بعد المعارك العنيفة التي قادها داعش، وسيطر فيها على مدينة الموصل العراقية عام 2014، وصعود البغدادي، زعيم التنظيم، منبر مسجد النوري الكبير فيها، وإعلانه قيام دولة الخلافة في العراق والشام، وتعيين نفسه خليفةً على المسلمين، شعرت غالبية الأنظمة العربية بأنّ الموضوع لم يعد مزحةً، وأنّ الخطر قائم فعلاً ويمكن أن يصلها.
هذا الخطر القائم كان لا بد من مواجهته بخطوات استباقية، ولو أنها متأخرة بعض الشيء، أو متأخرة أكثر من اللازم إن شئنا الدقة، فارتفع التأهب الأمني في كثير من هذه الانظمة، وازداد التنسيق بين أجهزتها الأمنية، وبينها وبين القوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية العاملة في المنطقة.
نستطيع القول إنّ الدول، انطلاقاً من تعريفها لنفسها وتعريف ماكس فيبر لها، هي الجهة المحتكرة للعنف، وقد لا ترى في داعش وإخوته إلا جهات مزاحمة لها على هذا الاحتكار، وتالياً فالعلاج من وجهة نظرها يبدأ من استرداد هذا العنف إلى حظيرتها، والقضاء على كل طرف يعتقد نفسه شريكاً أو مزاحماً أو بديلاً.
الأمن أهم من الحرية
في هذه الحالة، فإنّ النظرة الأمنية تتصدر المشهد، ويصبح أمن المجتمع أهم من حريته، أو بلغة أخرى: يتم بيع المجتمع هذه المفاضلة، وعليه أن يشتريها سواء أعجبته أو لا.
الأنظمة السياسية كانت أجبن من أن تعلن حظراً شاملاً للأحزاب والتشكيلات المنضوية تحت راية الإسلام السياسي، وبدلاً من ذلك استخدمت سطوتها ضد المجتمع نفسه وضد حرياته. فلماذا لم تقُم بذلك؟
المجتمع هذا غير متجانس، ولا يمكننا عدّه كتلةً واحدةً من الموافقة أو الرفض، أي ليس على رأي واحد من داعش ولا من طريقة مواجهته، بل ينقسم إلى ثلاث مجموعات أو فئات، دون أن ندخل في تقييم أي من هذه المجموعات تشكّل الأغلبية السكانية أو لها اليد العليا في فرض رؤيتها، بل نترك ذلك للقارئ وتقييمه.
المنقذ من الدولة
المجموعة الأولى من المجتمع هي الحاضنة الشعبية لداعش وإخوته، أي أولئك الناس الذين يرون في الإسلام السياسي وتفرعاته منقذاً لهم من فساد الدولة أو عدم كفاءتها أو بطشها، أو يرون فيه طريقاً نحو الخاتمة المبتغاة والفردوس الإلهي الموعود، أو هم تربّوا ونشأوا في بيئة دينية متموضعة قيمياً وفكرياً على الجهة المقابلة لمؤسسة الدولة "العلمانية"، وتالياً فإن خياراتهم الحياتية محدودة وتغرف من سلّة نشأتهم نفسها.
نحن بخير لولا الغرب
المجموعة الثانية هي "حزب الكنبة"، إن جاز التعبير، أي أولئك الذين ليس لهم رأي حاسم لا في هذا الطرف ولا ذاك. هؤلاء يبغون السلامة الشخصية وأمن العائلة والدخل، وهم عادةً يعتقدون أنّ واحدةً من وظائف الدولة هي حماية الدين وتطبيقه بالطريقة المثلى التي تحقق مصالحهم الجمعية والفردية.
هذه الفئة عادةً متسامحة أو يغلب عليها ذلك، فلو قصّرت الدولة في وظيفة الصحة فإنها، والحمد لله، قائمة بوظيفة الأمن على أكمل وجه. وإن قصّرت في وظيفة الأمن فذلك لأنّ الأعداء كثر والمتربصين بالوطن أكثر. في هذه الفئة تلحظ دون جهد استخدام كلمتَي "لو" و"لولا". فلو كان داعش أقل إجراماً ربما تم قبول برنامجه. لو اهتمت الدولة أكثر ببناء المساجد ومؤسسات تحفيظ القرآن لما وصلنا إلى هذه الفوضى. نحن بخير لولا الغرب وتآمره على بلادنا. الإسلام دين يُسر ولو كان هذا الشيخ أقل تزمّتاً لانتخبته رئيساً للبلاد.
فئة المتعلّمين لا تمتلك برنامجاً حقيقياً للنهوض بالمجتمع، ولا لإصلاح أخطاء السلطة السياسية، وإن كان لديها فهو لا يتعدى ردة الفعل لا الفعل نفسه. هي تعتاش على أخطاء الغير لا على صوابها.
في المحصلة، هذه الفئة لا تختلف كثيراً عن الفئة الأولى في ما يخص المنظومة الفكرية التي تقوم عليها مؤسسة الحكم، بل إنّ الخلاف يتعلق بالتطبيق والأدوات لا أكثر. أي أنّ التنظير للدولة، إن استطعنا تسمية هذه الآراء تنظيراً، مشتقّ أساساً من التنظير للدين. فالشريعة جزء من الحكم وهذا محسوم، لكن الخلاف على التفسير لا على المحتوى.
"اللي شافوا الدنيا"
الفئة الثالثة هي فئة المتعلّمين، أو "اللي شافوا الدنيا"، وتضمّ شرائح صغيرةً لكنها كثيرة؛ شريحة المثقفين، شريحة الملحدين، شريحة الذين استطاعوا الحصول على تمويلات خارجية وبنوا مؤسسات مدنيةً واحتكروا مصطلح "المجتمع المدني" وتشبثوا به، شريحة "أنا مش إخوان بس بحترمهم"، شريحة بقايا اليسار أو اليسار المتبقّي، شريحة الليبراليين، شريحة المعجبين بالنموذج الصيني أو الروسي أو التايلندي، شريحة أتباع "المفكر العربي" يسار قطر، وشريحة مشجعي فنزويلا… وهكذا.
صحيح أنّ هذه الشرائح ليست متماهيةً تماماً في مواقفها من القضايا السياسية والاجتماعية، إلا أننا نستطيع تمييز ما يجمعها وهو كثير. هذه الفئة تقف في المنتصف بين نموذج السلطة السياسية ونموذج الإسلام السياسي، وهي لا تعلن موقفاً حادّاً من نموذج إلا بالمقارنة مع النموذج الثاني أو على الأقل بذكره، وغالباً ما يتم ذلك باستخدام كلمة "لكن". فحماس، برأيها، أوصلتنا إلى الكارثة، هذا صحيح. لكن السلطة ليست أفضل. نتفق على أنّ الجولاني يرتكب مجازر بحق الأقليات ونحن ندين ذلك، لكن هل تريد منا العودة إلى نظام الأسد؟ وقِس على ذلك.
يغلب على هذه الفئة أنها طهرانية ولا تريد أن تلوّث يديها في مستنقع السياسة، فهي تعترض لكنها لا تقدّم حلولاً لما تعترض عليه، وكأنّ برنامجها السياسي قائم على مبدأ اللاإعجاب، أو إن شئنا أن نبالغ في إنصافها فيمكننا القول إنها ليست معارضةً إلا بمقدار رفضها للحالة العينية التي تناقشها أو تقوم بتشخيصها، وكأنها خُلقت للتشخيص لا غير.
تخيّل أن تذهب إلى عيادة طبيب وأنت تشكو من ألم في الخاصرة، لا تستطيع بسببه النوم ولا العمل، وأن تدفع الكشفية وتتمدد على سرير الفحص، ويسألك الطبيب أسئلةً عدة ثم يتفحّص بطنك بيديه الناعمتين المخصصتين للفحص، ويبشّرك بأنك تعاني من حصوة في الكِلى. وحين تسأله: ما العمل يا دكتور؟ يبدأ بتعداد الأسباب التي أوصلتك إلى هذه الحالة. ثم تكرر السؤال مرةً واثنتين وثلاثاً لكنك لا تحصل على إجابة، فمهمته تنحصر في تعريفك بمعاناتك. أما العلاج، ففي عيادة أخرى، ولا يكلّف نفسه حتى بأن يدلّك عليها.
هذه الفئة لا تمتلك برنامجاً حقيقياً للنهوض بالمجتمع، ولا لإصلاح أخطاء السلطة السياسية، وإن كان لديها فهو لا يتعدى ردة الفعل لا الفعل. هي تعتاش على أخطاء الغير لا على صوابها، وتمارس تنظيرها انطلاقاً من مرض "زبائنها" لا من الرغبة في دوام صحّتهم. ويستطيع أي شخص أن يفكّر قليلاً ويسأل نفسه: أين كان هؤلاء المحللون كلهم الذين يحتلّون شاشات القنوات الفضائية قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر مثلاً؟ أين كان قادة المجتمع المدني؟ وما الذي قدّموه؟
الشرعية المهددة
للإجابة عن السؤال الأخير، سأعود إلى سنوات نهوض داعش والحلول الأمنيّة التي فرضتها الدول المهددة، وكيف كانت ردة فعل بعض مؤسسات المجتمع المدني ورؤيتها لعلاج ظاهرة داعش أو إبعاد خطره، وكيف تعاملت مع التشديد الأمني المفروض من قِبل الأنظمة.
أولئك الذين يرون في الإسلام السياسي وتفرّعاته منقذاً لهم من فساد الدولة أو بطشها، أو يرون فيه طريقاً نحو الخاتمة المبتغاة والفردوس الإلهي الموعود، أو تربّوا ونشأوا في بيئة دينية، خياراتهم الحياتية محدودة. لماذا؟
لا بد من القول أولاً، إنّ الأنظمة السياسية كانت أجبن من أن تعلن حظراً شاملاً للأحزاب والتشكيلات المنضوية تحت راية الإسلام السياسي، أي الأحزاب الدينية، وبدلاً من ذلك استخدمت سطوتها ضد المجتمع نفسه وضد حرياته. لماذا لم تقم بذلك؟ لأنّ شرعيتها ستصبح مهددةً أكثر مما هي عليه. لذلك فهي تقوم بمنافسة هذه التنظيمات داخل الحقل الديني، ردّاً على منافسة التنظيمات لها داخل حقل احتكار القوة.
في خضم هذه الثنائية وتشابكاتها، كانت منظمات المجتمع المدني، المسنودة من النخب المثقفة والشرائح التي ذكرناها سابقاً، تقوم بابتداع تصورات لا تمتّ إلى المشكلة بصلة، أو هي تشخيصات على السطح لا أكثر، من قبيل أن نقص الملاعب الرياضية، ونقص صالات البلياردو للجيل الشاب، وبرامج تمكين المرأة ورعاية الطفل، ونقص المسابح والحدائق العامة، هي السبب في ذهاب الشباب إلى داعش، أو تمكّن الإسلام السياسي من الاستفراد بهم.
وكأنّ الشاب ( وهنا أقتبس من أحد الأصدقاء جملةً في غاية الذكاء)، حين يقرر الذهاب ليقاتل مع داعش يفعل ذلك "لأنّ المسابح لدى داعش أنظف وأوسع ونساءهم أكثر تمكيناً".
الخلاصة أن الدولة لا تقوم بمسؤولياتها في إقرار مناهج حديثة، ولا في واجبها تجاه حياة سياسية ديمقراطية، ولا في الدفاع عن تعريفها العلماني، ولا في مهمتها في سنّ قوانين ومراقبة تطبيقها، ولا في حقها في احتكار القوة.
والمعارضة ترى ذلك كله وتنتقده، لكنها لا تريد إصلاحه، لأنّ إصلاحه ينفي مبرر وجودها، فانتقاده وعدم الإعجاب به أسهل وأسلم للرأس، وهو يزيد من عدد المريدين المغفلين. أما من المستفيد من كل هذا الترهل؟ فهي أحزاب وفصائل الإسلام السياسي، والتي عادةً ما تأخذ الطرفين إلى الكارثة. وهذا ادعاء لم يعد بحاجة إلى تحليل، بل إلى ضربة على رأس من لا يستطيع الرؤية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



