لم تكن رضوى (30 عاماً)، تدري، وهي تستقل مترو الأنفاق في القاهرة، أن المملكة الإسبانية فرضت في القرن السادس عشر قانونًا يجبر سكان إسبانيا على أن يكونوا من أفراد الجالية المسيحية الكاثوليكية. فر الأهالي غير المنتمين لهذا المذهب إلى غرناطة ليحتموا بالغجر، وهناك بدأ غناء الفلامنكو الذي تحول إلى رقصة يهرب بها الناس من الاضطهاد والآلام اليومية.
يوم الخميس هو اليوم الذي تذهب فيه رضوى وزوجها إلى إحدى الشقق في حي مصر الجديدة للرقص فقط، شقة بلا أثاث، معزولة صوتياً، يتوسطها "دي جي" يطلق أغانيه الصاخبة ذات الإيقاع الحي. عشرات الشباب من جميع الفئات الجندرية هناك، وما من تفرقة دينية أو اجتماعية، يرقصون لمدة 3 ساعات أو أقل، حسب ما يرغبون، ثم يتركون الشقة.
تلك الحفلة تقام 4 مرات شهرياً، وتحديداً الخميس من كل أسبوع .
الولوج إلى هذا العالم ليس بالأمر السهل، تخبرنا رضوى في البداية أنها تحب الرقص كثيراً، على أنواعه. الآن اعتادت هذا النوع الذي يطلقون عليه الـ"أكسسه"، وهو مصطلح كوميدي مستوحى من أحد أفلام عادل إمام، ويعني الصراخ والتعبير الجسدي الحر مع الموسيقى. هو في الأصل علاج نفسي للخروج من مشاكل الحياة اليومية وضغوطها التي لا تنتهي.
لا مشروب لا مخدرات. هذه هي القاعدة الأساسية لتلك الحفلات. انتشار هذه السهرات في مصر يتزامن مع صعود موجة رقص في العالم تحمل اسم ecstatic dance، وتعبر عن رقص حر، لا يهتم بشكل الرقصة بل بمعناها وإحساسها. إنه نوع من التأمل المتحرك، واحتفال بأجسامنا، وبحريتها.
التجربة
منذ شهر، تذهب رضوى إلى تلك الحفلات، التي عرفتها عن طريق أصدقائها إثر بعض المشادات الزوجية والضغوط العملية. بعد أول حفلة، كانت النتيجة هدوءاً وطاقة، ما دفعها لاطلاع زوجها على الأمر، وبدأ الاثنان بالذهاب أسبوعياً إلى حيث تقام تلك الحفلات، لنفض غبار الحياة ثم العودة واستقبال أسبوع آخر بكل حيوية وسعادة. ما قالته رضوى عن احساسها بالسعادة، ينطبق على أبحاث طبية حديثة أوضحت أن الرقص يجعل الشخص أكثر نضارة، لأنه يحسّن الدورة الدموية والصحة العامة، كما أنه علاج ممتاز للتخلص من الاكتئاب النفسي والقلق والرتابة، التي تسيطر على حياة الكثير من الأشخاص. فقد وجد الباحثون أن الرقص يخلص الإنسان من الاكتئاب، لأنه يساعد على فرز هرمون الأندروفين في الدماغ، وهو هرمون السعادة، الذي يعمل على خفض نسبة التوتر والقلق والاكتئاب. "أنتم لا ترقصون بالمعنى الحرفي للكلمة"، توضح نيرة، التي تعمل في أحد المصارف المصرية، وتذهب إلى هناك مرتين في الشهر على الأقل، لافتةً إلى أن تلك الحفلات تفريغ طاقات لا أكثر، إذ ليس هناك حركات معينة كالأنواع الأخرى من الرقص الشرقي أو الغربي. "أنا من سكان مصر الجديدة، لذلك كان من السهل علي التعرف إلى تلك الحفلات"، تكمل نيرة، وتضيف أنها لم تعانِ ضغوطاً نفسية، بل ذهبت فقط لكسر الملل. تقول: "كانت البداية مع صديقتي، وكان ما رأيناه مبُهراً. أناس يرقصون كلٌ على حسب ما يريد، لا أحد ينظر إليهم، يسخر منهم، وقد كانت تلك مشكلتي، لأنني لا أجيد الرقص الشرقي، وبالتالي إذا رقصت كانت السخرية تلاحقني، فجأة وجدت كل شيء متاحاً ولك الحرية في أن ترقص كما تريد، لذلك انطلقت ورقصت خلال 3 ساعات". وتوضح نيرة: "الحرية هي ما أبحث عنه، أن لا يقول لي أحد: عيب، أن لا تلاحقني الأعين. هناك، تشعرون أن بإمكانكم الصراخ في وجه عادات وتقاليد تكبل المرأة حتى قدميها، فرحتي أن هناك شباباً أيضاً، وكان من الواضح أنهم جاءوا ليفرغوا كبتهم، وبالتالي لأول مرة يجتمع رجل وامرأة ويرقصان بدون معاكسات، وهذا أمر جلل في مجتمعنا".الماجيكو
البحث عن منظمي تلك الحفلات صعب، فليس هناك أي دعاية على مواقع التواصل الاجتماعي، أو نشر صور من الحفلات للترويج، وهذا ما شكّل علامة استفهام حين جلسنا مع الشاب الأربعيني، الذي اختار اسم "الماجيكو" حتى لا يفصح عن اسمه الحقيقي. "الخفاء" كان أول ما طرحناه على الماجيكو، مالك أحد تلك المراكز، التي تنظم حفلات "رقص الأكسسه" منذ عام ونصف العام، ليؤكد أن الخوف من الأجهزة الأمنية هو السبب. بدايةً، لا يوجد شكل قانوني لتلك الحفلات، فالمكان ليس ملهىً ليلياً بقواعده المعروفة، وإذا كان من حق أي مواطن أن ينظم حفلات في بيته، ما دام لا يؤذي الآخرين، فإن الاتهامات موجودة. لافتاً إلى أنه في منتصف تسعينيات القرن الماضي، كانت هناك حفلات لموسيقى "الميتال" وتم اتهام القائمين بها بعبادة الشيطان، وبالتحريض على الفجور، وهذه الأخيرة تهمة فضفاضة في القانون المصري، وعقوبتها سبع سنوات، ناهيك باتهامات المثلية الجنسية أو إقامة حفلات جنس، وتلك كلها تهم في انتظار مثل تلك المراكز، لذلك كان من الأفضل الاختفاء. وتشترط تلك المراكز لحضور الحفلات، عدم شرب الخمور والمخدرات، أو ارتكاب أفعال فاضحة أو التعرض لأي فرد داخل الشقة، ومن يفعل ذلك يعرض نفسه للطرد، ومن يرفض يتكفل به "بودي غاردات". https://soundcloud.com/ean-golden/live-ecstatic-dance-san-francsico-with-gabriel-gold "عشت في لندن عامين"، يقول "الماجيكو"، الذي تخرج من كلية التجارة في جامعة القاهرة عام 2000، ثم سافر ليعمل في مجال المزيكا "دي جي"، ويعود للقاهرة مع أحداث ثورة يناير، التي يشير إلى أنها سبب عودته، وانخرط في التظاهرات أكثر من ثلاثة أعوام، ثم جرب العمل الخاص، وحين لم ينجح قرر العودة مرة أخرى إلى "المزيكا". ويضيف: "كل شيء مختلف هذه المرة، ففي السنوات الماضية انتشرت ثقافات جديدة من الرقص، مثل الزومبا، الذي تمارسه السيدات في "الجيم"، وفي المغرب كانت هناك حفلات "رقص النشوة"، وهو اسمها المهني، وانتشرت ايضاً في لبنان. من هنا جاءت الفكرة، فحوّلتُ شقتي إلى مكان للرقص وقمت بدعوة أصدقائي فلبوا الدعوة. في البدء، كان الأمر مجانياً ثم مع زيادة العدد حددت تعرفةً للدخول". ويشرح أن الموسيقى في الغالب لا تكون لمطرب بعينه، بل مجرد "ميكسات"، ما سبّب مشكلة في البداية، فالجميع يعتاد الكلمات، بينما في الغرب، الذي شهد أولى الحفلات من هذا النوع في منتصف تسعينيات القرن الماضي، ليس هناك كلمات مع الموسيقى. أما عن الإيقاع الصاخب، فيقول: "لا يمكن أن تخرج طاقتك على موسيقى هادئة". تراوح تكلفة الدخول بين 200 و 300 جنيه (11$ و17$)، بحسب ما يقرره منظم الحفلات، وبعضها يدوم ساعتين، وبعضها الآخر 3 ساعات، أما عدد المشاركين فيراوح بين 30 و50 شاباً. https://youtu.be/0ph49CpXXMk?t=10 طرق الوصول إلى تلك المراكز لن يكون إلا من خلال معرفة أحد الذين شاركوا في حفلاتها، أما في مصر الجديدة، فهناك 4 مراكز متقاربة، كل منها لا يختلف كثيراً عن الآخر، إلا في نوع الموسيقى. يقول الماجيكو إن هذا الوضع مفيد للمجال بأكمله. ستجدون في تلك المراكز رواداً من كل الأعمار، حتى أن هناك رجالاً فوق الخمسين جاءوا ليرقصوا. وسبب نجاحها، كما يرى "الماجيكو"، هو حرية كل فرد في فعل ما يشاء، لا تكبيل للحرية، بل تفريغ طاقات في جو موسيقي ممتع وأليف.تعبير نفسي
يقول الدكتور أحمد الباسوسي، خبير علم النفس، إن تلك الحفلات صحية جداً من الناحية النفسية، فالمواطن المصري يعاني من كمية ضغوط لا يتحملها إنسان آخر، بسبب حالة اقتصادية صعبة، وفقدان للحريات، وعدم احترام للخصوصية، وهي أسباب تساعد على اللجوء لتلك الحفلات. ويضيف الباسوسي أن الرقص الصاخب والحركات المنفلتة تعبير عن حالة نفسية يفرغ فيها الإنسان شحنات انفعالية، وهموماً حياتية، وهذا ما يفيده في النهاية، خصوصاً أن الانسان يريد دوماً الهرب من حالته الواقعية إلى حالات أخرى.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون