كيف تغيب

كيف تغيب "الرؤية الشاملة" في قانون إعادة الإعمار في لبنان؟

سياسة نحن والحقوق الأساسية

الجمعة 19 ديسمبر 20259 دقائق للقراءة

بعد مرور نحو 6 أشهر على إقرار مجلس النواب في يونيو/ حزيران 2025، القانون رقم 22 لسنة 2025، والمتعلّق بـ""منح المتضررين من الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان بعض الإعفاءات من الضرائب والرسوم وتعليق المهل المتعلّقة بالحقوق والواجبات الضريبية ومعالجة أوضاع وحدات العقارات أو أقسامها المهدمة"، ومرور أكثر من عام على انتهاء الحرب الإسرائيلية الموسعة على لبنان، لم تسلك مسألة إعادة الإعمار طريقها للتنفيذ لأسباب عدّة من استمرار الاعتداءات الإسرائيلية إلى غياب التمويل اللازم.

ووفقاً للدولية للمعلومات، فإن حصيلة الوحدات السكنية المُدمرة كلياً، منذ 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ولغاية وقف إطلاق النار في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، بلغت 53 ألف وحدة سكنية في حين سُجل دمار جزئي في نحو 317 ألف وحدة سكنية. وهذا الرقم غير نهائي إذ إن الاستهدافات الإسرائيلية لا تزال مُستمرة وإن بوتيرة منخفضة مقارنةً بتلك الفترة.

قانون منقوص... غياب تام لرؤية التعافي الاقتصادي والاجتماعي، وتجاهل معايير الدمج وحماية التراث في قانون إعادة الإعمار في لبنان عقب ستة أشهر على إقراره، والحل يتطلّب خطة شاملة تتجاوز التعويض المادي لتضمن استعادة سبل العيش

انطلاقاً من ذلك، قدّر البنك الدوليّ، في تقرير بعنوان "التقييم السريع للأضرار والاحتياجات في لبنان"، شمل فترة الحرب من تشرين الأوّل 2023 حتى آذار/ مارس 2025، احتياجات التعافي وإعادة الإعمار بنحو 11 مليار دولار. وأشار إلى أنه من حيث الأضرار، يُعد قطاع الإسكان الأكثر تضرراً حيث بلغت قيمة الأضرار فيه 4.6 مليارات دولار أمريكي (أي ما يعادل 67% من إجمالي الأضرار).

ونالت قرى الشريط الحدودي الحصة الكبرى من الدمار، حيث شهد معظمها دماراً شاملاً لجميع المنازل والمحال والبنى التحتية، خصوصاً خلال مهلة الـ60 يوماً الفاصلة بين وقف إطلاق النار وانسحاب الجيش الإسرائيلي.

شمول الاعتداءات الإسرائيلية اللاحقة

يتضمّن القانون 14 مادة قانونية، ومن اللافت إقراره بصيغة زمنية مفتوحة، فالقانون بصيغته الأولى كان محصوراً بالمناطق التي تضرّرت من العدوان حتى تاريخ وقف إطلاق النار، لكن أدخلت تعديلات عليه تتمثل بإزالة عبارة الحرب الإسرائيلية لتصبح الاعتداءات الإسرائيلية، وذلك حتّى تشمل الإعفاءات أيّ اعتداء لاحق ولا ينحصر في تاريخ وقف إطلاق النار.

مقاربة إعادة إعمار الوحدات السكنية

وتتناول المادة 12 من القانون، تحت عنوان "في معالجة أوضاع وحدات العقارات أو أقسامها المهدمة"، فقرات عدة لمعالجة مسألة الأبنية المدمرة أو المتضرّرة جزئياً أو كلياً من الحرب. وقد صُنفت هذه الأبنية إلى خمس فئات، وقدّمت صيغ مختلفة لمعالجة كل منها.

بالنسبة إلى الفئة الأولى المتمثّلة بالبناء الذي كان مشيداً في ملك صاحبه، فيُرخص إعادة تشييده لإعادته إلى الحالة التي كان عليها وقت البناء الأصلي. أما الفئة الثانية، فتتعلّق بالبناء الذي كان مشيداً في ملك الغير، ولا يُجاز إعادة تشييده إلّا إذا استُحصل على حق البناء من مالك الأرض. وفي حال عدم موافقة الأخير على ذلك، يُعطى صاحب البناء المدمر مساعدة مالية.

وتُشير الفئة الثالثة إلى البناء الذي كان مُعتدياً على الأملاك العمومية (الأملاك العامة)، فلا يُسمح بإعادة بنائه إلا بعد إزالة التعدي. والفئة الرابعة تختص بالبناء الذي كان مشيداً ضمن المناطق الممنوع فيها البناء بشكل مُطلق، مثل المواقع الأثرية أو الذي يؤثر على سلامة الملاحة الجوية أو غيرها، وفي هذه الحالة لا يمكن إعادة البناء ويُعطى صاحبه مساعدة مالية.

وتتعلّق الفئة الأخيرة بالبناء الذي كان مشيداً في أملاك الدولة الخصوصية (مثل أملاك البلديات أو المشاعات)، ويمكن إعادة البناء عليها بعد موافقة مجلس الوزراء والسلطة المختصّة، وكذلك دفع صاحب البناء ثمن الأرض، ومن ثَمَّ إجراء تسوية وضع البناء المخالف. وفي حال عدم توافر هذه الشروط، فلا يمكن إعادة البناء ويُعطى صاحبه مساعدة مالية.

إشكاليات القانون

استناداً إلى ما تقدَّم، يُبرز القانون إشكاليات عدة، ولعلّ من أهمها ما تطرحه الفئة الأخيرة. وفي هذا السياق، تُشير المهندسة المعماريّة والباحثة في "استديو أشغال عامّة"، كريستينا أبو روفايل، في تصريح لرصيف 22، إلى أن هذه الفقرة "تشكّل تهديدًا مباشراً عبر خصخصة الأملاك العامة، وتزيد خطر استغلال الدمار للاستحواذ على المشاعات ما لم تُعتَمَد إجراءات صارمة". وتلفت إلى أنه "من جهة أخرى، يطرح تساؤلات حول مقاربة الدولة للمناطق غير الرسمية، حيث تقيم الفئات الأكثر هشاشة التي لا يمكنها شراء الأراضي، ومصير سكانها وإمكانية ضمان سكن بديل لهم".

ويُبرز القانون إشكاليتين أخريين سبق أن خبرهما اللبنانيون بعد انفجار مرفأ بيروت، الأولى متعلّقة بعدم قدرة المستأجر على الحصول على التراخيص اللازمة لترميم الوحدات السكنية. وفي هذا الصدد، توضح أبو روفايل أن "الحق الحصري في تقديم طلب الترخيص يبقى للمالك وحده (خصوصاً في المباني التي تتطلّب تدعيماً للهيكل)، ما يمنحه السيطرة الكاملة على قرار ترميم المبنى من عدمه، حتى لو رغب القاطنون في الترميم". والإشكالية الثانية تتمثّل في عدم معالجته لخطورة المضاربة العقارية، "وهذا ما يفتح الباب لاستغلال الدمار كفرصة استثمارية على حساب السكان وحاجتهم إلى سكن ميسّر ومستدام. فعلى سبيل المثال، جاء قانون حماية المناطق المتضررة بعد تفجير المرفأ لمنع انتقال الملكية لمدة سنتين ومُددت عقود الإيجار لسنة"، وفق أبو روفايل.

بعدما اصطدم بعجز التمويل وغياب الآليات التنفيذية… هل يبقى قانون إعادة الإعمار اللبناني "حبراً على ورق" أمام هول الدمار الهائل الذي خلّفته الحرب الإسرائيلية على لبنان ولا تزال الاعتداءات والخروقات الإسرائيلية المتكررة تفاقمه؟

فضلاً عما سبق، لم يُقدِّم القانون رؤية واضحة في العديد من المسائل المرتبطة بإعادة الإعمار. ترى أبو روفايل أن "القانون لا يتطرّق إلى ضرورة الالتزام بالمعايير الدامجة المتعلقة باحتياجات الأشخاص ذوي الإعاقة في إعادة الإعمار، كما أنه لم يتضمّن ما يخص المباني ذات القيمة التراثية، لا من حيث الحماية، ولا من حيث إعادة الإعمار وفق معايير تحفظ هويتها المعمارية والعمرانية". وتلفت إلى أنه "لا يوفّر أي ضمانات للسكن البديل أو تعويض إعادة البناء والمدة الزمنية لها، كما يغفل عن ضبط سوق الإيجارات وتأمين السكن الانتقالي العادل".

وعلى مستوى تأمين السلامة العامة، تُشير أبو روفايل إلى أن "القانون لا يوفّر ضمانات كافية للسلامة العامة. فمع أن دور نقابة المهندسين في المصادقة على الإجراءات إيجابي، إلا أنّه يبرز ضرورة إجراء كشف ميداني للتأكد من تنفيذ شروط السلامة وعدم الاكتفاء بإدراجها نظرياً في الرخص، خصوصاً في ظلّ الحاجة إلى البناء السريع".

غياب التمويل

ورغم أهمية هذا القانون - لناحية تكريسه الحق في السكن - إلا أنه يبقى عاجزاً عن تحقيق هذا الهدف ما لم تتمكّن الدولة اللبنانية من تأمين الأموال اللازمة لوضعه موضع التنفيذ. في حديثه إلى رصيف22، يُشير منسق "تجمّع أبناء البلدات الجنوبية الحدودية"، طارق مزرعاني، إلى أن "مسألة إعادة الإعمار مرتبطة بشكل أساسي بالتمويل وبتنفيذ القانون، فالمواطنون لم يهتموا بصدور القانون إذ إنهم يريدون أن يروا أن هناك تعويضات تُدفع لهم". ويلفت إلى أن "المهم هو السرعة في التنفيذ، فالوقت يمر ويُساهم بزيادة المعاناة، وهناك عدد كبير من المنازل التي تحتاج إلى مُجرد ترميم، إلا أن بقاءها في هذه الحالة لمدة طويلة، وفي ظل الدخول في فصل الشتاء فإن ذلك يؤدي إلى المزيد من الأضرار".

ويلفت مزرعاني إلى "ضرورة أن تفصل الدولة ملف الترميم عن إعادة الإعمار إذ إن الترميم يحتاج إلى مساعدة ليست كبيرة من الخارج، خصوصاً الترميم المحدود الذي لا يشمل الهدم الجزئي"، مبرزاً أن "قسماً كبيراً من الوحدات السكنية في المناطق خارج الشريط الحدودي قد جرى ترميمها ولو كان بعضها ليس بشكل كامل، إلا أنه يمكن السكن بها". كما يضيف: "الترميم في بلدات الشريط الحدودي محدود جداً، وذلك بسبب القلق من المستقبل واستمرار الاعتداءات الإسرائيلية، فضلاً عن منع الجيش الإسرائيلي تحرّك آليات تستخدم للإعمار إذ يتم استهدافها، كذلك فإن الإمكانيات المادية للأهالي باتت محدودة إذ إنهم مُهجرون منذ عامين واستنزفوا مدخراتهم".

غياب مقاربة شاملة لإعادة الإعمار

وبصرف النظر عن الإشكاليات التقنية للقانون من ناحية وغياب التمويل من ناحية أخرى، فثمَّة قصور جوهري في هذا القانون مُتمثل في غياب الرؤية الشاملة.

"القانون الحالي يبقى خطوةً جزئيةً غير كافية للانتقال نحو تعافٍ حقيقي ومستدام بعد الحرب من دون اعتماد رؤية شاملة تعطي الأولوية لاستعادة الحياة الاقتصادية والاجتماعية وتحقّق التعافي البيئي والزراعي، وتعتمد نهجاً محلياً لإعادة الإعمار، وتتعاطى مع الأنواع المختلفة من الدمار"

عن هذا، توضح أبو روفايل: "القانون لا يُقدّم مقاربة شاملة لإعادة الإعمار من منظور تعافٍ اجتماعي، واقتصادي وبيئي. فهو يختزل الإعمار في الجانب المادي، ولا ينظر إلى استعادة سبل العيش، والحركة الاقتصادية والبنية الاجتماعية، والشق البيئي". كما تلفت إلى أنه "لا يتطرّق إلى خصوصيات المناطق المتضررة والحاجة إلى رؤية محلية لإعادة البناء تنظر إلى الحيّ أو المنطقة كوحدة متكاملة، ويعتمد مقاربة مركزية لا تنبع بالضرورة من الواقع المحلي".

وهي توضح في الوقت عينه أن القانون "لا يُميّز بين أنواع الدمار، سواء كان ناتجاً من القصف المباشر، أو تدمير البنية التحتية، أو الإبادة البيئية باستخدام الفسفور الأبيض، أو الإبادة المكانية التي تعرّضت لها القرى الحدودية، بما يحدّ من قدرته على الاستجابة الفاعلة".

وتخلص أبو روفايل إلى أن "القانون الحالي يبقى خطوةً جزئيةً غير كافية للانتقال نحو تعافٍ حقيقي ومستدام بعد الحرب من دون اعتماد رؤية شاملة تعطي الأولوية لاستعادة الحياة الاقتصادية والاجتماعية وتحقّق التعافي البيئي والزراعي، وتعتمد نهجاً محلياً لإعادة الإعمار، وتتعاطى مع الأنواع المختلفة من الدمار بالأخصّ الإبادة المكانية التي تعرّضت لها القرى الحدودية، وتمكن السكان من العودة الكريمة والسريعة وتضمن التعويضات العادلة، وتحد من المضاربات العقارية، وترسي أطر مشاركة واسعة في التخطيط والتنظيم والتنسيق والتنفيذ".

*أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع فريدريش إيبرت - مكتب لبنان FES.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image