"حين تركوني في إحدى غرف العمليات فكرت في كتابة رواية جديدة، الموت لا يخيفني، لكنني أخاف أن أفقد الناس، لم أكتب وصية، فليس لدي أموال أورثها لأبنائي، أنا رجل ولدت وكبرت وعشت وسأموت وأنا منتمٍ للطبقة المتوسطة".
هكذا كتب محفوظ عبد الرحمن الفصل الأخير من مشهد رحيله عن عالمنا، مطفئاً بغيابه شعلة جديدة من أنوار الإبداع الفني في مصر والعالم العربي.
قال لها "مبكبرش أدوار لحد" فاختارته شريكاً لحياتها
كانت الفنانة القديرة سميرة عبدالعزيز عضواً في المكتب الفني للمسرح القومي، حينها تم إيفادها لحضور وتقييم مسرحية "حفلة على الخازوق" لفرقة الكويت، قبل عرضها على المسرح القومي، فأعجبت بها وسألت عن مؤلفها، محفوظ عبدالرحمن، لكنه كان موجوداً في الكويت حينها. وفي مسلسل "عنترة" الذي كانت تمثل فيه كان الكاتب هو المؤلف نفسه، فسألت عنه مجدداً، فقيل لها إنه في الكويت أيضاً. في المرة الثالثة، عرض المخرج عباس أرناؤوط على سميرة دوراً في مسلسل "الفاتح"، فوجدته صغيراة فاعتذرت عن عدم المشاركة، إلا أنه أكد تمسكه بها، عارضاً عليها مقابلة المؤلف لتكبير مساحة دورها، لتفاجأ بأنه هو نفسه كاتب العملين السابقين، فبادرته بالسؤال: "حفلة على الخازوق تديها للكويت ومتديهاش لمصر"، واشتد هجومها عليه، ليرد بأن الرقابة رفضت عرضها في مصر، فاعتذرت له على سوء فهمها، وطلبت منه تكبير دورها في المسلسل، ليجيبها بحدة "أنا مبكبرش أدوار لحد". وفي العمل الرابع الذي جمعهما كان محفوظ موجوداً أثناء التصوير، فتبادلا الحديث ووجدت منه احتراماً كبيراً للفن والمرأة في كلامه وأعماله، لتبدأ بعدها قصة الإعجاب ثم الارتباط فالزواج، ولم يستطع الموت قطع أواصرها. هذا هو ملخص الحكاية كما ترويها سميرة عبدالعزيز لرصيف22. مفتاح شخصية الكاتب الراحل تكشف عنه زوجته، قائلة: "محفوظ كان شخصاً نبيلاً جداً، لا يقبل أي تنازلات في عمله لضغوط مادية أو إعلانية أو لغرض الشهرة، أو حتى في سلوكه الشخصي، فإذا قابله شخص بعدم احترام يقطع علاقته به فوراً مهما كانت لديه مصلحة معه، في إحدى المرات تعاقد على كتابة عمل كويتي عن إحدى الشخصيات بثمن باهظ، وجلس وحده في شقة في الإسكندرية للانتهاء منه. فكانت عادته أن ينفصل عن الأسرة حين يشرع في كتابة عمل جديد للانفراد مع الشخوص الذين يكتب عنها، وحين زرته بعد 15 يوماً وجدته يبكي، وقال لي: (لو عندك فلوس تكملي المبلغ اللي أخدته، رجعيه وقوليلهم إني مش هكتبه)، إذ كان يحرص على عدم اختيار أي عمل إلا عن اقتناع به وإيمان بأنه سيضيف للفن والمجتمع بشكل عام". كان محفوظ في أشد حالات مرضه يفكر في إضافة جديد لما يتبقى من حياته، لكنه هذه المرة لم يكن كذلك، ولم يشعر بالنكسة الأخيرة التي أصابته إلا حين وجد نفسه فاقداً الحركة بيده اليسرى، فرفض الأكل، وأغلق فمه رافضاً شرب نقطة مياه، ما دفع الأطباء إلى وضعه على جهاز تنفس صناعي، إلا أنه فضل البقاء في حالة عدم وعي لا يتحدث إلى أي شخص، إلى أن توفي أمام عيني زوجته، التي تشعر براحة الضمير أنها لم تترك رفيق عمرها ثانية واحدة، بل تتمنى لو أفدته بحياتها ليواصل التنفس إبداعاً."ألف باء وطن"، لنحكي التاريخ فناً
الكثير منا استمتع بإبداعات محفوظ عبدالرحمن في "بوابة الحلواني" و"أم كلثوم" و"ناصر 56"، وغيرها، لكننا لم نكن نعرف كيف وصلت إلينا بهذا المستوى المميز والدقيق والجاذب للانتباه. وعن هذا تؤكد سميرة أنها نفسها لم تستطع الاقتراب من أي شيء يتعلق بشغفه بعمله واعتداده بنفسه، فتحكي أنها ذات مرة كانت تقلب في أحد أعماله قبل أن يقارب على الانتهاء منه، فغضب منها، قائلاً: "لا تقتربي من أوراقي، إلا إذا أعطيتك إياها"، إلى أن اعتادت الأمر، فكان عندما ينتهي مما يكتب يطلب منها قراءته وترقيمه، فلم يكن يستهوي ترقيم أعماله. ويشرح المخرج حسني صالح، الذي لم يمهله القدر لإخراج جزء جديد من بوابة الحلواني بسبب أزمة محفوظ الصحية، أن كاتبنا الراحل كان مثقفاً إلى درجة بعيدة، فلا يكاد يمر عليه مرجع بأي لغة دون أن يقرأه من أوله إلى آخره، كما كان دقيقاً في جميع أعماله، يهتم دائماً بصغائر التفاصيل بشكل أكبر من الملامح الظاهرة، كان يرى أن هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تكفل نجاح الأعمال الكبيرة. وبحسب صالح، في حديثه لرصيف 22، كانت اختيارات الكتابة لدى محفوظ عبدالرحمن "ألف باء وطن"، فلابد أن تستند إلى المراحل الحاسمة في تاريخ الأمة المصرية والعربية، بينما لم يقم طوال حياته بكتابة عمل عن شخصية ما بناءً على الطلب، مهما كانت الإغراءات، حتى حين عاش خارج مصر كانت اختياراته وطنية حتى النخاع، كما أن مراحل إبداعه كمفكر جعلته دائماً يربط الأمور والأحداث بعضها ببعض لقيادة المشاهد إلى التوقع السليم للأحداث. ويرى وليد أبو السعود، الصحفي في قسم الفن بجريدة "الشروق" المصرية، أن هناك دائماً شخصاً متخصصاً في التدقيق والبحث والأبعاد المختلفة للشخصيات، وهو ما يظهر دائماً في نتاج علمه، وهذا كان حال محفوظ عبدالرحمن، فهو أكثر من مجرد سيناريست كبير، بل يمكن أن يوصف بأنه "جبرتي الدراما" لاطلاعه الواسع وثقافته الكبيرة، فمثلما عبر أسامة أنور عكاشة عن مصر مجتمعياً، صاغها الأول تاريخياً. ويضيف لرصيف22: "حين ننظر إلى أعمال الكاتب الراحل، وعلى رأسها حليم، وناصر 56، وأم كلثوم، وبوابة الحلواني، وحتى أعماله العربية لمخرجين غير مصريين، نجد أنه لم يكن فقط باحثاً مهتماً بالشأن والتاريخ المصري، فلا أحد يستطيع إغفال الحس العروبي الطاغي في معظم أعماله، معتمداً في ذلك على خلفيته القومية، وحصيلته الوفيرة من خلال عمله في وزارة الثقافة". والكاتب الراحل أيضاً، بحسب أبو السعود، كان باحثاً موسوعياً ومطلعاً بشكل كبير، ولم يكن مهتماً بإبراز شخصية بطل العمل وإهمال تأثير الأدوار الأخرى في السياق، بل كان يحرص على إبراز جميع التفاصيل. ففي مسلسل "أم كلثوم" على سبيل المثال، كان الكثيرون مرتبطين بشخصيات القصبجي "أحمد راتب"، وأحمد رامي "كمال أبو رية"، وفكري أباظة "توفيق عبدالحميد"، وزكريا أحمد "محمد كامل"، بسبب أدوارهم المحورية في العمل، على الرغم من قلة المساحات المخصصة لهم في المشاهد.أن يكون التواصل الإنساني أهم من عملكم نفسه
قبل أن يكون محفوظ كاتباً كبيراً، كان حريصاً على أن يكون صديقاً وأخاً أكبر، وهكذا كان يراه المدير السابق للمسرح القومي الفنان توفيق عبدالحميد. مؤكداً أن العلاقات الإنسانية التي جمعتهما كانت مليئة بالمحبة والود والاحترام، كما كان الكاتب الراحل شديد التواضع يمكن أن يلجأ إليه الجميع في أي مشورة أو نصيحة، وهو أيضاً شديد الدفء والإنسانية والبساطة، لا تشعر وأنت تتحدث معه أنه يخاطبك بأي نوع من الكبر، على الرغم من قامته الفنية البارزة. ويرى عبدالحميد، الذي اجتمع بعبدالرحمن في مسلسلي "أم كلثوم" و"بوابة الحلواني"، لرصيف22، أن المؤلف الراحل كان كاتباً كبيراً على مستوى الوطن العربي وليس على مستوى مصر فقط، خصوصاً مع تميزه في منطقة منحته الكثير من الخصوصية، بأخذه من منهل التاريخ وإضفاء الحس الدرامي عليه بتفاصيل مشوقة تبتعد عن الملل المعروف عن مثل هذه الأعمال. موقف مشابه يحكيه، وليد أبو السعود، حين اتصل بعبدالرحمن لاستضافته في أحد البرامج الفضائية، للاحتفاء بـ"بوابة الحلواني"، فلم يكن متحمساً في البداية واعتذر عن عدم الحضور، إلا أنه حين تناقش معه في تفاصيل المسلسل واطمأن إلى معرفته به وافق على الحضور، على الرغم من ظروفه الصحية حينها، بل لم يسأل عما إذا كانت مخصصة له ميزانية على غرار غيره من الضيوف، إنما كان شديد الإلحاح في السؤال عن الفكر ونظرة الآخرين إلى أعماله وقراءتهم لها. هناك عدة مواقف أخرى تكشف أيضاً مفاتيح شخصية "حلواني الدراما المصرية"، ومنها حديثه لمعظم المحيطين به في المجال، ومنهم أبو السعود، بالحرص على فكرة التواصل بعيداً عن سياق العمل، مؤكداً أن الحياة الإنسانية أهم كثيراً من هذا الإطار، وهذا ما كان ظاهراً حتى في جدران منزله الذي كان بمثابة ساحة حراك ثقافي تستقطب غالبية الفنانين والمبدعين.في عصر "سيناريست الكشكول"... من يعوض أوتاد خيمة الإبداع؟
في سينما "كوزموس" كان الكبار والشباب يتكدسون في قاعة العرض لمشاهدة "ناصر 56"، ومن بينهم هشام أصلان، المدير الحالي لمجلة "إبداع" الثقافية، ونجل الأديب الراحل إبراهيم أصلان، الذي يرصد المشهد لرصيف22، قائلاً: "كنا في فترة المراهقة، ولم نكن نهتم كثيراً بالسياسة أو نعرف الكثير عن قناة السويس وتأميمها، لكن جذبنا الأداء المميز لأحمد زكي الذي بدا أنه يقارب شخصية عبدالناصر بشكل كبير، بعدها عرفنا أن كاتب العمل كان محفوظ عبدالرحمن". ويؤكد أصلان أن أعمال عبدالرحمن في هذه الفترة كانت ركناً بارزاً في وجدان جيل الثمانينات وأوائل التسعينات، فساهمت بشكل كبير في تنشئة هذا الجيل على قدر كبير من الإبداع والثقافة، التي باتت مفتقدة إلى حد كبير في هذه الأيام، سوى من بعض الاستثناءات. "برحيل عبدالرحمن، فقدت خيمة الإبداع المصري والعربي وتداً ليس بإمكاننا تعويضه، فلم يعد لدينا الكثير من المهتمين بالكتابة عن التاريخ بنفس الاهتمام والشغف والإنصاف أيضاً"، هكذا يرى أبو السعود المستقبل في هذا المجال. ويشير أبو السعود إلى أن الدولة عندما تنتج أعمالاً لم تكن تبحث عن الربح والخسارة، بل كانت غايتها أن تدوم هذه الأعمال طويلاً، وهذا ما كان يكفل لها أيضاً الربحين المادي والمعنوي، إلا أن الأزمة التي نعاني منها حالياً انسحبت على المؤلفين أنفسهم، فلم نعد نجد موضوعاً ذا فكرة أصيلة، بل بات الجميع يبحث عن "الإفيه" الذي يستقطب أكبر عدد من الجمهور، ما يصعب التنبؤ بمستقبل هذه الصناعة في ظل المعطيات الحالية. وما يعزز الأزمة حالياً أننا انتقلنا من ثقافة "سيناريست المنطقة" إلى "سيناريست الكشكول"، فبات الجميع يرغب في الكتابة في جميع المجالات حتى في المجالات التي لا يملك دراية بها، وهذا خطأ كبير. فكل من وحيد حامد، وأسامة أنور عكاشة، ومحفوظ عبدالرحمن، ويسري الجندي، وبشير الديك، وغيرهم، له مذاقه الخاص، وإن كانوا يكتبون في المنطقة نفسها، أما الآن فلم نعد نعرف هوية كتّاب الأعمال إلا عندما نرى أسماءهم في التترات، لعدم وجود شخصية واضحة لكل منهم، سوى في استثناءات قليلة. ويتابع: "الأعمال التي تراهن على المشاعر والعقل أصبحت قليلة، حتى حين يركز أحدها على مخاطبة العقل، نجده أشبه بلعبة السودوكو، بمجرد حل لغزه يفقد تدفقه الدرامي معناه، لكن هذا لا يمنع وجود وجوه مبشرة، فضلاً عن عودة الأعمال الأدبية التي نتمنى أن تكون فاتحة خير على الإبداع، وفي النهاية العمل الجيد سيفرض نفسه على الجميع، وسيدفع الجمهور لمشاهدته دون حسابات".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...