عند سفح القلمون عجائب وحكايات… ترويها مار تقلا

عند سفح القلمون عجائب وحكايات… ترويها مار تقلا

نحن والتنوّع نحن والتنوّع نحن والتاريخ

الخميس 18 ديسمبر 202512 دقيقة للقراءة

تنشر هذه المادة ضمن ملف رصيف22 "الكنائس الشرقية... جوار في جغرافيا الرب" الذي يتوقف عند أجمل كنائسنا... منها ما يقترب من النسيان ومنها ما زال زيت قناديله مضيئاً.


في صورة فريدة يتجلى دير القديسة مار تقلا في قلب جبل القلمون المشرف على قرية معلولا شمال شرقي دمشق، على بعد نحو 56 كيلومتراً من العاصمة السورية. في هذا المكان الفريد، تتجسد روحانية المكان في انسجام بين الكنيسة والمزار الذي يعتقد أنه يضم رفات القديسة، وكهف كانت تسكنه (يُرجح أنها رحلت أواخر القرن الأول الميلادي)، ليصبح الدير أحد أبرز المعالم الدينية والتاريخية في سوريا. المكان نفسه، بين الصخور والمياه المتساقطة برفقٍ من سقف الكهف، ينقل الزوار إلى زمن آخر؛ زمن القداسة والعزلة والتأمل، حيث كانت مار تقلا تمارس نسكها وتُكرس حياتها للروحانية والخدمة الدينية.

يحمل الدير مكانة استثنائية، فهو يقع في قرية ما تزال تحافظ على اللغة الآرامية، اللغة التي تحدث بها السيد المسيح، وهو ما يمنحه بعداً تاريخياً وروحياً متواصلاً مع أصول المسيحية. وتشير الروايات إلى أن القديسة تقلا نفسها أسست ديرها، حيث لجأت إلى مغارة يرشح منها الماء، واتخذتها سكناً، ثم بنت ديراً بالقرب منها، ليكون أول دير في المسيحية، وتصبح أول رئيسة له، وفق ما ذكرته فاطمة جودالله في كتابها "سورية نبع الحضارات".

ويؤكد قتيبة الشهابي في كتابه "أديرة وكنائس دمشق وريفها" أن الدير تابع لطائفة الروم الأرثوذكس، ورغم بساطته وتواضعه، فقد تم بناؤه على مراحل مختلفة عبر العصور، ما يدل على امتداد تاريخه وغِنى إرثه الروحي.

بالرغم من أن الروايات تُجمع على أنها توفيت في سلام، فإنها لُقّبت بالشهيدة، تعبيراً عن معانتها الآلامَ، لتغدو رمزاً روحياً يتجاوز حدود المكان والزمان

لم تكن مار تقلا شخصية عابرة، بل تركت خلفها سلسلة من القصص والروايات والأساطير المرتبطة بالدير وكنيستها، مؤكدة حضورها الرمزي بين المؤمنين برمزيتها وشفاعتها، فحياتها، بما في ذلك الدير و"فج تقلا" و"كهف تقلا"، تعكس اهتمام الكتابات المسيحية بإعادة إنتاج ملامح الأنبياء الكبار، مانحة تقلا مكانة فريدة كأولى الشهيدات في المسيحية، رغم أنها لم تُقتل، وارتقت إلى منزلة قريبة من منزلة الرسل الأوائل.

حياة القديسة تقلا

نحو عام 47 م، زارت القديسة إيقونية (قونية حالياً في تركيا) حيث التقت بالقديس بولس الرسول (أحد تلامذة المسيح، ت.64 م تقريباً)، وتأثرت بتعاليمه عن العفة والبتولية، فتفرغت للإيمان وقطعت صلتها بالحياة التقليدية والعائلية.


هذا القرار أغضب والدتها، ثم المجتمع، ووصل إلى حاكم المدينة، لتواجه تقلا سلسلة من المحاكمات. وبحسب كتابه "تاريخ الكنيسة المسيحية في عصر الرسل" ذكر الأنبا يؤانس أن تقلا اجتازت "سلسة من المحاكمات والعذابات والإماتات. أضرم حاكم أيقونية ناراً وألقاها فيها، لكن الله أرسل أمطاراً غزيرة أطفأت النار وشتتت المجتمعين حولها". هذه المعجزة التي أفلتت منها تُعيد إلى الذهن إلقاء النبي إبراهيم في النار بعدما خاصم قومه، وعاب عبادتهم للأوثان.

واصلت تقلا رحلاتها بين مدن تركيا وسوريا، لتشارك في الكرازة ونشر التعاليم المسيحية، وفي أنطاكيا تعرضت لمحاولة اعتداء لكنها صمدت، ونجت من كل المخاطر، مما عزز مكانتها الرمزية بين الناس.

أحد أبرز المعجزات المرتبطة بها هو "فج تقلا"، الممرّ الصخري الذي استخدمته للهروب من الأذى، وكهفها الذي عاشته في أواخر حياتها، حيث كان الماء المتساقط من سقف الكهف يستخدم للتبرك والشفاء، ويعرف اليوم باسم "نبع القديسة تقلا"، ويقصده الحجيج طالبين البركة والشفاء.

يحتوي دير مار تقلا على أيقونات أثرية قيمة، مثل أيقونة القيامة وأيقونة ميلاد العذراء، معظمها يعود للقرن الثامن عشر، مما يضيف بعداً فنياً إلى المكان. كما شهد الدير أحداثاً تاريخية مهمة، من بينها مقتل الأمير محمد الحرفوشي عام 1851 على يد العثمانيين، ما أضفى عليه بعداً سياسياً وتاريخياً إضافياً، وجعله شاهداً على صراعات الزمن.

تشبيه بالنبي سليمان والنبي يوسف

بحثاً عن خلاصها الروحي، انتقلت القديسة تقلا بين عدة مدن ما بين تركيا وسوريا، فرحلت من إيقونية إلى أنطاكية للقاء بولس الرسول، وهناك طلب منها البقاء وسط الوثنيات تخدم النساء وتقوم بدورها في الكرازة.

بحسب الكتابات الدينية عن شخصية تقلا، فإن أحد الأشخاص أُعجب بها في أنطاكيا، وحاول أن يعتدي عليها، لكنها قاومته وفضحته، وتحدثت عنه وسط جموع الناس، ما عزز لديه رغبته في الانتقام منها، فـ"وشى بها إلى الوالي، الذي حكم بإلقائها للوحوش"؛ وفق كتاب "تاريخ الكنيسة المسيحية في عصر الرسل".

والسؤال الآن، هل تشدد السلطة ضدها كان نتيجة لمجرد الوشاية؟ ولكن يبدو أن الرواية الحقيقية قد تكون ضاعت، ومن المرجح أن نشاطها في مجال الخدمة، وتكريس نفسها لنشر تعاليم بولس الرسول في العفة والفضيلة، أثار حفيظة اليهود في المدينة، أو حفيظة بعض الشخصيات المرتبطة بمصالحها مع النظام التقليدي الذي تقوضه تعاليمها، الأمر الذي قادها نحو السجن.

بين الصخور والمياه المتساقطة برفقٍ من سقف الكهف، ينقل الزوار إلى زمن آخر؛ زمن القداسة والعزلة والتأمل، حيث كانت مار تقلا تمارس نسكها وتُكرس حياتها للروحانية

وبحسب كتاب الأب يؤانس المشار إليه، فإن تقلا "أُلقيت عارية للوحوش ثلاث مرات على ثلاثة أيام متوالية، لكن الوحوش لم تقربها"، وتعرضت لنوع آخر من العذاب فقد "ألقاها في جُب مليء بالأفاعي"، ولأنها في كل مرة تخرج منتصرة، ولا تتأثر بهذه الوحوش والأفاعي التي رقَّت وانحنت لها، لذا ذكر الأب يؤنس أنه "إذ حار الوالي في أمرها أطلق سراحها"، بمعنى أنه يأس من عذابها واحتار في أمرها.

في المخيال الديني تحضر صورة الملك أو النبي سليمان رمزاً لسيادة الإنسان على كل عناصر ومكونات الطبيعة، فقد خضعت له الطيور والحيوانات التي فهم لغتها. هكذا كانت تقلا، إذ انصرفت عنها الوحوش في سجنها، وانحنت لها في استجابة واضحة لمكانتها ومواهبها، ولزيادة التأكيد على انتصار العناصر الإيمانية التي تمثلها تقلا مثل البتولية والإيمان وقوة النعمة في مواجهة الوحوش.

وتأكيداً على البراءة والعفة، يأتي تشبيه تقلا بالنبي يوسف الذي ذاق عذابات السجن بفعل الوشاية والقضية الملفقة له من زليخة امرأة العزيز، وهكذا أصبحت رمزاً للوقوع في الظلم، وتذكيراً بأن يوسف أُلقي في الجُب ودخل السجن لاتصافه بالبراءة والصدق والعفة، وهكذا كانت تقلا أيضاً.

وفاتها

تُعد شخصية القديسة تقلا محوراً لرمزية دينية مستمرة، وقد تم توثيق حياتها ومعجزاتها في سِفر أعمال بولس وتقلا، نصوص أدبية مسيحية مبكرة مستوحاة من تعاليم بولس، تعكس الفضائل المتعلقة بالعفة والإيمان. ورغم أن النصوص تعتبر غير قانونية، فإنها تعزز مكانتها الرسولية وتجعلها رمزاً روحياً عالمياً.


توفيت القديسة تقلا في سلام، ولُقبت بالشهيدة تقديراً لمعاناتها ونضالها الروحي، ليظل دير مار تقلا ذاكرة حية، تجمع بين الدين والتاريخ والثقافة والسياسة، وتكرس إرث القديسة الذي يجسد النعمة الإلهية، مصوغاً بأسلوب أسطوري على غرار ملامح الأنبياء، ليظل مثالاً للحياة الروحية المستمرة ومركزاً للحج والزيارة حتى اليوم.
"فج تقلا".. مواهب المسيح ونجاة موسى

واحدة من الإضافات المذهلة التي تعزز اكتمال الصورة الرمزية للقديسة تقلا هي موهبة شفاء المرضى التي وهبها لها السيد المسيح، وقد مارست هذه المواهب المسيحية في قرية معلولا التي شهدت الفصل الأخير من حياتها التي قاربت على التسعين عاماً.

ووفقاً لكتاب "تاريخ الكنيسة المسيحية في عصر الرسل"، فإنه في أواخر حياتها "عكفت على حياة الخلوة والنسك والتأمل، ووهبها الرب موهبة الشفاء، فكان الكثيرون يتقاطرون إليها طالبين البُرء من أمراضهم". هذا الأمر أزعج البعض ودفعهم للتخلص منها، فـ"كم من مرة حاول بعض الأشرار الإساءة إلى طهارتها، فأنقذها الرب من أيديهم بمعجزة"، بحسب الكتاب المشار إليه.

باتت تقلا أكثر نضجاً واكتمالاً، لم تعد ترحل في المدن وراء القديس بولس الرسول، بل استقرت في قرية صغيرة، وانجذب الناس إلى تعاليمها، وأصبحت تمنح صلاتها للمرضى من أجل الشفاء، وأثار هذا النهج مُجدداً حفيظة الأطباء الذين شاهدوا عزوف الناس عنهم، فحرضوا الأشرار ضدها.

في صورة درامية تستعيد مشهد النبي موسى، وهو يحاول الهروب وأمامه البحر، ومن خلفه فرعون وجنوده، هربت تقلا من مجموعة من الجنود الذين أرادوا الإيذاء بها، ووجدت أمامها جبلاً ضخماً ومن خلفها الأشرار، ولم تفكر تقلا أن تضرب الجبل بعصاها كما النبي موسى، بل انشق الجبل عندما شعرت بالقلق والحيرة، فوجدت ممراً طويلاً، تمكنت عبره من الهروب، هذا الممر الجبلي ظل باقياً حتى اليوم ويعرف بـ"فج تقلا".

وبحسب تحقيق صحافي لأحمد رفعت يوسف في مجلة "الفيصل" (العدد 158)، بعنوان "معلولا بين الفن والتاريخ"، فإن "الفج على شكل ممر صخري غريب يسير متعرجاً بين جدارين عموديين من الصخور كأنهما محفورين بيد إنسان على عمق عشرات الأمتار، وبطول أكثر من مائتي متر، ويفضي في النهاية إلى نهاية الجدار الجبلي، ومنه يمكن النفاذ إلى منطقة سهلية، وإلى دير مارسركيس المُطل على البلدة".

لم يكن الفج وحده، بل يُضاف إلى الممر الجبلي الذي أصبح مزاراً دينياً، الكهف الذي عاشت فيه أواخر حياتها، وقيل ماتت فيه، فمن "أغرب مظاهر الدير هو الماء الذي يقطر ببطء نقطة فنقطة من سقف جدار الكهف الصخري الذي كانت تتعبد به، وبالقرب من مدفنها، وتنساب نقاط الماء لتتجمع في وعاء صخري صغير، يشرب منه الزوار"، وفقاً لما ذكره أحمد رفعت يوسف في التحقيق الصحافي المشار إليه.

نبع القديسة تقلا، معجزة مادية يقصدها الحجيج، وبحسب حبيب زيات في كتابه "خبايا الزوايا من تاريخ صدنايا"، فإن مغارتها تضم "صخراً قائماً ترشح منه قطرات من الماء، كما يرشح اللبن من ثدي المرأة، وهم يتبركون به، وربما اعتقدوا أن المُرضع إذا جف درها أو ألمت من ثديها تقصد هذا المقام فتنال الشفاء"، فلا تزال معجزاتها مستمرة إلى اليوم.

دير مار تقلا.. الذاكرة التاريخية والثقافية

ذاكرة مادية حية، هكذا أصبح دير القديسة تقلا، وقد عملت الكتابات المسيحية على استكمال الرمز الديني لصورة القديسة الشهيدة بعد بناء الدير بظهور واحد من الأسفار التي تحمل اسم "سِفر أعمال بولس وتقلا"، وهنا تأخذ شخصية تقلا التاريخية بُعداً رمزياً دينياً أكثر اكتمالاً.

ظهر سفر أعمال بولس وتقلا في وقت متأخر عن زمنَي بولس وتقلا، وهو مجموعة نصوص أدبية وضعت في فضائل العفة، لمؤلف مجهول، وهي نصوص مسيحية مبكرة، يبدو أنها مستوحاة من تعاليمهما معاً.


حول مشروعية السِفر المكتوب عنها، ذكر الأب يؤانس في كتابه "تاريخ الكنيسة المسيحية في عصر الرسل" أن "أعمال الرسل مثل أعمال بولس وتقلا، وضعت في القرن الثاني، وهي أسفار غير قانونية"، ومع ذلك فإن مثل هذه الأسفار تسهم في تعزيز مكانتها الرسولية، بالإضافة إلى أن تدوين تعاليمها ومعجزاتها يعطي لتاريخها العجائبي مكانة وقوة، وبدوره يستبدل وجودها المحلي جاعلاً منها رمزاً دينياً عالمياً.

وبالرغم من أن الروايات حول رحيلها تُجمع على أنها توفيت في سلام، فإنها لُقبت بالشهيدة، تعبيراً مجازياً عن معانتها من الآلام التي لا يقاسيها إلا الشهداء، فـ"قد خلعت الكنيسة عليها لقب أولى الشهيدات تقديراً لأتعابها، والميتات التي قابلتها وأنقذها منها الرب" بحسب ما ورد في كتاب "تاريخ الكنيسة المسيحية في عصر الرسل".

فضلاً عن مكانة الدير وارتباطه التاريخي بشخصية تقلا، فإنه يحتوي على أيقونات مسيحية أثرية، مثل أيقونة القيامة التي تصور السيد المسيح، وأيقونة ميلاد العذراء، ومعظم أيقونات الدير الفريدة تعود للقرن الثامن عشر.

حادثة نضالية ارتبطت بدير مار تقلا

إلى جانب تاريخ المسيحية، فإن الدير احتفظ في ذاكرته بواقعة بارزة، وقعت عام 1851 م، تتمثل في مقتل الأمير محمد الحرفوشي، المنتمي إلى أسرة آل حرفوش، وهي عائلة شيعية عُرفت بمقاومتها للدولة العثمانية. وبحسب المصادر التاريخية فإن الأمير فرَّ من حملة عثمانية بقيادة مصطفى باشا، أحد الوزراء العثمانيين، ولجأ إلى دير تقلا، فاقتحم العثمانيون الدير وقتلوه مع أنصاره، واعتدوا على أهل الدير ومقدساته.


ولا يزال الموضع الذي قُتل فيه الأمير محمد الحرفوشي معروفاً داخل الدير، ويذكر حبيب الزيات أنه "لا يزال المكان الذي أُمسِك فيه الأمير محمد المذكور معروفاً في دير مار تقلا، يشار إليه في جملة ما يُزار منه"، وفقاً لكتابه "خزائن الكتب في دمشق وضواحيها"، وبهذا يغدو الدير بمثابة مزار يُخلد ذكرى المعركة وأحداثها.

وعلى كل حال، فإن دير القديسة مار تقلا يُعد ذاكرة تاريخية متنوعة، ضمت في ثرائها الديني مع الثقافي مع السياسي، ويُعد أيضاً عنصراً فاعلاً في استمرارية رمزية القديسة تقلا التي كانت نموذجاً لاستمرار النعمة الإلهية، تمت صياغته بصورة أسطورية على غرار ملامح الأنبياء والأولياء.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

صوت التغيير يجب أن يبقى حاضراً. 

ليستمرّ، نريد دعمكم.

Website by WhiteBeard
Popup Image