لم يقتصر دور النقود عند الحكام العرب في العصور الإسلامية على الجانب الاقتصادي فقط، فقد كان لها وظيفة إعلامية تمثلت في الترويج لشرعية الحاكم، ودعم صورته وسلطته.
"السنوات الأولى من تاريخ الدولة الإسلامية في المدينة المنورة لم تشهد سك عملات لعدم وجود كيان اقتصادي قوي أو مؤسسي"، حسبما يشير الباحث في علم الآثار محمد مندور في حديثه لرصيف22، و"في عهد عبد الملك بن مروان بدأ سك النقود لتأخذ شكلها الأموي الإسلامي".
الأمويون والعباسيون والترويج للمذهب السني
يمكن اعتبار النقود إحدى الشارات الثلاث للحكم، كما قال الدكتور رأفت النبراوي، أستاذ الآثار الإسلامية، لرصيف22. "إن أي حاكم عندما كان يتولى الحكم كان غالباً ما يقوم بأمور ثلاثة: تغيير النقش على النقود، وفرض الدعاء له في خطبة الجمعة، [وفي بعض الأحيان] نسج اسمه على المنسوجات والملابس. كما نرى أن الحاكم يقوم باتخاذ لقب يميزه عمن سبقه حال توليه الحكم، كالناصر لدين الله، أو المتوكل على الله، أو المعتز بالله". كما كانت تحمل النقود مضامين دينية، وكانت بذلك وسيلة للدعاية للمذهب الديني الذي يعتنقه الحاكم والمحكومون معاً: فنرى نقوداً من التاريخ الإسلامي تحمل نقوشاً مثل: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له محمد رسول الله"، و"هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون".الفاطميون والمذهب الشيعي
عبّرت النقود خلال عصور بعينها عن عقيدة الحاكم دون المحكومين. قال النبراوي إنه في العصر الفاطمي كان الحكام يعتنقون مذهب الإسماعيلية الشيعي، بينما كان يعتنق رعاياهم المذهب السني. وتجدر الإشارة إلى أن ذلك كان استثنائياً، ولا يزال من الأسئلة العالقة: لماذا لم يحاول الفاطميون التأثير في عقيدة رعاياهم؟ في العصر الفاطمي، ضُربت النقود وعليها شعارات شيعية مثل "علي ولي الله" في عهد الخليفة المنصور، و"علي أفضل الوصيين ووزير خير المرسلين"، و"علي خير ولي لله"، و"علي نائب الفضول وزوج الزهراء البتول"، في عهد الخليفة المعز لدين الله، و"علي خير صفوة الله" في عهد الخليفة العزيز، وفي عهد الحاكم أصبح شعار "علي ولي الله" شعاراً عاماً على النقود الفاطمية.أحياناً كانت النقود تعبر عن عقيدة الشعب دون المحكومين، فالمغول الذين حكموا العراق وإيران نقشوا على النقود شعارات سنية أو شيعية وفقاً لعقيدة معظم سكان البلد، حسبما أشار النبراوي.
أسماء الخلفاء الراشدين
ظهور أسماء الخلفاء الراشدين على النقود في فترات تاريخية معينة كان يمثل علامة على أن الحاكم يعتنق مذهب أهل السنة والجماعة. ويقول مندور إن هذه الأسماء نقشت في بداية القرن الثامن الهجري (أي الرابع عشر الميلادي) على نقود حكام الدول في شرق العالم الإسلامي، فظهرت على نقود ملوك المغول منذ عهد أولجايتو وحتى سقوط الدولة المغولية، ثم ظهرت على نقود الدول المختلفة التي قامت على أنقاض الدولة المغولية، مثل الدولة الجلائرية والمظفرية، والدولة التيمورية.كما ظهرت الأسماء الأربعة على نقود الدول الإسلامية في الهند منذ عهد دولة بني تغلق في عهد السلطان محمد بن تغلق، وحتى عهد دولة أباطرة المغول، إذ نقشت على جانب كبير من نقود الإمبراطور جلال الدين محمد أكبر، حسبما قال مندور.
كانت النقود في العصور الإسلامية الوسيطة من أهم وسائل الدعاية والترويج لصورة الحكام
نقود الخوارج
ظهرت الخوارج كفرقة دينية وسياسية على مسرح الأحداث في موقعة صفين سنة 37 هـ/657 م، بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، حين رفضوا مبدأ التحكيم بين الفريقين، ثم انقسم الخوارج بعد ذلك إلى العديد من الفرق التي اختلفت في آرائها، وقام أتباعها بعدد من الثورات والحركات الانفصالية في شرق العالم الإسلامي وغربه.يذكر الدكتور عاطف منصور أستاذ الآثار الإسلامية، في كتابه "النقود الإسلامية ودورها في دراسة التاريخ والآثار والحضارة الإسلامية"، أن فرق الخوارج حرصت على استخدام النقود للإعلان عن مذهبهم بنقش شعاراته العامة على تلك النقود. ويستعرض منصور عدداً من هذه الفرق وشعارات نقودهم:
الأزارقة
تنسب إلى نافع بن الأزرق بن قيس الحنفي، ونشطت إبان العصر الأموي ونجحت في بلورة كيان سياسي لها في شرق العالم الإسلامي (الأهواز) بعد البيعة لقطري بن الفجاءة، عند وفاة زعيمهم الزبير بن الماحوز سنة 68 هـ/ 685 م.أعلن بن الفجاءة نفسه خليفة وأميراً للمؤمنين، وأدرك أهمية النقود كمظهر من مظاهر الحكم والسيادة، فأصدرها باسمه وسجل عليها شعار الخوارج "لا حكم إلا لله" و"قطري أمير المؤمنين"، وظلت هذه النقود تسك في الأقاليم الشرقية من العالم الإسلامي حتى سنة 77 هـ/ 696 م، على يدي الخليفة المرواني عبد الملك بن مروان.
العطوية
تنسب إلى عطية بن الأسود الحنفي، الذي ثار ضد الأمويين سنة 77 هـ/ 696 م، أثناء الفتنة التي عمت أرجاء الخلافة الأموية، ولكن في العام نفسه قاد الأموي المهلب بن أبي صفرة جيشاً لقتال عطية في سجستان (تقع الآن شرق إيران) وقضى على ثورته.لجأ عطية إلى النقود للتعبير عن فرقته، وسك الدراهم في كرمان وعليها اسمه وشعار فرقته "بسم الله ولي الأمر"، ليميزها عن فرقة الأزارقة التي سبق أن انشق عنها.
الشراة (الحرورية) - الصفرية
حين ضعفت الدولة الأموية نشط الخوارج مرة أخرى، وثار منهم رجل يدعى سعيد بن بهدل الشيباني (نعته المؤرخون بالحروري) ومعه مائتا رجل، كان منهم الضحاك بن قيس الشيباني، الذي بايعه الشراة (إحدى فرق الخوارج)، وانضمت إليه الصفرية (فرقة من الخوارج)، فتمكن الضحاك من الاستيلاء على الكوفة والموصل.وقام الشيباني بسك الدراهم في الكوفة سنة 128 هـ/764 م، وعليها شعار الخوارج "لا حكم إلا لله"، ولم يسجل شعاراً خاصاً بفرقته قاصداً بذلك جذب كل فرق الخوارج إلى ثورته، وهو ما نجح فيه إذ انضمت إليه الصفرية.
الإباضية
سكّت هذه الفرقة نقودها في عمان في عهد الإمام غسان بن عبد الله (192 - 208 هـ/ 807 - 834 هـ) وعليها شعار الخوارج "لا حكم إلا لله"، سنة 143 هـ/ 760 م، وكانت من الفضة وخفيفة الوزن، ولم يكن عليها اسم الحاكم، وربما كان ذلك بقصد إعطائها مزيداً من الفاعلية لفترات طويلة، أو الدعاية للمذهب الديني فقط.النكارية
من فرق الخوارج التي انشقت عن الإباضية في بلاد المغرب عام 171 هـ/787 م، وكانت تميل إلى العنف والمغالاة في آرائها، ومن أبرز مشايخها أبو يزيد مخلد بن كيداد الذي ثار ضد الفاطميين عام 316 هـ/928 م، وحقق انتصارات عليهم حتى سيطر على القيروان، إلا أنه طرد منها على يد الخليفة الفاطمي المنصور بالله، الذي تمكن من قتل يزيد سنة 336 هـ/948 م، لتنتهي بذلك ثورته.حملت نقود أبي زيد الشعارات الخاصة بمذهب الخوارج ومبادئ ثورته مثل شعار "ربنا الله الحق المبين"، والذي يمثل دعوته إلى عبادة الله والبعد عن عقيدة الشيعة، وشعار "لا حكم إلا لله" كإعلان عن مذهب الخوارج الذي يعتنقه في مواجهة الشعارات الشيعية التي أعلنها الفاطميون على نقودهم.ماذا تقول لنا النقود عن الصراعات التي خاضها الحكام الذين سكوها؟
وسجل أبو يزيد على نقوده الاقتباس القرآني من سورة الأعراف "فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون"، مشبهاً أتباعه بالصحابة في مساندتهم ومؤازرتهم للرسول. ويؤكد هذه الدلالة ما سجله من شعارات مشابهة على النقود ومنها الآية 14 من سورة التوبة: "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم"، والآية 40 من السورة نفسها: "إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا"، وفي هذا الشعار يشبّه أبو زيد نفسه بالرسول وصاحبه أبو عمار الأعمى بأبي بكر الصديق، كما نقش شعاراً آخر "فقاتلوا أئمة الكفر".
العلويون والحق المسلوب
وذكر منصور أن النقود لعبت دوراً في التعبير عن أفكار العلويين على اختلاف نسبهم إلى الإمام علي، وعلى اختلاف المكان الذي قامت فيه دولهم، أو قاموا فيه بثوراتهم أو حركاتهم الانفصالية، إذ حرصوا على استخدام النقود للتأكيد على أن الخلافة هي حقهم الذي سلبه منهم الأمويون والعباسيون، ولإظهار الظلم الذي لاقوه في سبيل وصولهم إلى "حقهم المسلوب"، كما أكدوا انتسابهم إلى آل بيت الرسول تدعيماً لفكرتهم وحقهم في الخلافة والإمامة.الآيات القرآنية والشعارات التي نقشها الحكام المسلمون على عملاتهم تقول الكثير عن مظاهر حكمهم
وقد تشابهت الشعارات التي ظهرت على نقود العلويين رغم اختلاف مكانها وزمان سكها. وكان أهم الاقتباسات القرآنية على النقود من سورة الإسراء "جاء الحق وزهق الباطل"؛ ومن سورة الشورى "قل لا أسألكم عليه أجراً"؛ وكذلك من سورة الأحزاب "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس"؛ ومن سورة الحج "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا"؛ وأخيراً من سورة المائدة "إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا".
ومن الشعارات التي ظهرت على نقود العلويين أيضاً عبارات "الله أحد أحد" و"أحد أحد" و"الله حق ناصر الحق المبين"؛ كما نقشت ألقاب مثل "الداعي إلى الحق" و"الهادي إلى الحق" و"الناصر للحق" و"ابن رسول الله" و"ولد سيد المرسلين" و"الشريف النبوي" و"القائم بأمر الله" و"الحسني" و"الشريف"؛ حسبما أضاف منصور.
روجّت النقود لمبادئ مذهب التوحيد لمحمد بن عبد الله المعروف بـ"ابن تومرت" (ولد بين عامي 471 هـ/1078 م و474 هـ/1081 م، وتوفي عام 524 هـ/1130 م)، وحملت نقود دولة الموحدين التي قامت في بلاد المغرب والأندلس على أساس دعوة ملهمها ابن تومرت ومذهبه شعارات "مهدي الدين الذي بشر به رسول الله" وهي عبارة تشير الى الفكرة التي حاول بن تومرت ترسيخها فى نفوس أتباعه بأنه المهدي المعصوم الذي بشر به الرسول، والذي يملأ الدنيا عدلاً.
كما نقشت على النقود اسم المهدي وألقابه ومنها "المهدي إمام الأمة" و"المهدي إمامنا"، وكذلك الآية من سورة البقرة "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" والتي تمثل الأساس الذي قام عليه مذهب التوحيد.
وهنا تجدر الإشارة إلى آخر دراسة عن الموحدين للباحثة الإسبانية ماريبل فييرو، قدمتها في محاضرة ألقتها في جامعة هارفرد الأمريكية الأسبوع الماضي، تناولت موضوع العملة التي سكها الموحدون، وأشارت إلى أنّ اعتمادهم الشكل "المربع" في وسطها كان خطوة "عبقرية"، إذ أعلنت بداية عهد سياسي جديد بتغيير بسيط، في عملتهم وعمارتهم، فغدا شكل المربع، منمقاً أو مبسطاً، تأكيداً على سلطتهم وشرعيتهم.
مصادر: "النقود الإسلامية ودورها في دراسة التاريخ والآثار والحضارة الإسلامية" للدكتور عاطف منصور، ومقالة "The Monetary Reforms of 'Abd al-Malik" في مجلة التاريخ الإقتصادي والإجتماعي للشرق (JESHO) لغريرسون، وأبحاث د. ماريبل فيرو.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...