شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
مصر العثمانية: حكاية 300 سنة من عمر مصر، قلما نقرأ عنها

مصر العثمانية: حكاية 300 سنة من عمر مصر، قلما نقرأ عنها

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 1 نوفمبر 201807:14 م

يتناول المؤرخون في الغرب نظرية المركزية الأوروبية، وأن دول العالم العربي لم تعرف التنوير والحضارة في العصر الحديث إلا على يد الأوروبيين، وفي هذا الإطار تسابقت أقلام بعض المؤرخين في وصف العصر العثماني بالظلامية والجمود والانحدار. ورغم أن الحقبة العثمانية عرفت فترات صعبة، ولكن لا يعقل الادعاء أنّ مصر دخلت حالة من الجمود عقب الغزو العثماني إلى أن أتت مدافع نابليون لتوقظها عام 1798، وهي الجملة الأثيرة لدى التنويرين، فكيف يمكن لدولة بهذه الحيوية أن تخمدَ فجأة فلا نعرف عنها كلمة واحدة طيلة ثلاثة قرون من الزمن؟ ولماذا نميل للتركيز على الفترات التاريخية التي سبقتها وتلتها، ولكننا نستثنيها تماماً، وكأنها لم تكن؟

عاصمة التجارة من الشرق للغرب

في إطار الكشف عن تفاصيل مصر في الزمن العثماني، تأتي أهمية كتاب "مصر العثمانية والتحولات العالمية 1500-1800"، للمؤرخة المصرية نيللي حنا، الذي تستشهد به المقالة. في هذه الحقبة كانت مصر دون قناة السويس، ورغم ذلك كانت مصر هي نقطة انطلاق البضائع من الغرب إلى الشرق، حيث كانت السفن تصل إلى الموانئ المصرية على البحر المتوسط، ثم تسلك طريقاً برياً إلى شواطئ البحر الأحمر، لتكمل رحلتها البحرية إلى الجانب الشرقي من العالم والعكس صحيح، ورغم اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح على يد البرتغاليين إلا أن مركزية مصر وسط خارطة الاقتصاد العالمي لم تتأثر كثيراً. ومن هنا كان تأثير مصر ببقية العالم، فعلى سبيل المثال، قد لا يخطر ببال البعض أن الجلوس في المقهى ليس طقساً غربياً، وإنما هو نمط استمده الغرب من العرب. ففي بداية القرن السادس عشر أصبح احتساء القهوة وتشييد المقاهي وتأليف النوادي الأدبية والسياسية في تجمعات عبر المقاهي هي موضة العرب، وقد تأثر بها الغرب وقتذاك، سواء في تفضيل القهوة على المشروبات المنتشرة أو في عشق تجمعات المقاهي بالثقافة العربية، في حقبة ادعى بعض المؤرخين لاحقاً أنها لم تشهد تأثراً غربياً بالمشرق، ولأن اليمن وقتذاك كان المصدر الأول للقهوة في العالم أجمع، فإن تصديره إلى أمريكا وأوروبا عبر مصر، جعل تجار القاهرة يديرون صناعة البن على مستوى العالم.

المنسوجات المصرية تغزو العالم

كانت الزراعة المصرية في هذه الحقبة تمر بعصرها الذهبي، ما أثرى صناعة المنسوجات اليدوية من ملابس وسجاد وغيرها، وذلك قبل استخدام الآلة، وكانت أغلب الصناعات تدار يدوياً. وقد احتلت المنسوجات المصرية المرتبة الأولى من حيث الجودة، متفوقة على مثيلاتها في المصانع الإنجليزية والألمانية، وكانت حركة التصدير تذهب إلى أربع قارات: الأوروبية والآسيوية والإفريقية بالإضافة إلى القارة الأمريكية، قبل إعلان قيام الولايات المتحدة. امتازت المنسوجات المصرية بنوعيتها، ولم تكن تصميمات الملابس مصرية الطابع فحسب، بل كان كبار التجار المصريين يرسلون مندوبين بشكل دائم ليجوبوا آسيا وأوروبا لمعرفة أحدث صيحة في عالم الموضة، ثم يعود المندوب بالرسومات إلى مصر لتقوم الورش المصرية بتصنيع ملابس على أحدث ما وصل اليه الذوق في العواصم الأوروبية والآسيوية ما يسهل عملية الترويج والتسويق للمصنوعات المصرية حول العالم.

إن الأقاليم المصرية التي تشتكي اليوم من إهمال العاصمة، كانت في ذلك الزمن مراكز تجارية دولية، يجوبها بشكل يومي تجار أجانب للتعاقد على أحدث المنتجات النسيج المصري في حركة تصدير لا تهدأ، في زمن كانت التجارة فيه تنطلق من الجنوب للشمال وليس العكس، فكان مشهد الوفود التجارية الأجنبية في قنا وأسيوط ورشيد مشهداً مألوفاً ربما لا نعهده في مصر اليوم. وكان لكل محافظة مصرية زبونها الدولي، في المحلة كانت تصنع أشرعة السفن ومراكب الأسطول العثماني، بينما يجوب تجار سوريا وفلسطين ولبنان محافظات طنطا والفيوم، لضخ حركة تجارية ناشطة بين موانئ دمياط وموانئ الشام، أما التجار الفرنسيون فكانوا يزورون القاهرة من أجل ملابس يرسلونها للمستعمرات في الكاريبي، ومن قنا وأسيوط والفيوم، كان الفرنسيون يستوردون منتج اسمه "فوط" عرفوه من الحرفين المصريين. أما موانئ جمهورية البندقية الإيطالية، فكانت تضم مركزاً لاستيراد السجاد المملوكي المصري الذي ظل بهذا الاسم حتى بعد سقوط حكم المماليك، وكانت كافة قصور العثمانيين لا تفرش إلا بالسجاد المملوكي المصري، وكان هنالك تجار في البندقية لا يعملون إلا باستيراد السجاد المصري وبيعه في أوروبا. ومثلما كان المنتج المصري يذهب إلى السلاطين والنبلاء، كانت مصر قبلة الأوروبيين لشراء ملابس العبيد الرخيصة في مستعمرات الكاريبي، فكان التنوع في الجودة والمنتج من ملابس السلاطين إلى ملابس الفقراء مثاراً لإعجاب العالم.

وحينما أتت الحملة الفرنسية على مصر (1798-1801) قاموا بنقل نظام العمل اليومي في الورش المصرية إلى فرنسا باعتباره نظام عمل نموذجي، كما نقلوا تقنيات الحرفيين المصريين إلى فرنسا، فكانت تلك النظم والتقنيات واحدة من أركان الثورة الصناعية في أوروبا. وفي القرن الثامن عشر استبدل التجار المصريون عقوبة الفصل من العمل بلائحة من العقوبات المالية، ما يعني انتشار النقود في مصر خلال تلك الفترة بين العامة بشكل مبكر مقارنة بكافة الولايات العثمانية، وتشير حنا إلى أن هذا النظام التجاري أنتج طبقة من كبار الأثرياء والأعيان في القاهرة ودمياط.

كيف مهدت التجربة الاقتصادية المصرية في مصر خلال الفترة العثمانية، لظهور الثورة الصناعية الأولى؟
ازدهرت مع الحركة الأدبية المصر، في الحقبة العثمانية، اللغة العربية الوسطى التي استخدمت العامية والفصحى
نظرة على الحياة الأدبية والتجارية والاجتماعية الغنية لمصر تفنّد نظرية جمودها وغفوتها خلال الحقبة العثمانية

مهد الرأسمالية والثورة الصناعية

وعلى ضوء هذه الحقائق كتب البروفيسور بيتر جران Peter Gran في كتابه "الجذور الإسلامية للرأسمالية.. مصر ما بين عامي 1760 و1840" (عام 1979)، أن مصر شاركت في تشكيل المنظومة الرأسمالية والصناعية وأنماط التجارة والاستهلاك وعززت أهمية النقود والنظم المصرفية الناشئة حول العالم وقتذاك، وأنّ التقنيات التي استخدمها الحرفيون المصريون كانت ركناً هاماً في تكنولوجيا الثورة الصناعية، ما يجعل مصر من أهم الدول التي مهدت للرأسمالية. أكد المؤرخ الاقتصادي الهولندي جان دي فريز Jan De Vries في كتابه "الثورة الصناعية: سلوك المستهلك والاقتصاد المنزلي، 1650 حتى الوقت الحاضر"، الصادر عن جامعة كامبردج عام 2008، أنّ التجربة الاقتصادية المصرية في زمن المماليك والعثمانيين تعتبر من أهم مظاهر "ثورة تكثيف الإنتاج" التي مهدت لقيام الثورة الصناعية الأولى، مشيراً إلى أن العمل والإنتاج اليدوي من المنزل في الريف المصري كان أول من وضع عملية الإنتاج المنزلي على خارطة الصناعة الوطنية.

تطور أدب العامية

ترصد نيللي حنا الحركة الأدبية المصرية في سنوات العثمانية، التي لم تكن جثة هامدة، بل تميزت المرحلة الأدبية باستخدام العامية، وهو ما استمر في الحياة الأدبية المصرية، ثم الصحفية، حتى أتت حركة إحياء اللغة الفصحى نهاية القرن التاسع عشر، وقامت بالتقليل من شأن منجزات الحركة الأدبية في مصر العثمانية، باعتبارها منتج باللغة العربية الوسطى، التي اعتمدت استخدام العامية والفصحى معاً، واعتبرت حركة إحياء الفصحى أن الحركة الأدبية في هذا العصر لم تقدم أدباً أصيلاً.

ما يعني أن من حمل مشاعل التنوير في مصر نهاية القرن التاسع عشر والقرن العشرين قام بإقصاء وتنفيذ ما يشبه "محاكم تفتيش" أدبية حيال 300 عام على الأقل من عمر الحركة الأدبية المصرية، وتمّ تفريغها من مضمونها دون داع. وقد غيب التنويريون عمداً معلومة أن ما جرى في مصر جرى أيضاً في إنجلترا و فرنسا في هذا الزمان، حيث انتشرت العامية في الحقل الأدبي والمراسلات الرسمية، فسارعت سلطات كل دولة أوروبية بفرض نسخة من اللغة في التعليم والمراسلات والكتابة، فاعتمدت فرنسا النسخة الباريسية من اللغة الفرنسية، واعتمدت إنجلترا إنجليزية أهل لندن، وهكذا ولدت النسخ الحالية من اللغات الأوروبية.  في تلك السنوات جرى للمرة الأولى تدوين نوادر جحا بعد أن ظلت رواية شعبية، ولولا هذا التدوين لفقدنا أصول هذه القصص، وفى مجال الشعر كان الشاعر الأزهري حسن البدري الحجازي حاضراً بالإضافة إلى يوسف الشربيني ومحمد حسين أبو ذاكر، وانتشر في هذه الحقبة الدعوة لتدوين تاريخ مصر دون باقي الأقطار العربية حيث برع المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي (1753-1825)، كما برع والده حسن الجبرتي في علوم الرياضات والفلسفة والفلك. وأقام في مصر عالم اللغويات العراقي مرتضى الزبيدي (1732-1790) طيلة عمره، ووضع موسوعة "تاج العروس من جواهر القاموس" في 18 مجلداً، و"إتحاف السادة المتقين في شرح إحياء علوم الدين للغزالي" في 10 مجلدات، حتى وصفه عبد الرحمن الكزبري من كبار شيوخ الشام بأنه "إمام المسندين وخاتمة المحدثين". وفى مجال الإصلاح الديني ظهر الشيخ ابن نجيم المصري الحنفي (زين الدين بن إبراهيم بن محمد) المتوفي عام 1563، من فقهاء المذهب الحنفي الذي شدد على أنّ العرف السائد في كل دولة على حدة، يدخل في الشرع، وأوضح أصول هذا التشريع من السنة المحمدية. ومن آثاره، كتاب "البحر الرائق شرح كنز الدقائق" في ثماني مجلدات، وكان الإرث الديني والعلمي لابن النجيم المصري من أهم ركائز فقيه الديار الشامية ابن عابدين الدمشقي (1784-1836) في تفنيده التاريخي للإمام محمد بن عبد الوهاب والحركة الوهابية المؤسسة للدول السعودية، والتي لا تزال مرجعية للعديد من دول وحركات الإسلام السياسي اليوم.

الحراك الصوفي

شكل انهيار الخلافة العباسية عام 1258م اندثار نموذج الخليفة مؤقتاً، إلى أن قام العثمانيون بإحياء هذا النظام لاحقاً وإن استمر في القاهرة بشكل صوري، وعلى أثره انتشرت ظاهرة الأولياء المحليين وأغلبهم من التيار الصوفي، وكان لمصر النصيب الأكبر من ذلك الحراك الصوفي، حيث انتشر هؤلاء الاولياء في الصعيد والدلتا والقاهرة والإسكندرية على حد سواء، مثل عمر بن الفارض وإبراهيم الدسوقي واحمد البدوي وأبو الحسن الشاذلي وأبو الحجاج الاقصري.

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image