الكنائس في ليبيا...  حين بكت

الكنائس في ليبيا...  حين بكت "العذراء" في بنغازي

رود تريب نحن والتاريخ

الخميس 18 ديسمبر 202510 دقائق للقراءة

تنشر هذه المادة ضمن ملف رصيف22 "الكنائس الشرقية... جوار في جغرافيا الرب" الذي يتوقف عند أجمل كنائسنا... منها ما يقترب من النسيان ومنها ما زال زيت قناديله مضيئاً.


كتب هانس فيشر عن ليبيا في كتابه "عبر الصحراء الكبرى" الذي وصف فيه رحلته إليها في النصف الثاني من العام 1906: "وأخيراً جاء الفتح الإسلامي الذي استولى على كلّ منطقة شمال أفريقيا، وكان بمثابة عاصفة ساخنة جاءت من الصحراء وأزاحت الآثار الواهنة المتبقية للرومان والوندال والبيزنطيين. وكانت الجيوش الإسلامية وصلت إلى بوابة طرابلس في عام 647م، ولكنها انسحبت وتراجعت، وعاودت الكرّة في عام 662م فهزموا الجيش البيزنطي في سوسة واستولوا على تريبوليتانيا وفزّان وغدامس، وبهذا ماتت المسيحية في شمال أفريقيا".

وأيضاً: "أمّا البربر فقد قاوموا الفاتحين الجدد بقيادة ملكتهم الجبلّية الشجاعة الكاهنة "ديهيا" ولكنهم لم يفلحوا فاستكانوا واتبعوا الدين الجديد ولغته وعادات أهله. تحوّلت بعد ذلك طرابلس وأصبحت عشّاً لقراصنة البحر الذين أصبحوا خطراً على الملاحة في البحر الأبيض المتوسط. وفي عام 1146م انتزع ملك صقلية روجر البلاد من العرب، ولكن لم يدم ذلك سوى لسبع سنوات فقط. وفي سنة 1510م استولى عليها الإسبان بقيادة دون بيدرو من نافار، وقام الإسبان بنفي كلّ المسلمين خارج مدينة طرابلس، إلا أنّ تشارلز الخامس سمح لهم بالعودة. وفي عام 1530م سُلّمت طرابلس لفرسان مالطا الذين حكموها حتى عام 1551م عندما أخرجهم منها الأدميرال سنان باشا".

ومن هنا هبّت هذه العاصفة الساخنة لتقتل المسيحية في شمال أفريقيا، ودخل بشوات الدولة العثمانية في تفاصيل المشهد الليبي دينياً واجتماعياً وسياسياً، قبل أن ينعش الوجود الإيطالي النفس المسيحي في ليبيا من جديد.

لكن هل ارتبط الوجود المسيحي في ليبيا بالتواريخ المدوّنة أعلاه، أم أنه أقدم بكثير من ذلك؟

كنيسة مار مرقس المعلّقة

تشير بعض المصادر التاريخية، ومنها مؤلفات الكاتب القوريني داوود حلاق، إلى أنّ الوجود المسيحي في ليبيا كان مبكراً جداً، بخاصة في إقليم سيرينايكا المعروف بوجود كنائس وأديرة عديدة منذ القرن الأول الميلادي، والمبشّرين القادمين من الإسكندرية ومنهم مرقس الرسول، والذي قال البعض إنه وُلد في قورينا الليبية.

ومن أشهر الأماكن التي تدعم هذه الفرضيات "كنيسة مار مرقس المعلّقة" الواقعة بين الأثرون ورأس الهلال غرب درنة. لا يُعتبر هذا المكان كنيسة تقليدية بحسب معايير العمارة الدينية، لكنه دهاليز صغيرة منحوتة في الصخر، مداخلها على شكل أقواس، وهي سمة بارزة في معمار العصر البيزنطي. وكانت هذه الحفر ملاجئ ودور عبادة للرهبان وللمسيحيين الفارّين من الاضطهاد.

وبالعودة إلى كلام الألماني هانس فيشر، فإن الوجود المسيحي عاد بقوة في فترات مختلفة من تاريخ ليبيا، وهذا يعني وجود عدد من دور العبادة التي كرّست هذا الحضور الديني.

في بعض الكنائس الليبية المنسيّة، يبدو المكان كأنه يحتفظ بأنفاس آخر مَن صلّى فيه... المقاعد الخشبية تنتظر خطوات لن تعود، والضوء المتسرّب من النوافذ العالية يهبط على الجدران مثل يد تربّت على ذاكرة بعيدة

من العاصمة طرابلس وكنيسة السيدة مريم التي أُعيد افتتاحها بعد الصيانة والترميم في نيسان/ أبريل من العام 2021م، لتظلّ قائمة تحرس فكرة الوجود الديني للآخر المختلف مهما كانت صفة وجوده: غازياً أو مهاجراً أو مقيماً دائماً. فقد قدّمت له طرابلس وطناً من دون أن تطلب منه التنازل عن انتمائه الديني والعقائدي. حتى أنّ الرحّالة الإسباني باديا ليبليخ، الذي زار طرابلس متنكّراً في هيئة أمير تركي سنة 1793م، قال عنها:

"طرابلس بدون أدنى شك أجمل مدينة في المغرب العربي. فهي تقع على شاطئ البحر وبها شوارع واسعة، والهندسة المعمارية لمنازلها أقرب إلى الأوروبية منها إلى العربية، ومداخلها على النمط التوسكاني... السكان يتحدثون عدّة لغات أوروبية، حتى الباشا يتحدث الإيطالية. أحوالهم الاجتماعية تتسم بالحرية وعدم التقييد. المارقون الأوروبيون يجدون الفرصة هنا ويرتقون إلى أعلى المناصب. قائد الأسطول البحري الليبي رجل إنجليزي المولد ومتزوج من إحدى قريبات الباشا".

ولنا أن نتخيّل حال حرية الاعتقاد في ظلّ مثل هذه الظروف المنفتحة على الآخر لأبعد حد.

في العام 2024م بدأ جهاز إدارة المدينة القديمة في طرابلس مشروع تأهيل وصيانة مبنى الدير القديم الواقع بميدان السيدة مريم في المدينة القديمة، والذي يُرجّح بحسب ما ورد في صفحة الإدارة بفيسبوك أن يكون من أوائل مقارّ الإرساليات المسيحية في طرابلس منذ أواسط القرن السادس عشر.

كنائس الجبل الأخضر

إلى شرق ليبيا وكنائس بنغازي القريبة من الجبل الأخضر، مهد الوجود المسيحي في ليبيا. في بنغازي كانت توجد الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة اليونانية والكنيسة القبطية وعدد من الكنائس الأخرى الصغيرة التي أقيمت في عهد الاحتلال الإيطالي. وعن ذلك يقول الدكتور سعدي إبراهيم الدراجي من جامعة بغداد في بحثه "أضواء على كنائس بنغازي العتيقة":

"قد لا يجد الباحث في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية صعوبة كبيرة بشأن الوقوف على بدايات تأسيسها لأن وثائق البعثة التبشيرية، التي خلصت إلينا ملخّصة في الحوليات البرقاوية بجهود الأب فرانشيسكو روفيري، تشير بوضوح إلى ذلك. ففي السادس من حزيران/ يونيو عام 1818م افتُتحت أول كنيسة في بنغازي، كُرّست لأول أسقف مسيحي كان في قورينا عند بدايات الدعوة المسيحية، وهو القديس لوقيوس".

الكنائس في ليبيا قد لا تُصنّف على أنها الأجمل في العالم، لكن ظروف نشأتها أكسبتها أهمية مضاعفة: عندما كانت مغارات الأثرون ملجأ للمؤمنين المضطهدين وخلوة للرهبان العابدين.

وبحسب "الدراجي"، فإن المحاولات بعد ذلك فشلت في بناء كنيسة مستقلة في بنغازي، رغم أنّ "فكرة عودة المسيحية إلى برقة، حيث قورينا وماضيها العتيد، كانت تداعب مخيلة رجال الكنيسة والملوك والناس في أوروبا... لهذا نجد إمبراطور النمسا يتبرّع من ماله الخاص بـ400 ليرة ذهبية، وملك الصقليتين يسمح في بلاده للرهبان بجمع التبرعات من الناس للمساهمة في تكاليف البناء. وكذلك تأتي التبرعات من باريس وليون، وبابا الفاتيكان بيوس يتبرّع بالأخشاب وقد نُقلت إلى بنغازي على ظهر سفينة كانت ترفع علم البابوية وهي قادمة من أنكونيا الإيطالية".

وقد استغرق بناء الكنيسة سنوات طويلة امتدّت بين عامي 1857م حتى 1872م. وينقل "الدراجي" تفسير ذلك عن الرحّالة الألماني غيرهارد رولفس، الذي تزامنت زيارته إلى بنغازي مع فترة البناء. وقال إن الكنيسة بُنيت على طريقة بناء الأديرة بيد الرهبان فقط، ولا يُستعان بالعمال العرب إلا في الأعمال الشاقة التي يتعذّر على الرهبان تنفيذها. الكنيسة التي تُسمّى أيضاً "مريم الطاهرة" أو "دار مريم" تعرّضت لأحداث كثيرة، منها وضع عبوة متفجّرة قرب بابها الرئيسي عام 2013، ورغم ذلك لا تزال صامدة وتؤدي بعضاً من دورها.

كاتدرائية بنغازي وكنيسة "تغرنَّة"

في المدينة أيضاً "كاتدرائية بنغازي"، التي وُضع حجر أساسها في العام 1929م وافتُتحت رسمياً أواخر العام 1939م. كانت تعتبر أكبر كاتدرائيات شمال أفريقيا مساحة، وتتميّز بقبّتيها النحاسيتين وأعمدتها الضخمة، ومن تصميم المهندسين الإيطاليين أوتافيو كابياتي وغويدو فيرازا.

تعرّض مبنى الكاتدرائية لمتغيرات كثيرة عبر الزمن، من ذلك تضرّره في قصفٍ للطيران الإنجليزي في الحرب العالمية الثانية، واتخاذه في سبعينيات القرن الماضي مقراً للاتحاد الاشتراكي العربي. وعلى كلّ حال لم يبقَ من كلّ هذا التاريخ الكنسي في بنغازي إلا لافتة غير رسمية تتدلّى على جدار الكاتدرائية العتيق كُتب عليها "مسجد الإمام مالك بن أنس". لكن بلدية بنغازي نفت هذه الشائعات وأكدت أن المبنى إرث تاريخي وهو قيد الترميم.

إلى الجبل الغربي، جبل نفوسة، وكنيسة "تغرنَّة" في مدينة غريان، وهي كنيسة كاثوليكية بناها الإيطاليون في ثلاثينيات القرن الماضي على موقع مرتفع نسبياً تحيط به البيوت وتطوّقه المرتفعات التي تظهر في الأفق. وهي أيضاً لم تعد سيرتها الأولى، فتحولت من كنيسة صغيرة مخصّصة للمستوطنين في جبل غريان إلى شاهد معماري على حقبة زمنية مرّت على غريان والبلاد، ببناء انهار سقفه القرميدي لكنه ما زال صامداً بجلال يتماهى مع المكان.

لطالما كانت الكنائس ـ حين سُمح لها بالبقاء ـ دليلاً على نسق اجتماعي ليبي أكثر تسامحاً مما يبدو في السياسة. ففي طرابلس القرن الثامن عشر، كانت اللغات تختلط في الأسواق، والمهاجرون يجدون مكاناً لهم، والكنائس قائمة بلا خوف من الصدام

نعود إلى إقليم قورينائية/ برقة، حيث كانت خطوات مرقس المباركة والمرحلة المفصلية في تاريخ الكنائس في شرق ليبيا كلّه، والبرنامج الواسع لبناء وترميم الكنائس والأديرة ذات الطابع الأرثوذكسي الذي قاده الإمبراطور البيزنطي جوستنيان الأول، كما قال المؤرخ البيزنطي بروكوبيوس القيصري. وقد أكد أيضاً أنّ بعض هذه الكنائس أقيم في أماكن ومواقع وعرة ساحلية لحماية الرهبان والمؤمنين، وهذا ما ينطبق على كنيسة مار مرقس في الأثرون.

كنيسة القديس فرنسيس الأسيزي

أمّا في مدينة درنة، فإن البناء الذي صمد طويلاً في فترات حرب وتطرف وأحداث سياسية وطبيعية قاسية مرّت على المدينة، هو الكنيسة الكاثوليكية أو كنيسة القديس فرنسيس الأسيزي، التي بُنيت زمن الاستعمار الإيطالي داخل التكوين العمراني القديم للمدينة. هذا البناء، بواجهته البسيطة والنافذة الدائرية التي تتوسط الواجهة، صمد طويلاً وتحول سنة 1997م إلى "بيت درنة الثقافي" الذي لم يتوقف منذ تأسيسه عن كونه سراجاً في عتمة الفكر، حتى جاء إعصار دانيال أواخر 2023م ليبثّ الخراب في درنة كلها ويمرّ أيضاً من هناك.

الكنائس في ليبيا قد لا تُصنّف على أنها الأجمل في العالم ولا حتى في المنطقة العربية، لكن ظروف نشأتها أكسبتها أهمية مضاعفة: عندما كانت مغارات الأثرون ملجأ للمؤمنين المضطهدين وخلوة للرهبان العابدين وهي ترتسم بين الأرض والسماء، وعندما تصمد هذه الكنائس في وجه أوامر الإزالة ورياح التطرف فإنها تصبح أجمل. فهي لم تُشكّل يوماً أي خطر على عقيدة أهل البلاد.

من كاتدرائية بنغازي إلى كنيسة القديس فرنسيس في درنة، صمدت الكنائس أمام القصف والتخريب، لتتحوّل إلى ذاكرة معمارية تقاوم الزمن.

يقول الكاتب محمد أبو خريص: "كنا ذات يوم نقضي أمسية رائعة في بيت درنة الثقافي، وهو مبنى فخم كان عبارة عن كنيسة بُنيت في ثلاثينات القرن الماضي وقد أُعيدت صيانتها بشكل حرفي كما أنها نجت من الحرب وظلت كما هي. في تلك الأمسية دار الحديث عن دور الكنيسة في محاولة تنصير بعض الليبيين، فذكر أحد العارفين بأنه طوال تاريخ المدينة لم يأتِ سوى شاب واحد مشاغب للكاهن وأعرب عن رغبته في التنصّر، فما كان من الكاهن إلا أن طرده معلّلاً ذلك بأن دخول أيّ مسلم للنصرانية سيفتح على الكنيسة أبواب العداوة مع المحليين، وهذا ما لا تسعى إليه".

في ليبيا لم تعد قرارات الهدم وقبضات التخريب حكراً على الكنائس ودور العبادة لغير المسلمين، بل امتدّت أيضاً لتطال أضرحة ومقامات لأولياء وشيوخ، محسوب بعضهم على الصوفيين وغيرهم ممن ارتبطت بهم عقيدة بعض الليبيين "المسلمين" بطبيعة الحال.

وحتى كثرة المساجد في ليبيا لم تشفع للكنائس لتحافظ على الثراء المعماري والحضاري للمكان. رغم أن الليبي، الذي يدعم بقوة تحويل كنيسة إلى جامع، سيحتج ويغضب ويثور وسط زوبعة من حقوق الإنسان والحريات إذا قامت مدينة أوروبية بتحويل مسجد إلى كنيسة.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image