من غرائب التراث العربي الإسلامي أنه كما اشتمل على صور ومظاهر عشق الكلمة المكتوبة، وجنون اقتناء وتجميع الكتب وامتلاك المكتبات الشخصية، فإنه قد تضمن على حوادث تثبت عكس ذلك.
تمثلت في إتلاف الكتب وإحراقها عمداً، ليس بفعل الحروب والكوارث التي دمرت كل شيء بما في ذلك الكتب والمكتبات، بل بأمر من الحكّام ومباركة من العلماء، وفي أحيان أخرى، كان الحرق على يد مؤلفي الكتب أنفسهم.
يقدّم ناصر الخزيمي في كتابه حرق الكتب في التراث العربي، دراسة لأشهر المؤلفين والعلماء الذين أتلفوا كتبهم وقد بلغوا سبعة وثلاثين كاتباً.
من بينهم: ابن سينا والماوردي والحافي وسعيد بن جبير وأبو عمرو الكوفي والتوحيدي وأبو عمرو بن العلاء وسفيان الثوري.
وأما عن طرق إتلاف الكتب، فكان أبرزها أربعة، الحرق، والدفن، وغسلها بالماء أو إغراقها، وتقطيع الكتب و"تخريقها".
أمَّةٌ تحفظ وتكتب
اعتمدت الثقافة العربية في الجاهلية وبداية الإسلام على المسموع والشفوي، أكثر من الكلمة المكتوبة. فكان العرب يُجلون المعرفة الشفوية المحفوظة، ويعلون من شأنها، وهذا ميلٌ استمر حتّى بعد تطور أشكال الكتابة والاعتماد عليها. جاء في كتاب جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البرّ (463 هـ)، أنّ الأديب النحوي يونس بن حبيب سمع رجلاً يُنشد: استودع العلم قرطاساً فضيعه بئس مستودعُ العلم القراطيس. وهذا الميل، باعتقاد الخزيمي، يفسّر لماذا عمدت مجموعة من الصحابة على إتلافَ الكتب، وشجعت ذلك وساندته. من الأمثلة الأولى الأهم اثنان: موقف عمر بن الخطاب عندما أحرق كتب سنة الرسول، بحسب ما ذكره ابن سعد في كتاب الطبقات الكبرى، وإحراق عثمان بن عفّان نسخ القرآن، وهو موضوع كتب عنه عشرات الدراسات. أوردت المصادر أخباراً عن وقائع عدة عن إتلاف كل ما هو مدون دون القرآن الكريم في بداية الإسلام، خشية أن يقع خلط بين القرآن الكريم وكتب الأحاديث، أو الانشغال بكثرة الكتب. تعبّر المقولة المنسوبة للضحاك عن هذا القلق: "يأتي على الناس زمانٌ تكثرُ فيه الأحاديث حتى يبقى المصحف بغباره لا ينظر فيه".البحث عن نظرية واحدة لأسباب حرق الكتب في التاريخ الإسلامي غير مجدٍ، فكل مناسبة كان لها ظروفها الخاصة.
حرق عدد من العلماء كتبهم زهداً، أو تعبيراً عن خيبتهم بانحسار مكانة العلم بين الناس.
تعددت الأسباب لحرق الكتب
لم يمنع حرق الكتب وإتلافها عامة الناس والعلماء من قراءتها ودراستها، علناً أو سرّاً، بل إن إحراق الكتب أعطى مضامينها أهمية كبيرة، استقطبت تحليلاً واهتماماً من معاصريها وعند من جاء بعدهم. كمّا أن إحراق الكتب، على مرّ عصور الإسلام، كان في كلّ مناسبة ينبع من أسباب مختلفة، وفي كلّ مرّة كانت تتشابك فيه مصالح سياسية مع مواقف العلماء، وشهرة الكُتُب وسمعة مؤلفيها بين الناس. يبدو ذلك واضحاً في الأندلس، التي شهدت ستة مناسبات على الأخص تجسد هذه الظاهرة، على مدار تاريخها: أيّام الحكم الأموي، والأميري، وحكم بني عبّاد، والحكم المرابطي والموحدي. في مقالتها "سياسة إحراق الكتب في الأندلس"، تدرس جنينا سافران حرق الكتب في الأندلس، وتجد أنّ الحرق بحد ذاته أصبح بمثابة تقليد استخدمه الحكّام لتقديم صورة معينة لحكمهم. كان أول هذه المناسبات إحراق كتب ابن مسرّة (تـ.931م)، بمباركة الخليفة الأموي الأول، عبد الرحمن الناصر، وتمّ ذلك في ساحة جامع قرطبة عام 961م. لم تكن أسباب حرق الكتب تعسفية، إذ أن ابن مسرّة كان عالماً مرموق السمعة، خاصة بعد عودته من رحلته إلى المشرق الإسلامي، حيث درس كتابات المعتزلة والمتصوفة. ولكن شهرته اسمترت عقوداً بعد وفاته، وباتت تنافس حلقة علماء قرطبة الذين اتبع أكثرهم المذهب المالكي، وبات تأثيرها يخلّ بموازين السلطة. وجد الخليفة الأموي فرصة في استثمار قلق علماء عاصمته من تعاليم ابن مسرّة، ليقدّم نفسه بصفة المدافع عن السنّة، وكان في ذلك خطوة براغماتية، دعمها تنافسه مع الخليفة الفاطمي، الذي كان ينارعة النفوذ في شمال إفريقية. وهذا مثال عن ترابط الظروف السياسية مع الاعتبارات الفكرية في إحراق الكتب، التي أعطت رمزية إتلافها، كحدث اجتماعي، فرصة لتأكيد التزامات وتحالفات سياسية معينة. ومثل ذلك ما تلى من إحراق للكتب، حيث أصحبت العملية نفسها تقليداً له رمزيته التي عبّر من خلالها الحكّام عن سلطتهم وصورة شرعيتهم. عندما وصل أبو عامر المنصور، المعروف بالحاجب المنصور، إلى سدة الحكم، لم يتمّ ذلك بمباركة من حوله، بل اعتبرت سلطته استغلالاً لصغر سنّ الخليفة هشام المؤيد بالله الذي كان ابن الثانية عشر. حاول المنصور دعم مكانته المتزعزعة، وأراد تقديم نفسه كراعٍ للدين وممثل للتقوى، ليكسب رضى العلماء الذين يملكون القدرة على مباركته في عيون العامة. ولذلك لجأ إلى تكرار ما قام به الخليفة الأموي عبد الرحمن، وقام بإحراق كتب مكتبة الحكم الثاني، التي ذاع صيت مقتنياتها في مشرق العالم الإسلامي قبل مغربه. وفي مثال مختلف قليلاً، جاء قرار الحاكم المعتضد بن عبّاد (حكم بين عامي 1042م و1069م)، حاكم إشبيلية من بني عبّاد، بإحراق كتب ابن حزم. مع أنّ البعض يعتبر التزام ابن حزم بالمذهب الظاهري سبباً لذلك، إلا أن الدراسات الأخيرة، بيّنت أنّ ابن حزم، بولائه للخلافة الأموية في قرطبة، حتى بعد زوالها، شكّل تهديداً لسلطة بني عبّاد الذي قرر حاكمها حرق كتبه. وردّ ابن حزم على تلك الحادثة بحق علمه وكتبه، بأبيات شعرية: فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري يسير معي حيث استقلت ركائبي وينزل أن أنزل ويدفن في قبري دعوني من إحراق رقٍ وكاغدٍ وقولوا بعلم كي يرى الناس بدري ويذكر محمد بن أسعد اليافي في كتابه مرآة الجنان وعبرة اليقظان، وهو يسرد أحداث سنة 537هـ: "وفيها توفي صاحب المغرب علي بن يوسف بن تاشفين... وهو الذي أمر بإحراق كتب الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي". وعلى درب علي بن يوسف ابن تاشفين سار ابنه، تاشفين بن علي الأمير المرابطي، الذي قال في رسالة إلى قاضي بلنسية وفقهائها ووزرائها وعامة سكانها بعد أن أصبح أميراً: "واعلموا رحمكم الله أن مدار الفتيا ومجرى الأحكام والشورى في الحضر والبدا على ما اتفق عليه السلف الصالح – رحمهم الله – من الاقتصار على مذهب إمام دار الهجرة أبي عبد الله مالك بن أنس". وأضاف: "فمتى عثرتم على كتاب بدعة أو صاحب بدعة فإياكم وإياه وخاصة – وفقكم الله – كتب أبي حامد الغزالي، فليتتبع أثرها وليقطع بالحرق المتتابع ضرها، ويبحث عنها وتغلظ الأيمان من يتهم بكتمانها". وجاء الحث على إتلاف كتب الضلال والبدع – من وجهة نظر علماء الإسلام - في مصادر عدة، فمثلا يقول ابن القيم في الطرق الحكمية: " لا ضمان في تحريق الكتب المضلة وإحراقها، قال المروزي قلت لأحمد (أي أحمد بن حنبل) استعرت كتابا فيه أشياء رديئة ترى أن أخرقه أو أحرقه؟ قال نعم". لابدّ من التنويه إلى أن هناك أسباب عملية وعلمية في نفس الوقت لإتلاف الكتب، خاصة من مرحلة الجمع والتدوين والإملاء. حيث كان الشيخ يملي على تلاميذه المادة وغالباً ما كانت مواد دينية، وكان التلاميذ يحضرون ويكتبون عنه وتضبط أسماء المجلس في محضر يحمل تاريخ السماع. خشية الأخطاء، كان العلماء يتلفون هذه الأصول في حياتهم أو يوصون بإتلافها بعد وفاتهم، وهذا ما فعله كثير من علماء الحديث النبوي. كما أنّ هناك أخباراً عن إتلاف كتبٍ بسبب مخالفة روايتها ومنهجها المتفق عليه من الشروط العلمية للكتابة والرواية، وذلك على نحو ما حلل الخزيمي في كتابه حرق الكتب في التراث العربي. المصادر: جانينا سافران، "سياسية إحراق الكتب في الأندلس"؛ الوثائق السياسية والإدارية في الأندلس وشمالي أفريقية (64ـ897هـ/683ـ1492م): دراسة ونصوص، محمد ماهر حمادة؛ حرق الكتب في التراث العربي، ناصر الخزيمي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه