مع كل فيلم جديد تقدّمه آن ماري جاسر، تبدو وكأنها تنفض عن الذاكرة الفلسطينية طبقة أخرى من الغبار، لتكشف خلفها حكايات كان يجب أن تُقال بصوت أعلى.
فيلمها الأخير "فلسطين 36" الذي رشحته فلسطين ليمثلها في الأوسكار، وهو من بطولة هيام عباس، صالح بكري، ظافر العابدين، كامل الباشا، ياسمين المصري، يمنى مروان، بيلي هاول وغيرهم، ليس مجرد رحلة تعود إلى حقبة الانتداب البريطاني، بل هو نافذة يرى من خلالها الفلسطيني المعاصر صورته المكرّرة، وكأن السنوات لم تكن سوى دائرة تدور حول الجرح ذاته.
تدور أحداث الفيلم في قلب الانتداب البريطاني، حيث يعيش الفلسطينيون حياة يومية مليئة بالصراع بين البقاء والحفاظ على الأرض، وبين الضغوط السياسية والاجتماعية المتنامية. وتركّز القصة على عائلة فلسطينية عادية، نتابع الفلاح الذي يسعى لحماية أرضه وأهله، والأم التي تحمل ذاكرة العائلة وتحافظ على تماسكها، والشاب الذي يواجه صراع الانتماء بين الثورة ورغبة الحياة الطبيعية.
في الوقت نفسه، يظهر التوتر المتزايد مع الوجود البريطاني، سواء عبر الشخصيات الرسمية أو الجنود، ما يعكس التداخل بين القيم الإنسانية اليومية وصراع السلطة.
من خلال هذه الحبكة يعكس الفيلم واقعاً اجتماعياً وسياسياً ممتدًا، ويحوّل الأحداث التاريخية إلى تجربة حية يشعر بها المشاهد على المستوى الشخصي.
جاسر، التي اعتدنا منها حساً إنسانياً يعرف كيف يلتقط التفاصيل الصغيرة، تذهب هنا إلى مساحة أكثر اتساعاً؛ مساحة تتجاور فيها السياسة مع الحميمي، والذاكرة مع الوجع الشخصي.
بين القرى التي كانت تنبض بطبيعتها البسيطة، والمدن التي كانت تتشكل تحت ضغط الاستعمار والهجرة المتسارعة، يطل الفيلم وكأنه وثيقة بصرية تعيد لتلك السنوات حقها الضائع: لا بوصفها فصلاً في كتاب التاريخ، بل لحظة تأسيس للألم الذي ما زال يتجدد حتى الآن.

المكان كاستعادة للذاكرة
اعتمدت جاسر على لغة بصرية تتحرّك في البداية ببطء محسوب، وكأنها تطلب من المشاهد أن يتعرّف إلى المكان كما يتعرّف إلى صديق قديم: الحقول الممتدة، القرى الحجرية، الأسواق التي كانت تنبض بالحياة قبل أن تتكسر.
فيلم "فلسطين 36" ليس مجرد عودة إلى حقبة الانتداب البريطاني، بل نافذة يرى الفلسطيني المعاصر من خلالها صورته المكرّرة، وكأن السنوات لم تكن سوى دائرة تدور حول الجرح ذاته، حيث يمدّ الماضي يده للحاضر بلا انقطاع
هذه التفاصيل لا تعمل كديكور، بل كذاكرة كانت تنتظر مَن يعيد إليها صوتها. الصورة ذات التدرجات الترابية والخضراء الباهتة تحاكي أرشيف الثلاثينيات، وتشحن المشاهد بإحساس حنين لا يخلو من الفقد، وتذكّره بأن فلسطين كانت يوماً مكاناً طبيعياً… قبل أن يتحول المكان نفسه إلى موضوع صراع.
في حضرة الضوء الذي يشهد على التحوّل من خلال الإضاءة الطبيعية التي تحكم معظم المشاهد، خصوصاً في لحظات الفجر والغروب. هذا الضوء الهش، الذي لا يستقر طويلاً، يتحوّل إلى استعارة بصرية للزمن الذي كان يتغيّر آنذاك، زمن ينزلق نحو العتمة السياسية بينما تحاول الحياة التمسك ببعض وهجها من خلال الكاميرا التي تلاحق حركة يد تزرع بذرة، أو دمعة تُمسح بسرعة قبل أن تُفضح. المشهد لا يستعرض التاريخ، بل يلمسه.
ويتعزز كل هذا بموسيقى يكون الصمت من خلالها جزءاً من السرد بحيث تكاد تكون همساً، وهذا الخيار يفسح المجال للصوت الطبيعي الذي يؤدي دوراً سردياً كاملاً: وقع الأقدام على التراب، خوار المواشي، صفير الريح بين الحقول، والقطار البريطاني الذي لا يمرّ كوسيلة نقل فقط، بل كإعلان مستمر عن وجود استعماري يفرض إيقاعه على المكان.
وحين تدخل الموسيقى، فإنها تأتي بنبرة حزينة خافتة، كأنها صدى طويل لجرح لم يلتئم.
ويظهر هذا في المونتاج والإيقاع التدرّج الذي يوازي احتقان اللحظة، فالإيقاع البطيء في البداية يمنح المشاهد فرصة للغوص في المكان، ثم يبدأ بالتسارع مع تصاعد الأحداث السياسية. المونتاج يحافظ على توازن دقيق بين المشاهد الجماعية التي ترسم صورة المرحلة، والمشاهد الحميمية التي تعيدنا إلى الجانب الإنساني الذي يتعرض للتهشيم.

بناء الشخصيات عمق بعيد من الرمزية السطحية
اللافت في الفيلم أن شخصياته لم تُكتب كرموز سياسية، بل كأشخاص حقيقيين الفلاح ليس "بطلاً" بالمعنى التقليدي، بل رجل يحاول حماية أرضه وأطفاله والأم ليست مجرد ضحية، بل ذاكرة تمشي على قدمين، تحفظ للعائلة روايات تحميها من اليأس في حضرة الشاب الممزق بين الثورة وحلم حياة مستقرة يشبه جيلاً كاملاً عاش ذلك التمزق… وما زال يعيش مثله اليوم.
هذا العمق يمنح الفيلم صدقه الإنساني، ويجعل المشاهد يقترب من الشخصيات دون الحاجة لمعرفة التاريخ مسبقاً.
الصورة الترابية الخافتة تحاكي أرشيف الثلاثينيات، وتشحن المشاهد بحنين ممزوج بالفقد، وكأن فلسطين تُستعاد عبر الضوء قبل الكلمات.
هيام عباس في دور حنان، الأم الحافظة لذاكرة العائلة، بحضور هادئ ومشحون بالعاطفة المكبوتة، وكأن كل صمت لها يحمل رسالة أعمق من الكلمات. وكامل الباشا في شخصية أبو رباب يجسد الرجل الذي يسعى لحماية أرضه وأهله، بطريقة صادقة وبسيطة، بعيداً من الصخب أو البطولات التقليدية هما أساس كل الحكايات التي قيلت وما زالت تقال .

لماذا يبدو الفيلم مهماً الآن؟
تكمن قيمة "فلسطين 36" اليوم في أنه لا يستعيد الماضي ليؤرّخه، بل ليكشف مدى استمراريته. فمن يشاهد الفيلم وهو يرى ما يحدث في غزة والضفة، يدرك أن البنية الاستعمارية تغيّر أشكالها فقط، لكنها لا تتبدّل في جوهرها.
تكمن قيمة فلسطين 36 في أنه لا يستعيد الماضي ليؤرّخه، بل ليكشف استمراريته. فمشاهد الفيلم، في ظل ما يحدث في غزة والضفة، تبدو امتداداً لجرح واحد. السينما هنا تتحول إلى جسر يصل بين ثورة 1936 ودم اللحظة الراهنة
يأتي الفيلم كصوت يقول: نحن لسنا أبناء اللحظة وحدها، نحن امتداد حكاية بدأت قبل قرن، وما زالت تُكتب تحت النار والحصار.
إن مشاهدة الفيلم اليوم ليست فعلاً ثقافياً فقط، بل موقفاً أخلاقياً، لأن السينما هنا تتحول إلى جسر يصل بين الثورة الكبرى عام 1936 ودم اللحظة الراهنة في غزة، بين زمنين يرفض أحدهما أن يُنسى، ويرفض الآخر أن يُمحى.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



