقى عالة ويمد إيده للناس وممكن يبقى حرامي أو تاجر مخدرات".الواقع وتخفيف الصدمة
بينما يصطدم بالواقع من لم يعمل في أي مهنة خلال فترات الدراسة حتى انتهاء فترة التعليم الجامعي، يستطيع من عمل في الصغر التعامل مع الأوضاع بعد الدراسة دون انتظار وظيفة، أو الاحتياج إلى "مصروف"، وبالتالي عدم الشعور بأنه عاطل ويمثل عبئاً على كاهل الوالدين والإخوة الأكبر سناً. حسن، تلميذ في الصف الأول بالمدرسة الثانوية التجارية، يعد نفسه للالتحاق بالجامعة، بينما يعمل نادلاً في أحد المقاهي منذ كان في الحادية عشرة من عمره. يقول: "ماعندناش غياب وحضور في المدرسة"، لذلك وافق والده على عمله خلال فترة الدارسة، حتى لا يصبح عرضة "للصياعة"، وهو ما لا يتاح لأقرانه في الثانوية العامة، التي تتطلب التزاماً بالمدرسة أو بالدروس الخصوصية على الأقل، وبذلك يصبح لديه "باب رزق" لتمويل حصوله على معادلة الثانوية العاملة ومن ثم الالتحاق بالجامعة.زمن الورشة انتهى
بينما يرى عادل، موظف في إحدى الهيئات الحكومية، أن عمل الأطفال في الورش وما إلى ذلك لم يعد مجدياً، فإذا كان العمل لإكسابه مهارات التواصل وتحمل المسؤولية وتقدير قيمة العمل، فمن الممكن أن يعمل في أي مجال مناسب وحديث، مثل صيانة الكمبيوتر وأجهزة المحمول أو مجال التجارة، فيعمل مساعداً في أحد المتاجر الصغيرة أو محال البقالة وغيرها مثلاً. يدعم عادل وجهة نظره بأن الحرف التقليدية أصبحت تعاني من ندرة العاملين فيها، فضلاً عن الكفاءات والمهارات، بسبب انصراف الصبيان الذين تعلموا في الصغر، إلى العمل على التوك توك، الذي أدى إلى انخفاض الأيدي العاملة الماهرة التي يمكن أن تنقل خبرة ما إلى جيل جديد.محمود والخوف من الضياع
ابن الـ12 عاماً، يحب أن يكمل حياته كتاجر هدايا وألعاب، وكما لا يحب المدرسة والمدرسين "علشان بيذّلونا"، لا يحب أيضاً العمل في ورش الميكانيكا وغيرها. يقول: "علشان التجارة أنضف وأحسن". ويشير محمود إلى أن التجارة تجعل منه قادراً على التعامل مع الناس وفهمهم بشكل جيد، دون التعرض للإهانة أو "البهدلة" في الورشة. فعلى الرغم من صغر سنه، اختبر العمل كمساعد ميكانيكي سيارات ونجار، وحتى الآن يعمل مع الجزارين في موسم الأعياد ورمضان. في محل الهدايا والألعاب، وجدنا العديد من الأطفال من أبناء خفراء المنازل المحيطة، يحرصون على مساعدة رب العمل الشاب الثلاثيني، الذي ينصح محمود بالذهاب إلى المدرسة إلى جانب العمل. ويقول إنه (محمود) يتميز بالأمانة والأدب، ولذلك هو حريص على أن يستمر معه دون أن يؤثر ذلك على دراسته، فالعمل يبدأ بعد الظهر، ويكون قد انتهى من اليوم الدراسي، ولكن محمود لا يحب المدرسة، لذلك يلزمه الوالد بالعمل خوفاً من ضياع مستقبله من دون تعلم مهنة.الورشة كتهديد وعقاب لإهمال الدراسة
في أحيان كثيرة، يتلقى العديد من التلاميذ، الذين يميلون إلى اللعب والهروب من المدرسة، ويحصلون على درجات متدنية، تهديداً من الآباء بالخروج من المدرسة نهائياً، وتسليمهم إلى أحد الأسطوات العاملين في الميكانيكا وغيرها. ويقول عمرو، الذي يعمل حالياً مدير مبيعات، بعد دراسة إدارة الأعمال، إن ذلك التسليم يأتي مشفوعاً بتوصية بالتعامل العنيف وتعمد الإهانة، حتى يرتد الطفل عن إهمال دراسته ويتيقن أن اهتمامه بالتعليم أفضل من تحمل الإهانة والإرغام على مقابلة زملاء المقربين من دوائر الأهل والجيران، بالملابس المتسخة من أثر الشحوم، ما يعني أنه ضل طريقه وأن حالته تمثل تهديداً لهم، وأن الخروج من المدرسة يعني خروجاً من الطفولة برمتها. ويضيف الشاب العشريني أن النزول للعمل مع صديق والده الميكانيكي، وترك الدراسة ثلاثة أيام، كانت كافية لأن يرتد عن إهمال الدراسة، ولكنه يعتقد أنها طريقة سلبية في التربية لا يود اتباعها مع أبنائه في المستقبل.اللعب أيضاً يعلم الرجولة وتحمل المسؤولية
وتؤكد الباحثة التربوية وفاء رفعت بسيوني لرصيف22 أن عمالة الأطفال جريمة في حق الطفل مهما كانت الدوافع، ومهما كان اختلاف الثقافات، والكثير من أطفال العالم يواجهون تلك الأزمة، خصوصاً في الدول النامية، التي يبلغ عدد الأطفال العاملين فيها، من سن 5 أعوام حتى 17 عاماً، نحو مليونين. وقالت رفعت إن الأزمة تكمن في عدم تفعيل القوانين المختصة بتجريم عمالة الأطفال بمصر، خصوصاً المادة رقم 80 من الدستور المصري، وإنه ﻻ بد من تطوير القوانين والتشريعات وتطبيقها فعلياً. وتضيف: "لا نزال في حاجة ماسة لمزيد من التشريعات واﻻلتزامات الدولية لمعالجة المشكلة، فعلى الرغم من توقيع مصر عدة اتفاقيات دولية بداية من 1990 حتى 2003، وتأكيد دستور 2014 على تجريم عمالة الأطفال، إلا أن الأزمة تتفاقم على نحو سريع، بدون أي محاولات فعلية لوقف هذه الجريمة التي تهدد المجتمع، وذلك بالتوازي مع عدم قيام المؤسسات الإعلامية بدور فاعل تجاه الأزمة بالتوعية وتصحيح الأفكار المغلوطة". وعلى الرغم من القيم المتوارثة للكثير من الأسر المصرية، حول قيمة عمل الأطفال، إلا أن الآثار المترتبة عليها في غاية الخطورة. توضح رفعت أن المخاطر تبدأ بلجوء الأطفال إلى التدخين، وفي الغالب تنتهي بإدمان المخدرات والتأثير على محاولات الأهل أنفسهم لزرع القيم والأخلاق في عقول أطفالهم. ولا تتفق الباحثة التربوية مع أساليب أسر الطبقة المتوسطة، التي تهدف إلى تربية الأطفال كرجال، وتبرير ذلك بأن العمل هو السبيل الحقيقي لتعليم تحمل المسؤولية. وتؤكد: "هذا انتهاك للطفولة وهي مرحلة لها متطلبات كالانخراط في الأندية الاجتماعية والرياضية للّعب وممارسة الرياضة واﻻستمتاع بالطفولة بشكل عام، لكن العمل في تلك المرحلة يفتح الباب لاحتكاك الطفل بفئات قد تساعده على اﻻنحراف وتهدده نفسياً وأخلاقياً". وتضيف أنه حتى وإن كانت نية الأسرة تعلم المسؤولية، ثم "الرجولة"، فالرجولة قد نعلمها للأبناء بطرق شتى، قد يشترك الطفل في أحد الأندية، ويصبح عضواً في جماعة من أقرانه ويتطلع لدور في فريقه، ومن هنا يتعلم تحمل المسؤولية. وقد يشترك الطفل أيضاً في دورات وصفوف الفنون كالرسم والتمثيل والموسيقى، وينخرط في ورش ومسابقات تنافسية، وذلك أيضاً ينمي روح المسؤولية والتعاون لدى الطفل.المنظمات الدولية وتجريم عمل الأطفال
تسعى الكثير من المنظمات الحقوقية الدولية، وعلى رأسها اليونيسيف، إلى مناهضة عمالة الأطفال، ويعتبر يوم 12 يونيو من كل عام هو "اليوم العالمي لمناهضة عمالة الأطفال"، كما تعمل تلك المنظمات على نشر الوعي بحقوق الطفل، ومحاولة معالجة أسباب عمالة الأطفال، كتطوير منظومة التعليم في الدول النامية، التي تتسبب بعزوف الأطفال عن المدارس. وتعمل أيضاً تلك المنظمات على دراسة نتائج انخراط الأطفال في العمل بسن مبكرة، في ما تعتبر أن عمالة الأطفال نوع من الاستغلال الاقتصادي الذي يجب أن يعاقب عليه القانون.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...