في سبتمبر/أيلول، عام 1260م (رمضان 658هـ)، وقعت معركة عين جالوت ما بين المماليك والمغول بالقرب من بيسان في أرض فلسطين. عين جالوت، كانت بلا شك من أهم المعارك التي وقعت في التاريخ الإسلامي، ولكن في الوقت نفسه، أحاطت بها هالات القداسة والتفخيم التي تم استخدامها عمداً لخدمة بعض الأنظمة السياسية الحديثة من جهة وللتوافق مع النظرة التراثية من جهة أخرى، مما يستوجب إعادة تفكيك بعض أحداث تلك المعركة وإعادة قراءتها وتحليلها لتقييمها بشكل صادق وموضوعي.
الطريق إلى عين جالوت
في القرن السادس الهجري، استطاعت قبائل المغول تكوين دولة عظيمة في عهد جنكيز خان، وبعد فترة قصيرة، استأنف المغول فتوحاتهم، وبات خان المغول الأعظم في قراقورم يُمني نفسه بضم البلاد الإسلامية الواقعة في منطقة الشرق الأدنى.محاربين مغول
ولما كان الأمير المغولي هولاكو، قد كُلف من قبل أخيه منكو خان، بالتوسع في تلك المنطقة تحديداً، فقد اجتاح إيران وقلاع الحشيشية الإسماعيلية في 1256م، ثم توغل غرباً ليستولي على بغداد عاصمة الخلافة العباسية، وفي 1260م استطاع أن يُخضع جزء كبير من بلاد الشام لسلطته المطلقة، وذلك بعدما استولى على مدينتي حلب ودمشق. الفتوحات السريعة التي أنجزها هولاكو في مدة لا تزيد عن الست أعوام، شجعته على استكمال الغزو ناحية فلسطين ومصر، حيث لم تبق هناك قوة اقليمية حقيقية تستطيع أن تقف أمامه، سوى القوة المملوكية في مصر.
رسمة من حصار المسلمين لعكا عام 1290م هو ذاته الذي مر منه قطز عام 1260م
هل الانتصار في عين جالوت كان حقاً معجزة؟
في إعادة تفكيك وقراءة أحداث معركة عين جالوت، تتضح المغالطات في قراءة التاريخ
ما علاقة الرئيس المصري عبد الناصر في مقولة أنّ المصريين هم من أوقف امتداد المغول في عين جالوت؟رجوع هولاكو للصين، لم يؤثر بالسلب فقط، من حيث فقد القائد المُلهم والمخطط العسكري البارع، ولكنه أثر بشكل أكبر على القوة العددية للجيش، لأن الأمير المغولي اصطحب معه الجزء الأكبر من جيشه، وترك قطعة صغيرة منه تحت إمرة نائبه كتبغا. ويذكر أبو الفرج ابن العبري في كتابه "مختصر تاريخ الدول"، أن عدد المقاتلين المغول الذين بقوا في الشام لم يزد عن 10 ألاف، بينما يُرجح الدكتور الباز العريني في كتابه المغول، أن يكون العدد قد تراوح ما بين 10 إلى 20 ألف مقاتل. ومن المؤكد أن ذلك العدد لم يكن حاضراً كله في عين جالوت، لأنه من المعروف أن كتبغا قد اضطر إلى إبقاء جزء من قواته في دمشق قُبيل خروجه منها، بعدما قام أهلها بثورة مفاجئة ضد السلطة الحاكمة، بحسب ما يذكر الدكتور محمود سعيد عمران في كتابه "المغول والأوربيون والصليبيون".
فرسان مماليك
هنا قد يثار سؤال بشأن أعداد المقاتلين في الجيش المسلم في عين جالوت، رغم أن المصادر التاريخية لم ترد بها أرقام دقيقة لأعداد المسلمين في المعركة، إلا أن هناك بعض الإشارات التي يُفهم منها ضخامة هذا الجيش، ففي كتاب "بدائع الزهور" لابن إياس الحنفي، وصف عدد المسلمين بأنه "ما لا يُحصى"، أما في كتاب "ذيل الروضتين" لأبي شامة المقدسي، فقد وصف بأنه "خلق عظيم". ويذهب الدكتور محمد فتحي الشاعر في كتابه "مصر قاهرة المغول"، إلى أن عدد المقاتلين المسلمين في المعركة كان في حدود 50 ألف جندي، وهو ما يعني زيادته عن عدد المغول بنحو الخمس أضعاف. غياب القائد وقلة العدد، لم يكونا العنصرين الوحيدين اللذين تسببا في هزيمة المغول، بل إن الجهل بطبوغرافية فلسطين وغياب الأدلة والمرشدين، تسببا أيضاً في ضياع المغول ونفاذ المؤن والمياه في جيشهم.
دولة المماليك (1250–1517)
على الجهة المقابلة، فإن الجيش المسلم لم يعاني من تلك الصعوبات بعد أن وافق حكام بيت المقدس الصليبيين على مروره في الأراضي الصليبية، وعلى إمداده بالمؤن والطعام والمياه التي يحتاجها، ومن هنا أتيحت الفرصة للمسلمين للوصول للمعركة بشكل أكثر راحة وسهولة من العدو المغولي. كل تلك العوامل، مثلت صعوبات كبرى أمام الجيش المغولي في المعركة، حتى أنّ ابن كثير في "البداية والنهاية" قد وصف حال كتبغا قبل المعركة بقوله: "ولما بلغه خروج المظفر بالعساكر من مصر تلوم في أمره وحار ماذا يفعل، ثم حملته نفسه الأبية على لقائه، وظن أنه منصور على جاري عادته".
حصار المغول لبغداد سنة 1258
هل المصريون هم من أوقف المغول؟
من الأمور الشائعة والمرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمعركة عين جالوت، القول بإن المصريين هم الذين انتصروا في المعركة، وأنهم هم وحدهم دون غيرهم من شعوب المنطقة، من استطاعوا أن يهزموا جيش المغول وأن يخلصوا العالم 'المتمدين' حينذاك من 'شرهم المستطير'. والحقيقة أن ذلك الرأي، ينطوي على عدد من المغالطات التاريخية الواضحة، ذلك أن الجيش الإسلامي الذي انتصر في عين جالوت، لم يكن من المصريين كما هو شائع، بل كان في حقيقة الأمر يتكون من فرسان المماليك بالإضافة إلى بقايا القوات الخوارزمية المنهزمة، وعدد من قطع الجيش الأيوبي في بلاد الشام. ومن المعروف أن أصول المماليك الأولى تركية، فمعظمهم تم استقدامه من بلاد أسيا الوسطى، والتي تعرف حاليا بالجمهوريات الإسلامية، وهي قرغيستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزباكستان وكازخستان. ولم تورد المصادر التاريخية، أن المصريين من أهل البلاد من غير المماليك، قد لعبوا أي دور في المعركة، حيث كان من المتعارف عليه في تلك الأوقات أنهم لا ينضمون للجيوش المقاتلة. وهنا نرى أن المماليك الذين عادة لا يعتبرون مصريين، في سردية هذه المعركة بالتحديد، يشار إليهم على أنهم مصريون. وتظهر في كتابات المؤرخين المعاصرين للمعركة، هذه الفكرة بشكل واضح، فهم لم ينسبوا النصر الذي تحقق للمصريين، بل نسبوه للأتراك؛ وفي ذلك يقول أبو شامة المقدسي "ومن العجائب أن التتار كُسروا بأبناء جنسهم من الترك". المغالطة الثانية، تتمثل في القول بإن المعركة قد وضعت حداً للتوغل المغولي "الوحشي"، ذلك لأنه من الثابت تاريخياً أن المغول استكملوا بعد عين جالوت مشاريعهم التوسعية في أسيا عندما اجتاحوا كوريا واليابان والهند وجنوب شرق أسيا، بالإضافة إلى أنهم طرقوا أبواب أوروبا وتدفقوا في بلاد المجر وبولندا وأجزاء من روسيا وأوكرانيا وليتوانيا وبلغاريا. وبحسب ما يذكر الدكتور سعيد عمران في كتابه "الصليبيون والمغول"، فقد استطاع المغول بعد المعركة أن يعقدوا عدداً من التحالفات المهمة مع الدول الأوروبية والبابوية، واعتنقت بعض قبائلهم المسيحية، بينما دخل معظمهم في الإسلام وارتبطوا بعلاقات وثيقة بدولة المماليك، وهو ما يعني أن معركة عين جالوت لم تقض على وجودهم كما هو شائع، بل إنها أسهمت في تغيير أفكارهم ومعتقداتهم وعملت على تثبيت حكمهم في الأراضي التي فتحوها وتأسيس دول قوية ومستقرة فيها.قد يخفى عن البعض بأن قبائل المغول بعد معركة عين جالوت اعتنقت المسيحية والإسلام، وارتبطت بعلاقات وثيقة بدولة المماليك
قطز: ظالم أم مظلوم؟
من المشاهد الخالدة التي حفظتها لنا الأعمال الأدبية التي تناولت معركة عين جالوت، مشهد قتل السلطان سيف الدين قطز على يد الأمير ركن الدين بيبرس، في طريق رجوعهما إلى مصر عقب انتهاء المعركة. المشهد الذي سالت دموع الكثير من القراء وقت قراءته في رواية "وا إسلاماه"، اختزل الكثير من الحقائق المتصلة بطبيعة دولة المماليك وشكل ونوع الحكم فيها. فمن المعروف أن المماليك ورغم التربية الإسلامية الحازمة التي نشؤوا وتربوا عليها في بلاطات ملوك بني أيوب، اتبعوا نموذجاً مختلفاً في التعامل مع الحكم اتسم بالنفعية، حيث لم يجدوا بأساً في الانقلاب على أسيادهم، فكانت تلك هي السمة المميزة لهم منذ ابتدأت دولتهم عقب اغتيال أمرائهم للسلطان توران شاه الأيوبي، ونهايةً بإنقلاب بعضهم على السلطان المملوكي الأخير طومان باي في موقعة الريدانية عام 1517م. قطز نفسه اشترك في الانقلاب على توران شاه، كما أنه هو الذي اغتال الأمير القوي فارس الدين أقطاي حتى يتيح الفرصة لأستاذه أيبك للتربع على دست السلطنة والملك. ولم يتردد بعدها في خلع المنصور ابن ايبك من الحكم، واعلان نفسه سلطاناً على البلاد عندما وجد الفرصة سانحة لذلك. كان النظام المملوكي في الحكم أكثر ليونة في التعامل مع التغيير، وكان مبدأه الرئيس هو الحكم لمن غلب، ورغم أن هذا الأمر لا تنكره المصادر التاريخية، إلا إنها حاولت التغافل عنه، والالتفاف عليه من خلال استدعاء بعض الصفات الشخصية الإيجابية في سبيل الحفاظ على قدسية ورمزية بعض الشخصيات التاريخية. على سبيل المثال، يذكر الذهبي في كتابه سير أعلام النبلاء، أن قطز ينحدر من أصول ملكية، وأنه كان وريث الأسرة الخوارزمية الحاكمة في بلاد ما وراء النهر؛ كما أن ابن كثير يصف بطل عين جالوت بقوله "كان رجلاً صالحاً كثير الصلاة في الجماعة، ولا يتعاطى المسكر ولا شيئاً مما يتعاطاه الملوك". وهكذا يتم تنحية التاريخ المتعدد الأحداث، ويتم استبداله بآخر أحادي السردية، يقدم على أنّه "مشرف" ليحفظ للبطل مكانته في الذاكرة الجمعية للمسلمين.رسمة لسقوط طرابلس عام 1289م
كيف حظيت المعركة بهذه المكانة في الثقافة الإسلامية المعاصرة؟
قد يتفاجأ الكثيرون إذا عرفوا أن معركة عين جالوت لم تحظَ بمكانة كبيرة في المصادر التاريخية القديمة، وأن معاصريها من المؤرخين لم يفردوا لها إلا عدداً قليلاً من الصفحات وسط مؤلفاتهم الضخمة الحجم. وهنا يظهر السؤال المُلح، عن التوقيت الذي احتلت فيه المعركة مكانتها الحالية في الثقافة الجمعية للمسلمين. في الحقيقة، يمكن أن نعين ذلك الوقت ببداية ستينيات القرن العشرين، ففي هذا الوقت تحديداً، كان المشروع الناصري يزداد توهجاً، وكان النظام الحاكم في مصر يبحث عن أية أفكار تزيد من شعور المصريين بهويتهم وانتمائهم القومي العربي ودورهم التاريخي في تشكيل مصائر المنطقة.ولما كانت السينما في ذلك الوقت أحد أهم الوسائل الإعلامية المتاحة، فقد تم استخدامها في سبيل تحقيق هذا الهدف، حيث ظهر فيلم "وا إسلاماه" الذي أُنتج في 1962م عن رواية بنفس الاسم للكاتب علي أحمد باكثير، وحوار للأديب يوسف السباعي الذي ينتمي فكرياً وتنظيمياً للضباط الأحرار، ورواية "وا إسلاماه" وهي من الأدبٌ التاريخي، تدرس حتى اليوم في المدارس الثانوية في مصر. واستطاع الفيلم أن يستحوذ على قدر كبير من الاهتمام، فتبعته عددٌ من الأعمال الدرامية الأخرى، التي أكدت على ما ورد به من رسائل تاريخية مغلوطة، ولعل من أبرز تلك الأعمال كان مسلسل الفرسان الذي عُرض على شاشات التلفزيون المصري في 1994م.لم تحظَ معركة عين جالوت بمكانة كبيرة في المصادر التاريخية المعاصرة لها، بل تمّ اختيارها أيّام عبد الناصر لتكون برهاناً على دور مصر في تشكيل مصائر المنطقة
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...