في الكنائس الشرقيّة يحدث ذلك النوع النادر من الذهول؛ ذهول لا يطلب انتباهاً، بل يفرض نفسه بهدوء. يكفي أن نعبر العتبة الحجرية حتى تنخفض وتيرة العالم، وتستقبلنا سكينة كثيفة، كأننا ندخل طبقةً أخرى من الزمن؛ طبقة لا تقاس بالساعات ولا بالتقاويم، بل بما راكمته القرون من رجاء صامت.
هناك، في ضوء خافت يتسرّب من شمع يحترق ببطء، تتجلّى بساطة لا تخطئها العين: أيقونات بوجوه شرقيّة متعبة، صلوات محفورة على جدران أنهكها الزمن، وقناديل زيتٍ ربما جفّ زيتها، لكن أثرها لم يجف بعد.
يتضاعف جمال الكنائس الشرقيّة في البلاد التي لم تعد مسيحيتها غالبة: الجزائر، ليبيا، إيران. هناك، لا تكون الكنيسة مجرد مكان عبادة، بل شاهدة على زمنٍ مضى، وعلى انفتاح كان يوماً بديهيّاً، وعلى تعايش عاشه الناس دون حاجة إلى تسميته أو التنظير له.
صفوف المقاعد الخشبيّة مرتّبة بدقّة في انتظار مصلّين قد لا يأتون؛ فالطائفة قلّ عددها، أو غادرت، أو غيّرت أقدارها. ومع ذلك، يبقى الانتظار جزءاً من طقس المكان: الكنيسة الشرقية لا تُغلق قلبها، حتى حين يغيب أهلها.
في هذه الجغرافيا الممتدّة من ضفاف المتوسط إلى أعماق الشرق، لم تكن الكنائس طارئة على المكان، ولا دخيلة على نسيجه. عاشت قروناً طويلة جنباً إلى جنب مع المساجد والمعابد والأسواق والبيوت، جزءاً من مدنٍ تعلّمت، ولو لفترات متقطّعة، كيف تتّسع للاختلاف. لم يكن التعايش شعاراً، بل ممارسة يومية؛ جيران يتبادلون الأعياد، وأحياء تتجاور فيها الأجراس مع الأذان دون حاجة إلى شرح أو دفاع.
في ليبيا، تقف كنائس طرابلس وبنغازي ودرنة كشواهد على زمن الأرمن والروم والفرنسيسكان، وعلى المهاجرين والجنود والرهبان، وعلى مدنٍ كانت تعرف كيف تحتمل تنوّعها.
وفي الجزائر، ما زالت كاتدرائيات العاصمة ووهران تحتفظ بما تبقّى من موسيقى القدّاس، كأنها ترفض أن تكون مجرد آثار صامتة. أمّا في إيران، فتمتد الكنائس الأرمنية والآشورية والسريانية بجذرٍ أقدم من الدولة الحديثة نفسها؛ جذر نجا عبر العصور لأنه اختار التواضع، ولأنه آمن بأن الطريق إلى الله أكثر من ألف طريق، دون أن ينتقص ذلك من قدسيةِ أيّ منها.
في مصر، يظلّ دير سانت كاترين في قلب سيناء شاهداً على صلواتٍ تتردّد منذ نحو ألفٍ وخمسمئة عام، في واحدٍ من أقدم أديرة العالم وأكثرها مهابة. هناك، عند سفح جبل موسى، يلتقي الحجر القديم بالعمارة البيزنطيّة، وتتعانق الهدأة القاسية للصحراء مع تاريخ دينيّ مشترك عبرته أقدام الأنبياء والرهبان والرحّالة. فجدران الدير المنيعة لا تحمي المكان فحسب، بل تحفظ في داخلها سرديّةً كاملة عن الرجاء والاستمرار.
وفي لبنان وفلسطين، تنتصب كاتدرائيات مثل كاتدرائية القديس جاورجيوس، حيث تتعالى الأجراس وسط مدنٍ لا تنفصل فيها الطقوس عن الحياة اليومية. هناك، تتجاور العمارة العثمانية مع البيزنطية واليونانية، وتصبح الكنيسة جزءاً من مشهدٍ اجتماعيّ وثقافيّ أوسع، يذكّر بأن هذه الجماعات، رغم قلّتها، ظلت عبر التاريخ ملحَ الأرض.
أما في أصفهان الإيرانية، فتبدو كنيسة فانْك ترجمةً معمارية لفكرةِ التعايش نفسها؛ مسيحية في طقسها، فارسية في زخرفتها، شاهدة على زمن لم يرَ في الاختلاف تناقضاً، بل إمكانية للجمال.
حتى وإن هاجر المصلّون، وإن جفّ زيت القناديل، تبقى الكنائس الشرقيّة، بطوائفها المتنوّعة من الأرثوذكسية القبطيّة إلى السريانيّة والكلدانيّة والآشوريّة والأرمنيّة والملكيّة والمارونيّة، أكثر من معابد مقدّسة. إنها أرشيف حيّ للروح، وسجلّ مفتوح لتجارب بشرٍ عبدوا الله بلغاتٍ ولهجاتٍ وطقوس مختلفة، دون أن يروا في الاختلاف تهديداً.