للفنِّ أكثر من وجه، وبعيداً عن النظرة المثالية للفن على أن يهذب الإنسان، هناك جانب لا يعرف عنه الكثيرون شيئاً، وهو عندما "يُشهِّر" الفن ويجعل سيرة شخص بعينه على كل لسان.
حدث هذا قديماً، فمن منّا لايعرف أشعار الهجاء التي كانت في العصور الإسلامية الأولى سلاحاً اجتماعياً لا يضاهيه سلاح؟ إلا أن ما هو أقل شهرة هي قصص استخدام الفنّ في الانتقام.
إله الموت والكارتون
[caption id="attachment_109108" align="alignnone" width="700"] هاديس "إله الموت"[/caption] مثلاً، لا يخطر ببال معظمنا الشخص الذي استُلهمت منه شخصية هاديس "إله الموت" الشهيرة في فيلم الكارتون هرقل التي قدمتها استوديوهات والت ديزني. رغم أن لإله الموت تماثيل ولوحات كثيرة عند الإغريق، إلا أنّ الإلهام لم يأت من هذا الاتجاه على الإطلاق، إنما من المنتج السينمائ جيفري كاتزنبرج. فبعد موت رئيس شركة والت ديزني السابق، اندلع خلاف بين جيفري كاتزنبرج ومنافسه مايكل أيزنر على تولي الرئاسة، ولما فاز أيزنر، أجبر كاتزنبرج على الاستقالة، ولكنه لم يستسلم، وافتتح عام 1994 استوديو DreamWorks الذي أصبح أكبر منافسي والت ديزني في عالم أفلام الرسوم المتحركة. وبهدف الانتقام، أمر أيزنر باستلهام ملامح هاديس، إله الموت، من كاتزنبرج، وكذلك صفاته الشخصية، كسرعته في الغضب ومحاولة تهدئة نفسه بنفسه.درس يهوذا الصعب
قبله بعدة قرون، أقدم الفنان الشهير ليوناردو دافنشي بما يشبه ذلك. إذا قال العقاد في مقال له عن دافنشي، بأنه لما كُلف برسم لوحة العشاء الأخير، كان يستغرق ساعات طويلة في التفكير، فيجلس شارداً يبحث عن الإلهام، ولا يضرب بفرشاته إلا قليلاً. فغضب منه القسّ الموكّل بالإشراف عليه، وحسبه يضيع الوقت ولا ينجز ما هو مطلوب منه. وبدلاً من أن يخبره بذلك، أو أن يعاتبه أو يستفهم منه سبب ذلك، ذهب القسّ ليشكوه مباشرة إلى رؤسائه. ويبدو أن دافنشي سمع الخبر بطريقة أو بأخرى، ولحسن حظه وسوء حظ القس، لم يكن قد اختار بعد ملامح يهوذا الإسخريوطي الذي وشى بالسّيد المسيح، فقرّر أن يضع ملامح القس على جسد يهوذا، وهو ما فعله بالفعل بمنتهى البراعة، وعندما تعرض للانتقاد أصر على موقفه، وقال إنه أرد أن يعطي القس وأمثاله درساً لا يُنسى.يذخر التاريخ بقصص الثأر والفدية، ولكن قلما نسمع عن فنانين استخدموا أقلامهم وفراشيهم للانتقام
6 قصص غريبة عن انتقام الفنانين من أشخاص أزعجوهم... الابداع في الانتقام
بطل نجيب محفوظ الذي كاد يقتله
وفي عالم الرواية، لا يمكن نسيان رواية السراب للكاتب المصري نجيب محفوظ التي كادت تتسبب في قتله. والقصة، كما يرويها الناقد رجاء النقاش، أن محفوظ استلهم بطل روايته "كامل رؤبة لاظ" من صديق له في المقهى، وهذا أمر عادي، لكن المشكلة أن بطل الرواية كان ضعيفاً جنسياً، ويعاني تعلقاً مرضياً بأمه. ونقل أحدهم حكاية الرواية للصديق الذي استُلهمت منه، فثار وأحضر مسدساً وقرر قتل نجيب محفوظ، وذهب إلى المقهى الذي يجلس فيه بالفعل، وقال له "إنت كاتب عني يا نجيب؟" وجرى خلفه محاولاً النيل منه، لكن أصدقاء مشتركين تدخلوا واحتووا الأزمة. وربما في هذه الحكاية لم يكن محفوظ يقصد التشهير بصديقه، لكن هذا ما حدث على أي حال.هيكل الذي فقد ظله
رواية "الرجل الذي فقد ظله" للكاتب فتحي غانم لها قصة مثيرة في هذا المجال كذلك. وهي من روايات الأصوات، أي التي تحكي حدثاً واحداً من وجهة نظر عدة أشخاص، ومن ضمن أبطالها الصحفي الانتهازي "يوسف عبد الحميد السويفي" الذي يتخلى عن مبادئه ويستغل كل من وما يقف في طريقه لتحقيق حلمه بالوصول إلى رأس السلطة الصحفية. وتستعرض الرواية نماذج من إشكاليات مواقفه الأخلاقية، وكلّ ما ضحّى به سعياً وراء تحقيق حلمه الذي يرى النور بالفعل في النهاية، لكن على حساب كل شيء آخر. أجمع عدد من النقاد، وعلى رأسهم شعبان يوسف ورجاء النقاش وبلال فضل، على أن المقصود بشخصية السويفي هو الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل. [caption id="attachment_109113" align="alignnone" width="700"] الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل[/caption] ورغم أن فتحي غانم نفسه نفى هذا، فإن هناك شبه إجماع بين المثقفين أن الرواية تستعرض قصة صعود هيكل إلى رأس السلطة الصحفية والسياسية في مصر. غانم تعرّض للكثير من التضييق والتهميش على يدي هيكل، مما أعطاه المبرر لاختياره شخصية روايته الأساسية، وبعد صدور الرواية حُذفت منها 250 صفحة، ولم تر النور كاملة إلا بعدها بسنوات طويلة. تحوَّلت الرواية إلى فيلم بالاسم نفسه، ولعب دور البطولة فيه كمال الشناوي وماجدة ونيللي وصلاح ذو الفقار، وعرض لأول مرة في 30 أكتوبر 1968.العقاد يذبح مديحة يسري
ومن الرواية إلى الرسم مرة أخرى، وقصة انتقام عملاق الأدب العربي عباس محمود العقاد، من الفتاة التي أحبها وخذلته. الأمر كان صعباً ومليئاً بالتعقيدات منذ بدايته، فالعقاد كان في الخمسين، والفتاة السمراء التي ملكت قلبه كانت في العشرين. إنها الفنانة مديحة يسري. [caption id="attachment_109115" align="alignnone" width="700"] مديحة يسري[/caption] بدأت القصة عندما رأى العقاد صورتها في إحدى المجلات المصرية عام 1939، فأعجب بها، ودعاها لحضور صالونه الأدبي الذي كان يُعقد كل جمعة، وانبهرت به الفتاة بالتأكيد، واستمرت علاقتهما فترة من الوقت. لكنها سرعان ما انضمت لعالم الفنّ، إذ رآها الفنان أحمد سالم، ودعاها للعمل في السينما، وبين يوم وليلة تغيّر كل شيء، إذ أصبحت مشهورة وتكاثر المعجبون حولها طوال الوقت، وهو ما رفضه العقاد، وأبى أن يكون أحد الطائفين حولها، فخيَّرها بينه وبين الفن، ولما اختارت الفن، انتهت علاقتهما. قرّر العقاد رغم كبر سنه ومقامه، أن ينتقم منها، وفي الوقت ذاته، ربما أراد أن يشفَى من هواها، فكلّف صديقه الرسام صلاح طاهر برسم صورة فيها تورتة يلتف حولها الذباب، وعلّقها في غرفة نومه، ووضع أحذيته أسفلها. وانتهز العقاد فرصة زيارة مديحة يسري له ذات يوم مع والدها، واستدرجها إلى غرفة النوم ليريها الصورة، ففهمت الرسالة، كان يريدُ أنْ يقول لها أنّها أصبحتْ مثل التورتة المكشوفة التي يلتف حولها الذباب، ولم تعد تليق بالعقاد، فخرجت مديحة باكية من غرفة العقاد ومن حياته للأبد.ساحر الفودو الحاصل على الدكتوراه
وبالعودة إلى أفلام الكارتون التي بدأنا بها، نكتشف أن الدكتور فاسيليه، أحد أبرز الشخصيات الشريرة في عالم ديزني، المُشعوذ الذي يُدعى "رجل الظل" أو "منقوع الليل". يستخدم رجل الظلّ سحر الفودو الإفريقي لخداع ضحاياه، مثلما فعل مع الأمير الضفدع، في الفيلم الذي يحمل الاسم نفسه من عام 2009، ويسعى للسيطرة على مدينة نيو أورلينز بمساعدة الشياطين. شخصيته كانت مُستلهمة من شخصية حقيقية، هي الدكتاتور فرانسوا دوفالييه. [caption id="attachment_109107" align="alignnone" width="700"] الدكتاتور فرانسوا دوفالييه[/caption] بعد أن حاز فرانسوا على شهادة الدكتوراه من جامعة ميتشيجان الأمريكية، عاد إلى هاييتي وأُصبح يعرف بلقب Papa Doc أي الدكتور الأب. وترأس البلد منذ 1957 حتى 1971، واشتُهر بممارسة سحر الفودو، وتنفيذ عمليات إبادة جماعية وفرض عزلة تامة على شعبه خلال فترة حكمه. وتمادى في ظلمه فأخبر الناس أنه التجسد البشري لروح هاييتي، وبعد إحيائه تقاليد سحر الفودو، أعلن أنه كاهن الفودو بشحمه ولحمه، ثم أعلن أنه البارون "ساميدي" أحد أشهر آلهة الفودو في إفريقيا وأكثرها طغياناً. أراد صنّاع ديزني كشف حقيقة هذا الدكتاتور، والسخرية منه، فسمّوا الشخصية الكارتونية في البداية باسم دكتور دوفالييه، لكن هرباً من تورّط ديزني في مشاكل سياسية مع هاييتي، تغيَّر اسم الشخصية إلى فاسيليه بمعنى "المُيَسِّر" أو "المُساعِد"، وإن احتفظ بنقاط التشابه مع فرانسوا دوفالييه. المصادر: في صالون العقاد كانت لنا أيام، أنيس منصور؛ صفحات من مذكرات نجيب محفوظ، رجاء النقاش؛ ديزني آنتولد، خالد الفليكاوي؛ وقراءات متفرِّقة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...