شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الرقص في دمنا... هل نعرف اليوم أن الرقص جزء حميمٌ من ثقافتنا العربية؟

الرقص في دمنا... هل نعرف اليوم أن الرقص جزء حميمٌ من ثقافتنا العربية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 8 أغسطس 201710:09 ص

"نحن نرقص لكينونتنا الجسدية، والمشاعرية، والعقلية والروحية. إنّنا نرقص لأجل إنسانيتنا"، هذا ما قالته كميرلا مورث، في كتابها "لماذا نرقص"، ونضيف من تاريخ العالم العربي خاصة، أننا نرقص لنتعبد ولنتواصل مع الآلهة. في حركة الجسد نافذة فريدة لاستكشاف إنسانيتنا سبرتها شعوب العالم العربي منذ بداية الحضارات، ولا يمكن استعمال الدين كحجة لكبح الجسم عن الحركة أو إلجام العقل عن إنتاج الفن، فجلّ الحضارات في تاريخ العالم العربي، إنْ لم تكن كلها، تلتقي مع الآلهة عبر الرقص، من أقدمها في بلاد الرافدين حتى يومنا هذا مع المتصوفة من المسلمين. وفي كامل حضارات العالم، كما تقول جينيفر أملين، في مقالتها عن "الرقص والدين" في موسوعة علم النفس والدين، كان "الرقص، مع المرافقة الموسيقية، من أقدم الطقوس في الدين، حيث كانت دائرة الرقص واحدة من الطقوس الأكثر شيوعاً في جميع أنحاء العالم عبر فترات التاريخ المختلفة".

خلال عصر ما قبل الأسرات في حضارة مصر القديمة (3100 ـ 5500 قبل الميلاد)، كانت هناك نقوش لنساء، قد تكون من الآلهة أو من الكاهنات، ترقصن مع أذرعهن مرفوعة فوق رؤوسهن. حيث كان الرقص عنصراً هاماً من الاحتفالات والطقوس في مصر القديمة، وعلى عكس السائد، كان له دور أكبر بكثير من مجرد هواية ومصدر متعة في مصر القديمة.

وكان أكثر شكل معروف هو الرقص في خط أو سلسلة ما يعرف باسم رقص السلسلة (مثل الدبكة اليوم، حيث تتشابك الأيادي).

عبّر الرقص في تاريخ العالم العربي عن اللقاء بالآلهة، من أيام حضارات بلاد الرافدين حتى المتصوفة في عصرنا
رمزية الرقص، في الفنّ كما في الطقوس الدينية والجنائزية والاحتفالية، لها أدائية استكشافية توصلنا لمعان فريدة
في حركات الرقص الصوفية، دوران حول الذات الإلهية وسرها ونورها
ويعتقد أن طقوس رقص السلسلة ظهرت لأول مرة منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة. يقول أوقيانوس السميساطي، الفيلسوف الذي كتب باليونانية القديمة رغم ولادته في مدينة سميساط شمال سوريا والتي تلت ميلاد المسيح بـ125 عاماً "إن الذين تحدثوا بصدق عن الرقص قالوا أنه ظهر مع بداية الخلق، وأنه أقدم من الحب، وأكثر قدماً من الآلهة". لقد تقرب اليونانيون القدامى من آلهتهم، ففي الأساطير اليونانية كان يدعى الآلهة أبولو بـ"الراقص"، إضافة إلى صفاته الأخرى كإله الطب، والعمارة والموسيقى، والشعر. كما تفاعل اليونان مع إله الخمرة ديونيسوس، أو باخوس، عبر الرقص والغناء الملحمي الشعري والذي كان النواة الأولى لولادة المسرح بكافة أشكاله. ومنها تطور المسرح اليوناني ليتضمن التخصصات التي لا نزال نعرفها إلى اليوم وهي الكوميديا والتراجيديا والتراجيكوميديا. كما أصبح لكتاب المسرح أسماء لامعة ومعروفة وتعتبر مراجعاً لا يمكن تجاوزها إلى اليوم. ومن بين تلك الأسماء نجد أسخيليوس وسوفوكليس ويوريبيدس. ويعتبر الرقص عنصراً ضرورياً لاكتمال المشهد المسرحي لأن الرقص يعتبر أرقى أشكال التعبير حسب معتقد باخوس، لذلك حرص كتاب التراجيديا والكوميديا على تحريك نصوصهم فوق الركح عبر الرقص الذي يؤديه الكورس، والذي كان يختتم أغلب العروض التراجيدية برقصات تشبه سير المواكب على إيقاع لحن السير (المارش). وقد عرف عن عدد من رواد الكوميديا في اليونان القديم أنهم يعلّمون الرقص لكل من يريد تعلمه لارتباط الرقص بالطقس الديني والتقرب من الآلهة، وكذلك لتهذيب الذوق العام، ومن ذلك مثلاً الشاعر ثبسيس وبراتيناس وكراتينوس وفرينكوس وغيرهم من اللذين كانوا يلقبون بالراقصين. ويكفينا دليلاً، كما تؤكد أملين، أنه في سبارتا، وهي مقاطعة من اليونان قديماً، كان القانون العام يطالب الآباء والأمهات بتعليم أطفالهم للرقص ابتداء من 5 سنوات من العمر. 

قبل 3400 عام تقريباً، كتبت أول أغنية في التاريخ على لوح طيني حفرت فيه جمل مسمارية باللغة السومرية، وقد قرّب العلماء لحن تلك الأغنية، وعند سماعها فإن الاستنتاج الأولي كان أنها أغنية تدعوك إلى الرقص وقد كان الرقص معروفاً لدى سكان بلاد الرافدين القدامى، حتى أن فنونه وحركاته ومعانيه أصبحت ضمن الرموز اليومية لحياة السومريين في الزواج والحرب والشهوة وخاصة العبادات. وقد ورد في أسطورة الخلق السومرية "إنوما إليش" أنّ الآلهة "نمو"، والتي تعني "ماء الأم" أو "المياه الأولى التي انبثق عنها كل شيء"، كانت في البداية ساكنة لا تتحرك، وعندما تحركت ظهرت السماء والأرض، فهل رقصت؟ كما ورد في كتاب الباحث الهولندي ديوبولد فان دالين "تاريخ التربية البدنية"، أن السومريين كانوا يعتقدون أنّ الآلهة ترقص، فرقصوا لإرضائها واخترعوا لأجل ذلك أول قيثارة في التاريخ وهي القيثارة (السمسمية) السومرية أو "قيثارة أور" التي تعتبر من أقدم الآلات الموسيقية. وهنا صورة لآلة السمسمية التي عثر عليها في أحد قبور مدينة أور العراقية، تعود لسنة 2600 قبل الميلاد (من مجموعة المتحف  البريطاني). 

معاني الرقص الصوفي

من منا لا يعرف تلك الرقصة التي يتقنها الصوفيون من متتبعي الطريقة المولوية والقائمة على الدوران؟ ألا يعتقد الصوفيون وهم فرقة من المسلمين أن تلك الرقصة تقرب العبد من الله؟ الإجابة هي نعم. في البحث المعنون "الرقص الصوفي ورمزية الحركات الراقصة، المولوية أنموذجاً"، الذي نشرته مجلة مركز بابل للدراسات الإنسانية، يقدم مؤلفا المقال تفسيراً للحركات الراقصة عند الصوفية. ويبينان بأن مؤسس الطريقة التيجانية الجزائري أحمد التجاني، عبّر عنها في قوله: "اعلم أن أولياء الجن دورانهـم حـول الفعـل وسـر الفعـل ونـور الفعـل. والروحـانيون دورانهـم حــول الاســم وســر الاســم ونــور الاســم. والملائكــة دورانهــم حــول الصــفات وســر الصــفات ونــور الصفات. وأولياء الآدميين دورانهم حول الذات وسر الذات ونور الذات. وقد علم كل أناس مشـربهم. والآدمي أول مرتبة يطلع عليها في الكشف مرتبة الجن ثم يترقى الى الرابعة لا حرمنـا االله منهـا". ولرقصة المسلمين المتصوفين على الطريقة المولوية، التي سمية نسبة لجلال الدين الرومي الملقب بـ"مولانا"، معان محددة عند الدوران: فالبداية تكون برفع السبابة اليمنى وتعني التوحيد، ثم توضع كلتا اليدين فوق الرقص ومعنى ذلك فصل الذهن عن القلب والبدء في العلو والاستعداد للسفر، ثم تفتح الذراعان بشكل أفقي تلقياً لطاقة الكون ونور الإله، ثم رفع اليد اليمنى إلى السماء وتوجه كف اليد إليها وخفض اليسرى إلى الأرض وتوجيه الكف إليها أي تلقى قوة الخير من السماء ونشرها في الأرض. ثم مد اليدين بطريقة تشبه مد اليدين عند الدعاء وهو دعاء فعلي عند الرقص، ثم فتح الثوب العلوي بكلتا اليدين ويعني التحرر والتجرد من الذنوب، ثم مسك الجهة اليمنى من الثوب العلوي وإلصاقه في الوجه للتعبير عن طلب التوبة. ثم وضع كلتا اليدين فوق الجبهة وذلك لملئ النفس بجمال الكون، ثم وضع كلتا اليدين في شكل ضمة على الصدر وهو وعد لله بأن ينشر الخير والمحبة، ثم فتح اليدين وكشف الكفين كعتبير عن العودة إلى الأرض ونهاية السفرة.

كانت هذه أمثلة عن مكانة الرقص في الحضارات القديمة، ومنها ما بقي إلى يومنا هذا بكامل إفعامه الروحي والرمزي والحضاري. ولا يمكن بأي حال من الأحوال إنكار فعل الرقص كتعبير إنساني نبع من غريزة الحركة ليصل إلى أعلى مستويات الوجد وتأملات الروح واستكشاف المعنى، إن كنّا ننكر أن الرقص، بكل تسمياته وأشكاله ومعانيه، هو جزء حميمٌ من ثقافتنا، كيف يمكن أن نلغي كل هذا التاريخ الغني؟

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image