لم يدخل أسعد كاظم (54 عاماً) أي دار سينمائية عراقية بعد الحرب التي شُنت على العراق عام 2003.
"أكثر ما يُسعدني عندما أسافر لبيروت أو عمان ليس السفر، بل دور السينما التي أدخلها وأنا أعيش أجواء كُنت أعيشها بشبابي في ثمانينات القرن الماضي ببغداد"، يقول لرصيف22.
يذكر دور العرض الشهيرة قبل الحرب: أطلس، والنجوم، وبابل، وبغداد، والزوراء، وغرناطة، والمشرق، والنصر، والبيضاء.
"(هذه) الدور السينمائية لم تعد صالحة، ولم تعد مثلما كانت في السابق، فهي مُهملة وغير مؤهلة لاستقبال المشاهدين"، يقول لرصيف22.
ماذا حل بهذه الصالات؟ أين ذهبت بشاشاتها الكبيرة، وأضوائها وأفلامها والحياة الثقافية التي توقظها؟
منذ 14 عاماً
تشوهت معظم أبنية دور السينما الكبيرة في وسط العاصمة. فالحرب التي شُنت على العراق، منذ 14 عاماً، وما أعقبتها من مشاكل أمنية وقتل في الشوارع، أسقطتها، ولم تقم الحكومات العراقية المتعاقبة على إعادة تأهيلها أو ترميمها، أو بناء دور جديدة تشبه الصالات الكبيرة في شارع السعدون أو شارع الكفاح. حتى حينما أصبحت بغداد عاصمة للثقافة العربية في عام 2013، وتأمل الشعب خيراً، لم تُلمس هذه الدور، في الوقت الذي يتخرج سنوياً العشرات من المخرجين السينمائيين في كلية الفنون الجميلة بالعاصمة العراقية. "غابت السينما، وغابت الموسيقى الرفيعة، غاب عن البلاد أفضل منتجيها في شتى الفنون الجميلة وتوزعوا على بلدان اللجوء والمنافي، وغابت دور عرض سينمائية كانت عماد الحياة الثقافية في بغداد، البصرة والموصل وكركوك"، يقول علي عبد الأمير عجام، ناقد فني عراقي مُهتم بتوثيق ما يخص الثقافة العراقية لرصيف22. كانت تضم بغداد، بحسب عجام، 20 داراً سينمائية في سبعينيات القرن الماضي، لكنها أصبحت نحو 12 في الثمانينيات والتسعينيات نتيجة الحروب والحصار الذي فُرض على العراق، لتختفي بشكل كامل بعد عام 2003. الغياب برأيه ليس صدفة بل هو جزء مما وصفه بخطة ممنهجة تتبعها السلطات الصاعدة في العراق بعد العام 2003، الهدف منها "تغييب أي معرفة جمالية وفكرية رفيعة تبدو بالضرورة مناقضة لقيم تلك السلطات التي تنتعش مع سيادة الجهل والتعصب والكراهية"، بحسب حجام.المرور عند الشارع القديم
تمرون اليوم عند شارع السعدون وسط بغداد. يمتد الشارع من نصب التحرير الذي بناه النحات الشهير جواد سليم في ساحة التحرير عند منطقة الباب الشرقي، إلى تمثال كهرمانة والأربعين حرامي عند حي الكرادة. لا ألوان على أبواب الدور القديمة ولا أضواء في المداخل ولا ذكرى سوى ما تبقى من أجزاء صور عُلقت قبل حرب 2003. وهو حال جميع دور السينما القديمة في العاصمة. تحولت من أماكن استمتاع ومشاهدة لكل ما هو جديد، إلى مخازن للملابس ومحال نجارة وأخرى توضع فيها البضائع الفائضة لأصحاب المحال التجارية القريبة منها. حتى بعض الناس لم يتذكروا تلك الدور إذا ما مروا بالقرب منها. [caption id="attachment_115445" align="alignnone" width="700"] سينما الزوراء في شارع الرشيد وسط بغداد، مهملة كحال دور السينما القديمة في العاصمة العراقية. الصورة الأولى من أربعينات القرن الماضي، ثم صورة من الستينات، وصورة أخيرة حديثة للمبنى المهجور.[/caption] "لا شيء يزدهر في العراق في الحيّز العام ولا في الفضاءات الثقافية بالذات، ولأسباب عديدة"، يقول الروائي العراقي سنان أنطون لرصيف22. ويستطرد: "هناك تراكمات آثار سنين الحصار والدمار الاقتصادي الذي أنهك البلاد واستنزف المواطنين في زمن الدكتاتورية، أضف إليها حقيقة مهمة هي أن النظام الحالي الذي يسيطر على البلاد ومؤسساتها ومقدّراتها منذ غزو 2003 فشل فشلاً ذريعاً في بناء أو تشغيل أو إصلاح أي مؤسسة أو تنمية أي حيّز، بل فشل في الدفاع عن حدود البلد ومدنه التي احتلت من جديد".غابت السينما، وغابت الموسيقى الرفيعة، غاب عن العراق أفضل منتجي الفنون الجميلة وتوزعوا على بلدان اللجوء
لو كانت أداة لترسيخ الطائفية والجهل أو أرضاً لسرقة الدولارات لازدهرت السينما في العراقبرأي أنطون، فإنه لو كانت السينما أداة فعّالة لترسيخ الطائفية والجهل والانغلاق، أو كانت أرضاً خصبة لسرقة وتهريب ملايين الدولارات " لازدهرت دور السينما في العراق". ويضيف أنه لا يمكن للسينما أن تزدهر دون دعم مؤسساتي رسمي أو رأسمال القطاع الخاص، كما يرتبط بتوفّر حد أدنى من الأمن والسلام في الحيّز العام.
حضور خجول
يقول فارس طعمة التميمي، رئيس قسم السينما في دائرة السينما والمسرح الحكومية لرصيف22: "هناك فكرة وخطة لإقامة العروض بعد إعادة تأهيل دور العرض السينمائية المعنية بها الدائرة (قطاع عام وليس خاص)، لتكون هناك عروض حتى على مستوى سينما الأطفال وسينما المهرجانات التي نعد لبعضها من الآن". اليوم، يوجد صالات العرض الصغيرة في بعض المراكز التجارية المُنتشرة في بغداد، لكنها ليست بحجم الدور السينمائية المُهملة بشوارع العاصمة. فأعداد المقاعد لا تتجاوز المئة بينما في الدور السينمائية على الأقل 700، لكن حتى الـ100 مقعد لم تُشغل بشكل كامل بحسب مشاهدات مرتادين تلك الدور الجديدة. يقول حجام: "لا دور حكومياً في عملية إعادة تأهيل تلك الدور (القديمة)، بل هو سعي أهلي لإقامة صالات للعرض السينمائي ضمن نظام المولات التجارية الحديثة، وهو نادر وبالكاد يتم الإعلان عنه في بعض مناطق بغداد". يستثني حجام داراً حكومية، تتمثل في إنتاج ما وصفه بـ "مفارقة تظهر سخف الحياة الثقافية العراقية والمؤسسة التعليمية المرتبطة بها". "العراق عبر جامعاته يخرّج مئات من أقسام السينما سنوياً لكن في بلاد لا سينما فيها، حتى أصبحت دور السينما العريقة التأثير في البلاد، وتحديداً بين الأجيال التي شكلت نهضة البلاد بين الأعوام 1950-1980، مخازن بضائع أو ورش صناعة أحذية"، يضيف.حملة المليون مشاهدة
يقول محمد الدراجي، وهو مخرج أول فيلم سينمائي طويل بعد عام 2003 (فيلم أحلام)، خلال مقابلة مع رصيف22 إن ثقافة الذهاب إلى السينما صارت بسيطة جداً. وبرأي الدراجي الذي حاز عشرات الجوائز العالمية فإن مؤسسات الدولة بعيدة كل البعد عن الثقافة والسينما واستخدامها في تطوير المجتمع. "لا توجد أي ميزانية مخصصة للسينما وتطويرها"، يقول لرصيف22، "لكننا قبل أسبوعين قدمنا مشروع دعم صندوق السينما الوطني إلى لجنة الثقافة في مجلس النواب، وهذا مشروع استثماري يُمكن أن يعود بالفائدة للدولة العراقية". ويضيف أنهم المركز العراقي للفيلم المستقل، سيبدأون بحملة المليون مشاهدة نهاية العام الحالي عبر فيلمي الرحلة الذي سيظهر قريباً، كمحاولة لإعادة الناس إلى دور السينما وإعادة الثقة بالمنتج العراقي. "نأمل أن تعود هذه الثقافة والعلاقة بين المجتمع والسينما من خلال تحسن الوضع الأمني وظهور افلام جديدة".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...