"العمل فلاح، به نبتدئ الصّباح، كي نبلغ النّجاح". مطلع أنشودة مدرسيّة راح يدندنها الطفل رضا جلالي وهو يحكي عن ذكرياته حين كان تلميذاً في المدرسة. يتوقف رضا عن الكلام ثم يقول لرصيف22: "لم أبلغ النّجاح لا في مدرسة ولا خارجها. هذا العالم لا يحبّني".
رضا هو "رجل صغير" كما يحلو له أن يصف نفسه. لم يكمل بعد سنته الخامسة عشرة لكنّه يكاد ينهي سنته الثّانية في العمل بورشة لإصلاح السيّارات. مُغطّى بالشحوم وببقايا الزيوت المستعملة، ينحني وينزلق تحت السيارة محاولاً إصلاح أحد الأعطال ثم يمدّ رأسه ويقول "أحضرني أبي إلى هذا الميكانيكيّ منذ سنة ونصف السنة رغم أنّي لم أكن فاشلاً في الدراسة".
كان رضا يحلم مثل بقيّة أترابه بمواصلة الدراسة. ولكنه أخرج من المدرسة قبل إنهاء الصف الخامس. بعد سنوات، قد يصبح أميّا حسب القانون التونسي. عندما بدأ حياته المهنية، لم يكن يتقاضى أكثر من عشرين ديناراً (11 دولاراً) في الأسبوع. وبعد سنة من الخبرة، رفع رئيسه في العمل أجره إلى خمسين ديناراً (27 دولاراً) في الأسبوع. معلّقاً على هذا المبلغ البسيط، يقول أبوه: "لم يعد رضا ينتظر منّا مصروفه بل أصبح يساهم في مصروف العائلة. صار سنداً لنا".
عائلة رضا كبيرة العدد ومحدودة الموارد. لذلك اختارت أن تضحّي بمستقبل ابنها الدراسي وأن تدفع به إلى سوق العمل. سنّه الصغيرة وضوابط قانون تشغيل الأطفال التونسي لا تجدان آذانا مصغية أمام الفقر.
لا يكاد رضا يتناول لقمة العشاء حتى يغلبه النعاس من شدّة التّعب. رئيس عمله لا يبالي بسنّه الصغيرة ولا بهشاشة جسمه. هذا الطّفل بالنسبة إليه هو فرصة ليدفع أجرة أقل مقابل خدمات أكثر. فلا يكتفي بتكليفه إصلاح السيارات بل يجعله ينظّف الورشة ويرسله للبحث عن قطع الغيار اللازمة وأحياناً يرسله لجلب حاجات البيت. كلّ هذا ورضا لا يحتج حتى ولو تم تعنيفه حين يرتكب خطأ ما.
العمل في ورشة إصلاح السيارات لا يرتبط بوقت محدّد بل بشروق الشمس وغروبها وبمقدار العمل وعدد السيارات الواجب انهاؤها. منذ إرسال الشمس خيوط أشعتها الأولى، يغادر رضا فراشه الدافئ إلى الورشة. يجانب دائماً المرور على الطريق المؤدية إلى المدرسة. يُبعد نفسه عن مشاعر الحنين التي يرى فيها "لحظة ضعف". يقول: "عليّ أن أتحمل مسؤوليتي ومسؤوليّة العائلة. ظروفنا صعبة ولا حلول أخرى".
خلافاً للضوابط القانونية، تنتشر عمالة الأطفال في تونس. وهم يشتغلون خلافاً للمعايير القانونيّة. لأسباب اقتصادية، ينخرطون في سوق العمل قبل بلوغهم السنّ القانونية. وأحياناً يتم تشغيلهم في مجالات خطرة تهدّد صحّتهم ونموّهم الطبيعي. وغالباً ما ترتبط عمالة الأطفال بالاستغلال الاقتصادي لهم وبالعنف ضدّهم.
حسب "المسح العنقودي المتعدّد المؤشرات تونس 2011-2012"، وهو التقرير الذي يقدّم أحدث الأرقام، تبلغ نسبة الأطفال من الفئة العمريّة 5-14 سنة الذين انخرطوا في سوق العمل 3 في المئة. ترتفع هذه النسبة في الوسط الحضري إلى 5 في المئة مقابل 2 في المئة في الوسط الرّيفي. ولكن الوضع أسوأ من ذلك بكثير لأن تقارير وزارة المرأة والأسرة والطفولة تستند إلى الحالات التي تم التصريح عنها والتعامل معها. لذلك يبقى عملها مبتوراً. فعمل الأطفال يتركز أساساً في القطاع غير الرسمي، في ورش إصلاح السيارات وفي قطاع الزراعة وفي المنازل وعلى الطرقات.
الدولة التونسية وافقت على معاهدة حقوق الطفل وعلى البروتوكولين الاختياريين المرتبطين بها. وبمقتضى القانون الرقم 92 لسنة 1995 والمؤرّخ في 9 نوفمبر 1995، أصدرت "مجلة حماية الطفل". كذلك وضعت خطة وطنية لحماية الطّفولة تتضمّن متابعة دورية لوضع الأطفال. وسنوياً، ومنذ العام 1991، من المفترض أن تعمل "كتابة (وزارة) الدولة للمرأة والأسرة" على إصدار التقرير الوطني في شأن وضع الطّفولة بتونس. هذه المعلومات أكدتها لرصيف22 السيدة نضال حليم التي تشغل وظيفة استاذة في الإدارة الفرعيّة لحقوق الطّفل في كتابة الدّولة للمرأة والأسرة.
ويشير الدكتور عمر الزعفوري، أستاذ علم الاجتماع بكلية الآداب والعلوم الإنسانية في صفاقس، لرصيف22، إلى غياب الدراسات الاجتماعية والأنتروبولجية حول ظاهرة عمالة الأطفال، التي تغزو المجتمع التونسي. ويضيف: "يحاول النظام التعتيم على ظاهرة تشغيل الأطفال بالتضييق على الباحثين الجامعيين وعلى المنظمات التونسية والعالمية المتخصصة في هذا المجال".
وفي رأي الزعفوري، "إنّ أسباب هذه الظاهرة مزيج بين الاجتماعي والاقتصادي. فقد كانت العائلات التونسية في السبعينات من القرن الماضي تستثمر في التعليم وتراهن عليه للخروج من حالة الفقر بعد نجاح الأبناء ودخولهم سوق العمل. لكن منذ أواخر التسعينات، ومع تكدّس عدد كبير من العاطلين عن العمل، لم يعد الحرص على تعليم الأطفال على رأس أولويات الأهل. كل هذا طبعاً مرتبط بالحالة الاقتصادية وباهتراء المنظومة التربوية والتعليمية".
الطّفل رضا يتعرض يومياً للاستغلال الاقتصادي وللعنف من قبل رئيسه في العمل. يحدث ذلك بموافقة العائلة. فكيف ستحميه وزارة المرأة والأسرة والطفولة؟ وما نفع ترسانة القوانين والبروتوكولات والاتفاقات الدولية؟
نشر هذا الموضوع على الموقع في 21.11.2014
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...