عالم هادئ ظاهرياً، هدوء أصحابه، غامض يحمل في طياته عواصف من الألم والعقاب والثواب، والخضوع والسيطرة، تماماً كما يحمل أصحابه بداخلهم. هو عالم الميول السادية، ونقيضها المازوخية، أو كما يطلق عليه البعض، السيطرة والخضوع، التبجيل والتحقير. عالم يحمل التناقضات بين طرفيه، يراه البعض جنوناً ومرضاً نفسياً، بينما يراه أصحابه طبيعياً، بل هم يرون ميولهم المحبة للعنف والسيطرة، هي الفطرة السليمة للرجل والمرأة. "السادية ونقيضها المازوخية"، هما صورتان من صور الاضطراب النفسي. فالسادية تتجسد في التلذذ بإيقاع الألم على الطرف الآخر، بينما المازوخية هي التلذذ باستقبال الألم والإذلال والإخضاع.
في العالم الزاخر بالعنف والإذلال والسيطرة والخضوع، يطلق على الرجل master، أي السيد أو المسيطر، والفتاة "slave"، أي الخادمة أو الخاضعة. إلا أن حب العنف وإذلال الشريك ليسا مقتصرين على الرجال فقط، إنما تشاركهم فيهما النساء كذلك، فيطلق على المرأة السادية mistress، ويطلق على الرجل المازوخي slave. د
خلنا عالم السادية، من خلال حساب مزيف، اقتحمنا به مجموعات سرية - مثل "سادية رومانسية"، "سادية راقية"، "علاقات سادية/مازوخية (مواعدة وتعارف)" - أشبه بمجتمع كامل مستقل بنفسه، لا علاقة له بما يجري على أرض الواقع. فهناك من يبحث عن شريكة لحياته تشاركه ميوله المحبة للعنف، وهناك من دخل بدافع الفضول، وهناك من يرغب في الحصول على المتعة فقط، وهناك من دخلتْ تبحث عن حب جامح وقصة حب قوية، وهناك من تبحث عن رجل قادر على إخضاعها وممارسة كافة أساليبه في إذلالها وتعنيفها، ليشبع بداخلها رغبة ما.
المعدد
"المسيطر أسامة"، هكذا يطلق على نفسه المهندس الثلاثيني، القاطن في القاهرة، والذي يحكي بشغف عن ميوله المحبة للعنف والإيذاء، والتعدد كذلك، فيقول: "اكتشفت ميولي من ثلاث سنوات عن طريق تفضيلاتي في الأفلام الإباحية وما لاحظته، وحبي للعلاقة العنيفة على مستوى الجنس، والسيطرة والتحكم على مستوى الروتين الحياتي". ويضيف: "كانت تجربتي الأولى مع صديقتي، التي عاقبتها بالضرب أسفل ظهرها وقمت بتقييدها ساعة كاملة، كانت تلك التجربة مجرد تقليد لأحد الصور والمقاطع المصورة التي وجدتها على الإنترنت، ومع الوقت، أصبحت أتفنن في اختراع أساليب جديدة للعقاب". "امرأة واحدة لا تكفي"، شعار يرفعه أسامة في علاقاته، فيوضح: "لا أكتفي بفتاة واحدة، أحب الجمع بين اثنتين على الأقل، ومن لا ترغب في التعدد، لا مكان لها في حياتي، وبالفعل كنت أملك خادمتين طوال عام كامل". "لو لم أكن قادراً على السيطرة على نفسي، لن أستطيع السيطرة على خادمتي"، هكذا يلخص أسامة كيف تسير علاقاته مع زملائه في العمل، فهو يرى نفسه قادراً على الفصل بين إحكام السيطرة على حياة شريكته، وبين قدرته على الاندماج في فريق العمل، أو قدرته على التعلم ممن هو أكبر منه.التحكم المطلق
"مفارقة طريفة أن أتعلم السادية على يد فتاة"، هكذا يصف أمير فهيم، 27 عاماً، محاسب، الصدفة التي عرفته على ميوله وتفضيلاته في العلاقات بالجنس الآخر. يقول: "كنت على علاقة بفتاة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، ويوماً قالت لي: أنت شكلك سادي، بعد عدة مواقف وجدتني فيها أحاول السيطرة عليها والتحكم في كل تصرفاتها، فسألتها عن معنى الكلمة، وتعلمت منها كل شيء، ولكنني تيقنت من ميولي بعد إجراء الاختبار الالكتروني bdsm test، الذي أظهر أن ميولي نحو السيطرة وممارسة العنف، تصل لنسبة 96%".ويتابع أمير: "يومها تحولت علاقتنا 180 درجة، وكأننا وجدنا ضالتنا، أعطتني السلطة الكاملة على حياتها، بداية من المظهر الخارجي وملبسها حتى اختيار أصدقائها وأوقات خروجها من المنزل وأوقات عودتها، وحرية التصرف في كل ما يخصها من حسابات إلكترونية". ويختم أمير: "كنت بمثابة محركها وكأنني أمتلك عروس ماريونيت".
ملاكي الحارس
على ضفة أخرى من عالم السادية، تأتي أسماء إمام "اسم مستعار"، 29 عاماً من الاسكندرية، تروي كيف كانت طيلة حياتها ذات شخصية قيادية وقوية، ولكنها في علاقتها مع الرجال تفضل أن تكون الطرف الأضعف المطيع. "كان ملاكي الحارس"،تروي أسماء، طبيعة علاقتها مع رجل كان يبلغ من العمر 40 عاماً، كان هو نافذتها على عالم السادية والخضوع. تقول إنها تعرفت إليه بعد وفاة والدها بشهرين تقريباً، في البداية جذبها برقته في التعامل معها، وكيف كان يدعمها طيلة فترة حزنها على والدها وكان خير صديق، ثم بدأت العلاقة تتطور لتأخذ شكلاً عاطفياً، وكانت وفاة والدها قد مثلت حدثاً فاصلاً في حياتها، فكانت تبحث عمن يحل محله، واستطاع بالفعل شريكها أن يأخذ دور التقويم والتصحيح والنصيحة والتوجيه. "بدأ الأمر بضربات خفيفة على ظهر اليد"، تسترجع أسماء ذكرياتها مع بداية تعرفها على متعة الألم، كما تصفها، قائلة: "بدأ الأمر بضربات خفيفة على ظهر يدي، أو ضربات خفيفة على وجهي، كنت أتمتع بها ولا أعرف السبب، وذات مرة سألني عما أشعر به، فرويت له أنني أشعر بمتعة قليلاً، فقال لي حضرت لك مفاجأة، وأخذني إلى بيته، وهناك أجرى أول "سيشن عقاب" لي، مستخدماً الضرب أسفل الظهر، وتركيب المشابك في بعض المناطق بجسدي، واستخدام قطرات قليلة من الشمع".
تتابع أسماء: "وقتها سألني عن شعوري، فلم أجب من الصدمة ولكنني في قرارة نفسي كنت أشعر بمتعة الخضوع له، واستقبال العنف، بعدها بيومين اتصلت به وحكيت له عن كل ما شعرت به، فعلمني ماذا تعني السادية وما يعني الخضوع وحب الوقوع تحت السيطرة، وبقينا في علاقة لفترة طويلة، ثم افترقنا".
العنف حد الجنون
عبد الراضي أمين، 35 سنة، دكتور باطنة يعيش في الغردقة، اكتشف ميوله حين كان عمره 17 عاماً، مع ابنة عمه التي كانت تجمعهما علاقة عاطفية، فكان يتحجج بأي خطأ منها، ليضربها ويراها تبكي. "شعرت أن هناك خطباً بي"، يروي عبد الراضي أنه بحث عن أسباب ما ينتابه من متعة عندما يرى ألم ابنة عمه رغم حبه لها، ثم لجأ لصديق والده ليحدثه عن شعوره، فأكد له أنه صاحب ميول سادية. "أنا مجنون"، هكذا يلخص عبد الراضي ميوله، فيؤكد أنه يميل للعنف والعقاب وإيلام الآخر، لدرجات لا حدود لها، وكاد يتسبب في موت صديقته يوماً بعد أن فشل في السيطرة على نفسه وقت عقابها. ويروي: "وقتها حاولت التوقف عن أي ممارسات سادية، ولم أنجح، فلجأت لتكنيك "الكلمة الآمنة"، إذ اتفقت على كلمة مع شريكتي تقولها حين تشعر بعدم القدرة على تحمل الألم، لأتوقف نهائياً".عبدالراضي ذهب إلى حدود أبعد من كل من سبقوه، فهو يمارس العنف ليعالج حالات الغضب التي تنتابه من وقت لآخر، وكذلك حالات الملل، وفي أوقات كثيرة يستخدم العنف على شريكته فقط للتسلية، وليس للعقاب على خطأ ما. "لست متأكداً من أني سوي نفسياً"، نطقها عبد الراضي بنبرة من الحزن، قائلاً: "أنا قادر على إيذاء الطرف الآخر لمستويات أبعد من أن تأتي في خيال أحد، خصوصاً وأنا طبيب، وهذا ما يؤهلني لاستخدام بعض الأساليب الوحشية والقدرة على علاجها كذلك، مثل الوخز بالإبر، وهو ما فعلته من قبل بالفعل". ويتابع: "رغم وصولي لحد الجنون في رغبتي وتلذذي باستخدام العنف، فإنني قادر على الفصل بين ميولي المحبة للعنف، وتعاملي مع الأصدقاء والزملاء وأفراد عائلتي، فأقصى ما أستخدمه للتعبير عن غضبي، هو السباب والشتائم، وهذا ما يدفع الكثير من معارفي إلى الاعتقاد بأنني طيب ومسالم وهادئ، وهو ما يضحكني بشدة من داخلي، خصوصاً أن كل سيطرتي على غضبي أمامهم، أصبه على جسد صديقتي".
رجال خاضعون
في يناير 2014، شهدت محكمة الأسرة في العاصمة المصرية، شكوى غريبة، كان الزوج يشكو فيها من عنف زوجته، ليقف أمام المحكمة قائلاً: "زوجتي سادية تتفنن في تعذيبي والتلذذ بإيلامي وتقييدي، فهي تزين غرفة نومنا بكرباج وعصا خشبية وسلاسل"، لترد الزوجة: "أخبرته حقيقة الأمر قبل الزواج وقبله، فلم أفاجئه"، لينتهي الأمر بالتصالح بين الطرفين داخل المحكمة. أما عمر 35 سنة، من سكان القاهرة، فيحكي: "زوجتي ليست كبقية النساء، فهي قادرة على إثارتي وتحريك مشاعري نحوها بطريقتها غير المعتادة، هي رقيقة وهادئة، ولكن في أوقاتنا الخاصة، كأن جناً مسها، لتتحول شخصية عنيفة محبة للقسوة، فتُقدم على صفعي وربطي وشد شعري بقوة".ويضيف: "أكثر لحظات سعادتها حين تراني أنصاع لأوامرها، فتطرب لكلمة حاضر أكثر من كلمات الحب والهيام والغزل، والحقيقة أنني على يديها عرفت متعة الخضوع واحترام الأنثى وتبجيلها، بعيداً عن المفاهيم المغلوطة حول الرجولة وقوامة الرجل". "الرجل الحقيقي هو من يسعد زوجته، ويعتبرها ملكة له"، هكذا يلخص عمر جوهر علاقته بزوجته المسيطرة، ليختلف مع أقرانه في تعريفه للرجولة والقوامة.
"كرهت الرجال فعنفتهم"
تبدأ مروة السعيد، 39 عاماً، من صعيد مصر، حديثها بجملة "أنا الملكة مارو"، وتضيف: "كل عبيدي والخادمين الخاصين بي ومن أمتلكهم لا ينادونني سوى بالملكة أو سيدتي". تعود مروة بذكرياتها إلى الماضي، فهي تعرف تحديداً سبب ميولها، ولا تنكرها: "أكره الرجال، كل الرجال، لم أثق برجل إلا وخذلني، بداية من أبي الذي مارس عنفه وعدوانيته على أمي، وصولاً لزوجي السابق، الذي اكتشفتُ خيانته مع كل من هب ودب، كل تلك الخيانات والخذلان زرع بداخلي شعوراً قوياً باحتقار الرجال".وتتابع: "في البداية، شعرت برغبة قوية في صفع كل رجل عرفته في حياتي، لتتحول الرغبة لميول إلى العنف، فأصبحت أتعامل بوقاحة مع أي رجل، ولا أحترم أياً من الرجال أبداً، مهما أظهر من حسن خلق ودماثة، بل على العكس، كلما حاول الرجل إظهار مدى طيبته وحسن خلقه، أزيد من احتقاره". "لم أدخل في علاقة حقيقية حتى اليوم"،
تعترف مروة، فقد اقتصرت علاقاتها مع رجال مازوخيين وخاضعين على الانترنت وأحياناً الهاتف، إلا أنها لم تدخل في علاقة حقيقية، ولكنها تتفنن في إذلال الخاضعين، من خلال مكالمات الفيديو على الانترنت، سواء بالشتائم أو الأوامر. "المجنون فعلاً هو أبي وزوجي"، ترد مروة على سؤالنا إن كانت ترى السادية اضطراباً نفسياً، فتؤكد: "أنا شخص طبيعي، وإن كان هناك مضطرب نفسي أو مجنون، فهو أبي الذي كان يؤذي والدتي دون سبب، وزوجي الذي أهانني وخان ثقتي به، مع كل امرأة دخلت حياتنا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...